Skip to main content

Full text of "مذكرات إبراهيم منعم منصور ج 1"

See other formats










هذه المذكرات 
إبراهيم منعم منصور راهيم منعم منصور 





الأستاذ ابراهیم منعم منصور علم من أعلام السودان وله خبرات ونجارب 
۰ متعددة ومتنو عه داخل السودان و خارجه .اضافة الى آنه بنتمی الى واحدة 
من اکبر الاسر التوارثة للادارة الأهلية وهي أسرة منعم منصور ناظر قبیله 
الحمر دذات الثشل الاجتماعي وا لاقتصادي والسباسی بے كردهان . واشتهرت 

قبيلة الحمر بالفروسية وتربية أجود آنواع الواشي 2 السودان. 
ان الدکرات التي کتبها الأستاذ ابراهیم منعم منصور تعکس تنوعا ‏ التجارب 
و2 کل فصل من فصول الذکرات پذکر ما له وما عليه وينتقد نقدا بناء على 
السئوی العام الدي كان مشاركا فيه او مراقبا له وقد استحاب الکانب للد عوات 
ع ييه المشريدن وا لاصدقاء لضرورة كتاية مدکراته لانهم يرون فيها 
بة لحيل کال ساهم 2 النهوض والا خفاق 2 التجرية السودانيه 


مركر لكت عور نشف( للدراسات السودانيه 
جامعة ام درمان الاهليه 


/ 
۰ 3 





978-990947-579 


2 ول با ۶ وام یا Tea‏ 




















کر له ارط أضاء شرت اردان 


آم .م 
المسيرة: مذكرات إبراهيم منعم منصور/إبراهيم منعم منصور.- 
تووم :مرك عون مت يقير للدر اناك ا ا و ۲۳۱۷ 
اهن حن اسك 
ردمك: 978-99942-57-39-3 
.١‏ إبراهيم منعم منصورء ۱۹۳۸ 
۲ الاقتصادیون السودانیون. 





مط الع السورار للم عرو 











مسطور ات 


OOM 0817© ©4173 CO 





۳ 







1 5 لض غ1 8 1ل 1 


- 


ظ الجزء الأول 
| اير ملد حل) 
(دار حمر- من‌هم؟) 


(الادارة الاهلیة) 


~~ 
۰ 


۱ 
۳ 
۳۹ 
2 

۱6۵ 


۱ 


۱ 


۱ 
۱ 
۱ 
۲ 


(بخت الرضا) 


۱۷ 
۱۳۷ 
۱۳۹ 
Vo 
۷۷ 
۱۳ 
۱۵ 

















ارت سور E‏ 









۷ 


الخير لا ينتهي .................... والشكر لن ينتهي 


وبعد أن انتهيت من الكتابة ویدأت مهمة تجميع الأوراق تكرمت شركة (يام 
للاستثمارات - يحيى عبد المجيد وشركاه) باستضافتي شهورا عدة 2 أحد مکاتبها 
تحملت فيا الماء:والكهوياءوالمشرونات وهل اتیی مما فس عنه گر اسان 

ودلفت يتقدمني أخي ودليلي بروفيسور علي محمد الحسن إلى الجامعة السودانية 
الأصلية: جامعة أم درمان الأهلية و9 مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية 
كان لقاؤنا بالبروفيسور المعتصم أحمد الحاج الذي تولى إدارة المركز بعد البروفيسور 
إبراهيم حسن عبد الجليل الذي ظل المرض يلازمه ويتحمله بصبره وابتسامته المعهودة 
فله منا دعاء وكأنما البشاشة والبشر هما الواجهة للمركز فقد استقبلنا العتصم 
ومعاونوه: شبابا وشابات بأكثر مما نحن أهل له من ضيافة» ثم بدأ 2 شرح مفصل 
ودقيق لكيفية إخراج الكتاب من الغلاف والواجهة والترتيب الداخلي والحجم... ثم 
الخطوات الوثائقية ..... واختيار المطبعة .... والإجراءات التي تسبق الطباعة ..... والكثير 
مما ظل يسرده 2 ابتسامة دائمة آذایت رهبة هذه المرحلة من أذهاننا. 

وبعد جلسة وجلسات عشت عظمة هذا الفريق ولم أتعجب للكم البائل 2 العدد 
رال افیف وف اة قفش والإصدارات التي نشرها 4 هدوء 
العلماء. ولعلي آنضم إلى الناقد الحادب على المركز الذي صرخ مطالباً (بالدعاية 
والإعلان» لذا الإنتاج إذ لا يكفي تخصيص ركن له ب4 أحد المكتبات الكبرى 


بالخرطوم. 


اا/ا 


آعود فأتقدم- عن حق- بأكثر من وافر الشكر- ويأكثر من أجل التقدير 
للأخ المعتصم لما قام به نحونا: وهو لا يظل يعتبره قدراً من واجب. 
وشکرا لرجال فرك مطایع السودان للعملة الحدودة ما قدموه من نصائح وما 


قاموا يه من جهد 2 هجیر شهر رمضان العظم. 
[براهیم منعم منصور 


۶ رمضان ۱۶۳۸ 


VII 


مقدمة الأو 

هذه الأوراق التي زادت عن الألف أو كادت وجعلت اسمها (المسيرة) كتبت في 
أوقات مختلفة وفقاً لظروف الصحة واليسر ... والفراغ عندما انتهي من بعض الاعمال التي 
استوجبتها دواعي المعيشة. 

وعليه فإني ألتمس من القاريء الذي يتصفحها أن يقرأ كل جزء في إطاره الزمني - 
وفي وضعه المكاني. وکا ذكرت أن بعض الأجزاء قد لا تبم بعض القراء وقد لا (تفيدهم) 
على عكس ما هو دوماً في (الکتب) ولكنها ذات رسالة لغيرهم قد لاييمهم فيها إلا ما لا يهم 
أولئك. 

في بعض الأحيان تتداخل الأحداث - توقيتاً وتاریخاً - فيسبح تيارها مسافات قبل 
أن يوقفه سد من الواقع فيعود إلى مجراه مرة أخرى وهو أمر قد يكون معيباً في سرد الأحداث 
- وقد تكون فيه درجة بدائية من التشويق - آملاً ألا يؤدي في كلا الحالين أو في أي منهما إلى 
ضجر يتوقف فيه عن القراءة. 

وبالمثل فقد شملت (السیرة) في طياتها على أبواب ليس في العادة من تشتمل عليه 
الذكريات والسير إذا أقحمت ما أسميتها (الإستراحات) تقطع سرد الأحداث خشية الملل أو 
راحة للبعض من متابعة موضوعات ليست بذات الأهمية هم. 
إستراحة الغيبيات: قد يتساءل البعض ما أهميتها - وقد يتعجب آخرون عن مجرد 
إثباتها في سيرة رجل (متعلم) ولا أقول مثقف. إن الأحداث التي قابلتني والأشخاص الذين 
التقيت بهم ى) أوضحت يمثلون (واقعاً) معاشاً في الحياة. قد ننکرهم جدلاً ولكنهم حقيقة 
وعملوا على تشكيل وجدان الكثير من الناس ليس فقط في السودان ونیا في كل الدنیا. وهم 


IX 


موجودون في حياة بعض القيادات السياسية العالمية: في البيت الأبيض وفي الكريملن وفي 
بعض البيوتات الحاكمة في الجزيرة العربية الكبرى رغم المذاهب الدينية التي تستنكرها علا 
وفي الهند وباكستان. غير أني تعرضت فقط لما كان له صلة في حياتي الخاصة - أو في بعض 
النواحي السياسية العامة. 

آما (الفرص الضائعة) فهي أحداث قابلت البلاد أو قابلتني وكنت طرفاً فيها - 
شاهدا أو مشاركاً - وكان من الممكن أن أسردها من خلال (المسيرة) الا آنها وجدت طريقها 
إلى النشر مبكرا في الصحف من قبل أن أفكر في كتابة هذه الذكريات. وقد تمت كتابة كل منها 
حدثاً مستقلاً ولو لم يقنعني المعشر الكرام بأن أكتب (السیرة) لربا تم نشرها في كتاب 
مستقل. غير أنه لسوء حظها وسوء حظ القاريء دخلت في توقيت كتابة المسيرة. 

شملت هذه الصفحات فصلاً صغيراً عن الإدارة الأهلية وهو حديث كان من 
الممكن الاستغناء عنه لأنه قد ضمه الفصل الكبير عن دار حمر. غير أن البعض قد لا همه 
قراءة ذلك الفصل الكبير - أو قد لا يصل في قراءته إلى الجزء الخاص بالإدارة الاهلی فقد 
رأيت إبقاء هذا (الخاص) لمن يريد فقط أن يتعرف عليه. 

بدأت حياتي العملية في وزارة التجارة والصناعة والتموين. وکا ذكرت فقد 
انفصلت (الصناعة) وظلت التجارة والتموين. ولكن حتى بعد انفصال الصناعة فإن السرد 
الذي ذكرته عن هذه الوزارة له جانب أعتقد - رغم تغير الزمن وأدوات المعرفة - أنه هام 
للقارئ وللبلاد - كما أنه جانباً آخر هام أيضاً للقاری وللبلاد. 

أما الجانب الهام الأول فهو (المأموريات): هي رحلات تعليم - وعمل - وتدريب 
- وانصهار قومي للخريج الجديد الذي يلتحق بوزارت (اتحادية) في الوقت الحاضر ذات أثر 


مباشر في حياة ومعاش الناس وفي أحيان في التخطيط الاقتصادي القومی. كانت هذه 


2 


الأموریات هامة في ذلك الزمن» ولكني آراها أكثر أهمية في (هذا الزمن) حيث آصبح 
السودان (ولايات) تزداد بين حين وآخر وتجنح من واقع عملي إلى (إنفراد) إن لم يكن إلى شبه 
(استقلال) وانکفاء على الذات (في (فهم متفرد) للفدرالية. في مثل هذا الزمن وقد ازدانت 
كل ولاية بجامعة أو أكثر فإن الخريج الجديد حتى ولو لم يلتحق بالخدمة في الوزارة الاتحادية 
أحوج ما يكون لمعرفة بلاده كلها وليس منطقته المحدودة. أما إذا التحق بالوزارة الاتحادية 
فان هذه المأموريات تصبح أمراً حتمياً في تقديري في (هذا الزمن). التقارير ليست بتقارير إن 
وجدت والمعلومات عادة (ملونة) والمعايشة والاحتكاكات مع المواطن والمسئول في مختلف 
المستويات في الولايات مسألة لا غنى عنها لمارسة مسئولة للوزارة التي تخطط اتحادياً 
للصناعة - أو للتسويق الداخلي والخارجي وتوفير تلف احتياجات الاستهلاك 
والدخلات. ولا يخفى إن العلومات التي وفرتها المأموريات كانت مدخلا لمشروعات 
صوامع الغلال في كل من القضارف وبورت سودان وتعليب الفواكه في كريمة والكرتون في 
أروما وتنظيم تجارة وتصدير الحبوب الزيتية والصمغ العربي وتقنين تجارة امحدود - ومعرفة 
نمط واستهلاك بعض السلع في بعض مناطق السودان. 

لقد كان لوزارة التجارة (سلطات) ورثتها كا يتبين في داخل هذه الصفحات من 
آثار (الحرب العالية الثانية ۱۹۳۹ - )١4465‏ ولكن بعضها ظل صا حاً حتى في (هذا الزمن) 
بسبب الظروف التي تمر بها البلاد: من قبل الإنقاذ وطوال فترة الإنقاذ حتى اليوم 
(۲۰۱م.) خاصة بعد التبشير بدخول منظمة التجارة الدولية (العولمة) وخاصة ونحن 
نعيش عصر الانفتاح والتحرير وحرية التجارة وا لخصخصة وهلمجرا. 

فيا يختص بمنظمة التجارة العالمية فان لدا (باب خاص) بحاية اقتصاديات الدول 
النامية في الزراعة والتصنيع لفترات انتقال بعد قبوها في العضوية ریشا تتكيف اقتصادياتها 


XI 


وتستعد للانتقال للاندماج الكامل في منظومة الحرية العالمية. واستخدامات (سلطات) 
وزارة التجارة بالرشد الوطني والتنسيق العالمي لا تتعارض مع وجودنا - إذا قبلنا - في 
النظمة. 

ستظل المشكلة هي (سیاستنا الداخلية) فسواء كنا داخل أو خارج النظمة فان حالة 
(الحرب) التي نعيشها وحالة (التجييش) الستمرة التي تتبناها الحكومة تجعل من الصعب إن 
لم يكن من المستحيل أن تؤدي السياسات التبعة فیما يسمى بالتحرير وا خصخصة إلى إيقاف 
التدهور في سعر صرف الجحنيه السوداني وإلى استقرار في مستوى معيشة المواطن أو تقديم 
خدمات له في أهم مستلزماته في الصحة والتعليم ورعاية الطفولة والأمومة ... أوحتى إلى 
(أمان وأمن) ناهيك عن حلم التنمية المستدامة. 

في ظل هذا الواقع المعاش بعيدأ عن التنظير والشعارات فان البلد أحوج ما تكون إلى 
تتبع وإحصاء كافة سلع الإنتاج المحلي وترشيد استخداماتها: في الاستهلاك أو المدخلات أو 
التصدير: خاماً أو مصتعا بمختلف الدرجات وإدارة عمليات التسويق في الاحتفاظ 
بالفوائض وتخزينها وتنسيق نقلها من أماكن الوفرة تجنباً لفجوات العجز وترکیزاً للأسعار 
وتوازنا لدخول النتجین. 

وبالثل فان عدم الترشيد للواردات وعدم وجود (ميزانية وارد) أو عدم التقید حتی 
بالباديء العامة في حسن استخدام الوارد الشحيحة من النقد الاجنبي ونحن في حالة 
(حرب) نظل نتجاهلها وفي حالة (حصار) تسببنا فيه بسیاساتنا الداخلية التي بدورها 
آخرجتنا من دائرة (الاعفاء من الدیون) بل حتی من جولات (نادي باریس) في ظل هذه 
الظروف من غير العقول أن نلقي عبء ترشید الواردات وحسن توجیه الصادرات 


وآسبقیات استخدامات النقد الاجنبي: نلقي کل ذلك على البنك الركزي وتعطیل الوزارة 


XII 


المركزية التي كانت تقوم بإدارة سياسات التسويق الداخلي والخارجي والاستيراد والتصدير 
ورصد احتياجات الاستهلاك والفوائض واتجاهات السوق ... للأسف أصبحت البلاد 
تديرها الأجهزة الأمنية والبنك المركزي. ومن يسمح له وقته بتصفح باب صلاحيات وزارة 
التجارة يفتقد الكثير على الساحة ودون تعارض مع (التحریر) بل هو (التنظیم الواعي 
للتحرير). 

لقد أسهبت في توضيح مسائل بعضها غير (مألوف) في الكتب وبعضها أصبح من 
(التاریخ). غير أني أريد أن أختم هذه المقدمة بكلمة حق وعرفان. فقد ظل الأخ الفاضل 
البروفيسور على محمد الحسن يسألني أن أسجل مذكراتي - بل أصبح يشجعني وزاد على 
ذلك ذكرت في مكان با حاح محبب وعندما بدأت وانتهيت من الكتابة بدأت حبرتي في ماذا 
أفعل: مئات من الأوراق التناثرة وكان لابد أن ألحأً إليه ولسان حالي يقول: ها أنذا قد كتبت 
فاذا أفعل. تلقى الأمر من بعدي: د. علي محمد الحسن هو (بروفيسور) وليس (بروف) ولا 
أستطيع أن أقدمه ولكني أنقل عن الفرنجة قوهم: 


Wıth some people if you do not know them it 15 your mistake and 
you are to blame. 


وإذا صحت الترجمة: عن بعض الناس إذا لم تعرفهم فإنك مخطيء ولا تلومن إلا 
كانت الأوراق المتنائرة أكثر من ألف. قرأها كلها قراءة أولى - ثم قراءة ثانية. ثم بدأ 
يرتبها في أبواب. ويجمع ما تداخل منها في منعطفات. نبهني لتصحيح خطأ جسيم بشأن 
أحد القيادات العربية. وقد جلست إليه في عدة لقاءات. علمت منه كيف تصنع (کتابا): 
أبواباً وعدد صفحات. وكيف يكون حجماً يتداوله القاريء. عقد المقارنات مع كتب 
لأشخاص سبقوني. لفت نظري لأبواب بعينها. ولوضوعات لا تشملها المؤلفات في العادة. 


الى 


كيف يكون الشكل الخارجي - والفهرس الداخلي - والاتصال بدور النشر - والعلاقة معها 
... و ... وغير ذلك ما م أكن أعرف أو أعرف الوصول إليه واستمعت (تلمیذا) وحيداً في 
(الفصل) ومرة آزرني إبني محمد المنصور واستمع للأستاذ وتعجب لتأدب والده في حضرته 
... وخرجت بأن أوكلت له أمر الالف صفحة أو تزيد كله ليخرجه بالشكل والحجم الذي 
وافقت عليه ليكون (كتاب) - لكن بحق لم يتدخل في الافکار والآراء إن كان ثمة هناك رأي 
أو فكر فا سطرت. شكره لا تسعه الكلمات وسيظل في صدور الاسرة كلها. 


XIV 


في آخر صفحة من الطبعة الأولى للكتاب إشارة إلى الشخص الذي بدأت به في تقديم 
المسيرة الأخ البروفيسور علي محمد الحسن. ولكن عند تصفح البداية ل أجد ول يجد القارئ 
(مقدمة الطبعة الأولى): اختفت. حذفها الأخ على من واجهة الكتاب. 

أول من لفت نظري لغياب مقدمة للكتاب أدبية وقارئة هي زوجتي فاطمة الحلو. 
جادلتها ثم تبين صدقها. تبين لي أن الأخ علي وجد فيها وهو يراجع المسودة الأخيرة ما اعتبره 
ثناء (زائدا) في نظره شمل معظم المقدمة بطريقة غير مباشرة وبطريقة صارخة في آخرها فقام 
بحذفها كلها من الكتاب. 

اتصل بي العديدون شاكين أن حجم الكتاب (كبير) لا يستطيعون القراءة وهم 
مستلقون على ظهورهم في حالة استرخاء وطالبوا بتقسيمه إلى جزئين أو إلى عدة أجزاء في 
كتاب واحدة وها أنذا استجيب طم. وذكر بعضهم أنهم افتقدوا (الصور) لعدة مناسبات 
ولافراد أسرتي الصغيرة كا هي العادة: وهم على حق. 

ورأى آخرون أنه كان يجدر أن تكتب شخصية كبيرة مقدمة (غير التي كتبتها ول 
يرضاها بروفيسور علي) ولكن عالین بالعلم قالوا أن كتب (المسيرة) لا تكتب ها شخصية 
كبيرة مقدمة إلا بعد صدورها وذلك على غير المألوف في الكتب العادية. 

وفي موضوعات الكتاب تلقيت هجوماً غاضباً من أحد مثقفي دار حمر هو الأستاذ 
مرجب (يحضر للدكتوراه) آني أهملت أحد (بطون بيوت حمر - بني بدر) وركزت على آخر 
وهم (الجخيسات) عندما آشرت إلى أنهم الوحيدون الذين لم يشملهم حل الإدارة الأهلية 
لانهم (حمر الرحل) وذلك في نظره بسبب ما قاله شرتاي الجخيسات في حق الناظر منعم 
منصور. والحقيقة هي أن الذي اختار الشرتاي هم رجال الحكومة التي كانت في الأبيض عند 
زيارة سمو الشيخ زايد. وقد اعتمدت على معلوماتهم. وأضيف لعلم سيادته هناك (بطن 


XV 


بيت آخر في حمر هم الصبحة) أيضاً من الرحل ولكن يبدو أن من تم اختيارهم كانوا الأكثر 
عدداً في الأنعام. وعلى كل أشكر للأخ الباحث ما قاله لاهتمامه رغم عباراته غير المألوفة في 
التخاطب- ورضم وعیده بأئه سیکون له نان آحرزذا اكتشف خطأ كهذا. 
وقاری من دار حمر حجب (انفعاله) اسمه بأن (القرعان) لیسوا من حمر: حجب اسمه 
رغم تهدئتي له أن کل من سکن الدار وارتضی عرفها بها في ذلك الشوام والسعودیین یعتبرون 
من حمر (فروة النمر) : لم يقتنع وم مهدأ رغم إني ذکرت له إن (ضامن) قبيلة حمر في سوق 
المواشي بالعاصمة القومية من قرعان حمر. 
وغاضب آخر كان مصراً على خطثه في تشابه الأسماء بأن رئيس هيئة الحسبة والمظالم 
(۲۰۱۷م) هو ابن الشيخ أحمد أبو زيد أكبر من تبرع بأرض لقيام مدرسة حنتوب: وقد 
لاحظت- بكل أسف- كل من أدلى برأي من أبناء دار حمر كان حاملاً عل باتهام إما بالغرض 
أو بالجهل أو بکلیهیا. ومع كل فلهم الشكر لاهت‌امهم. 
وسعدت آن تلقیت آیضاًالعدید من التعلیقات ومن تصحیح لبعض الاخطاء وقد 
ألحقت ذلك مبذه الطبعة وآبرژها:- ١‏ 
- من الأخوين مولانا دفع احاج يوسف ومولانا عمر شمينا أن قصيدة أم ضفائر 
من تأليف الأستاذ عبيد عبد النور ولیس خليل فرح. 
- وقد شارکه| في الملاحظة الأخ عثمان بليل وزاد أن قصيدة (أنا لن أحيد) للشاعر 
حي الدين فارس وليست للشاعر الفيتوري. 
- کا أن مترجم حكايات كانتربيري هو الأستاذ محمد الخضر ولیس دكتور موسى 
عبد الله حامد. وعندما طغت السياسة أصبح (أخ الوالي عبد الرحمن الخضر). 
- وبالمثل فإن أول انقلاب قاده عبد الرحمن كبيدة كان في الديمقراطية الأولى ولیس 
في عهد حكومة الفريق عبود. 
- خال السيد محمد المكاوي مصطفى هو عبيد عبد ال ررحمن وليس عبد ال رحمن الريح. 


XVI 


- الأمير عبد القادر منعم منصور ومعه الأخوان على منعم وعبد الحميد منعم آفادوا 
إن الذي اشترى دار حمر من سلاطين دارفور هو الحاج منعم وليس مكي أبو 
اللیح. 
- شارکهم في ذلك ابننا المؤرخ السید أحمد حدان ولفت نظري أن هناك (فقرة أو 
ملزمة) سقطت عند ذكر الأسرة وزوجات وذرية الناظر منعم وتختص بالأخت 
روزة وأمها وبالوالدة مادريتي وذريتها. هم جميعاً الشاكر أجزله. 
ولعل القارئ يعذرني إذ أن في مثل هذه المسيرة الطويلة المتشعبة لابد من وجود أخطاء 
لغوية أو في الأسلوب أو في السرد أو فيها جميعاً أو غيرها: غير أني حاولت بقدر الإمكان ألا 
تكون هناك أخطاء في الحوادث تؤثر على حقائق الأمور- وأقبل التصويب وأعتذر- أو 
أخطاء متعمدة في حق بعض الذين جمعتني بهم الحياة والعمل. وقد وصلني (غضب) أحدهم 
بأني لم (أنصفه) ولكني أؤكد له أني ذكرت في حقه الحقائق التي واجهتني في جوانب 
و(سترته) في جوانب أخرى: في حقي وفي حق دار حمر... وفي حق السودان: عملاً بها أمرنا 
به في الأثر. 
أعتذر للقراء الكرام أنه سبب (حجم الكتاب) فقد غابت عن الطبعة الأولى (ملاحق) 
AL‏ يا في هذه الطبعة. 
هناك (تكرار) جاء مرات بسبب تداخل بعض الحوادث في السرد قد يتجاوزه بعض 
القراء إلى ما بعده. وقد يتبرم منه آخرون ألتمس منهم المعذرة- كما جاء التكرار في مرات 
أخرى بسبب ذكر حوادث أثناء سرد المسيرة ثم ذكرها مرة أخرى كجزء يصعب تجاوزه أثناء 
ذكر الفرص الضائعة. وقد حاولت التخفيف منه. ولكي (أثقل) على القارئ تكراراً على 
تكرار أكرر مرة أخرى الالتعاس لكل من لديه (فرصة أو فرصا ضائعة) من التي نشرتها في 
صحيفة الحرية ولم يجدها في هذا الكتاب أن يرسلها باسمي إلى مركز محمد عمر بشير في 
جامعة أم درمان الأهلية وله الشكر مكرراً أيضاً. 


XVII 


ولا آختم دون أن أذكر الاستقبال الكبير الذي وجدته الطبعة الأولى في الداخل 
والخارج وفي أكثر من قارة وبلد إذ نفذت في أقل من ثلائة شهور ووضعتني ووضعت المركز 
الناشر في حرج من تلبية طلبات لشخصيات وجهات علمية ها مكانتها. ويرجع الفضل 
للدار السودانية للكتب ولدار المصوراتية ولائنین من شباب دار حمر: عطية وحلاب في 
التوزيع. 

وکا جاء في الأثر من لا يشكر الناس لا شكر الله. 

فالشكرر أجزله للإخوة والزملاء الذين بشروا بالكتاب في الصحف الورقية أوهم د. 
حسن عابدين ثم د. صديق أم بدة- د. الحاج مصطفی- السيدة آمال عباس العجب- 
الأستاذ خالد التجاني- الأستاذ محجوب عروة- الأستاذ يوسف عبد المنان إذ جذب اتهامه لي 
بالعنصرية... و... أثار فضول فئة أخرى من القراء لمعرفة المزيد. أما التعليقات في وسائط 
الاتصالات فلم أستطع متابعتها ولكل من ساهم فيها جبل من الشكر والتقدير. 

ولقيت دع معنوياً أزال مني رهبة مواجهة القراء لأول مرة من بعض شیوخ وشباب 
الصحافة في جلسات وحوارات مضيئة: محمد لطيف- النور أحمد النور- خالد التجاني- 
مصعب الصاوي- مشاعر عبد الكريم وآخرين شرفوني في داري لأول مرة وخانتني الذاكرة 
في الأسماء. 

ولابد من تقدير خاص لن أرادوا أن يقيموا تقدياً وترويجاً للكتاب في (تدشين) وهم 
بالترتيب الزمني: اتحاد دار حمر (بروفيسور عبد الرحيم أحمد سالم وعطية محمد حمد)- نادي 
الدبلوماسي (حسن جاد كريم)- معهد الدراسات الأفريقية جامعة الخرطوم (بروفيسور 
حسن مشيك)-جامعة أم درمان الأهلية (بروفيسور كرار عبادي)- مركز مأمون بحيري 
(د. صابر محمد الحسن ود. مكي مدني الشبلي). ولأسباب أقنعني بها الناشر لم نجد داعياً 
للتدشین. 


XVIII 


كا أبدى د. قاسم محمد نور والأستاذ عارف حمدان من هيئة الإذاعة والتلفزيون- كلاً 
على حدة- أن يكون لي لقاء معهیا في الإذاعة القومية بشأن الكتاب. وإلى أن نلتقي ببما- كلاً 
على حدة- خالص الشكر على الاهتتام والمبادرة. 

وأنا في الموقف الذي كنت فيه ما بين المطبعة والرکز والتوزيع لابد لي من شكر خاص 
لشخصية خاصة هي (طه علي البشير): لدى العموم هو (نادي الملال) في قمته» ولدى 
الخصوص هو (الاتحادي الأصل) وبجانب صفات مضيئة أخرى هو (هدهد حنتوب 
الجميلة)... لا أزيده. 

هل غاب بروفيسور علي محمد الحسن أو بروفيسور معتصم أحمد الحاج (وكتيبته من 
الشباب والشابات) أو السيدة آمال عباس: أبداً كانوا دوماً حضوراً رغم إن الاسم ظل: 

مذكرات إبراهيم منعم منصور 
6 مارس ۲۰۱۸م 


XIX 


۱۷۱15 ۱۲ 





تحت السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
(مدخل). 

بعد أن تركت العمل المنتظم بساعات دوام محددة وجدت زمناً أكثر للجلوس مع 
أسرتي وأهلي وأصدقائي. ويتطرق الحديث عن وقائع وأحداث- وعن شخصيات وعن 
مناطق وبلدان داخل وخارج السودان وأجود عليهم في كثير من الأحيان بمعلومات جديدة 
على بعضهم وإضافات أو تصحيح لا عند غيرهم ويتجه الحديث في أحيانٍ كثيرة إلى 
تساؤلات بعضها يحمل قدراً من العتاب: لماذا لا تكتب مذكراتك ؟ خاصة إذا ظهر لي في 
إحدى الصحف لقاء مع أحد الصحفيين أو مقال عن موضوع كان وعندها أجلس مع 
بعض شباب الأسرة أحثهم على التعليم وأحكي لهم عن الظروف على أيامنا وا هجرة بعيداً 
عن الأهل في عمر الصبا- أقل من الشباب- داخل السودان ثم بعيداً عن السودان في (دار 
الريف) كا كانت تسمی(مصر) ونحن على عتبة الشباب. ثم جاء دور بدايات الحياة العملية 





وأنا في العاصمة الثلثة- في الخرطوم. ودارت عجلة الخدمة العامة ثم العمل السياسي 
والجادلات والصراعات والاتبامات والاعتقالات. وأنواع من الحكم والحكام والحكومات 
وتنقل بين الحكومة والمؤسسات والقطاع الخاص والعمل الخاص. 

اتضح لي أن كل من أراد لي أن أكتب ذو اهتمام خاص بجزء خاص - واحد أو أكثر - 
من هذه المسيرة. شباب الأسرة وبعض الأهل وكذلك بعض الأهل من امتزجنا بهم في 
العاصمة المثلثة كانوا يريدون أن يعرفوا ولو قليلاً عن أهلهم أو (حمر) لا تفاخراً وانیا لتطمئن 
القلوب كا يقولون في علاقاتهم بالناس أو علاقات الناس بهم. هل لهم فعلاً جذور في 
السودان وتاريخ أم مجرد(غرابة) قذفت بهم ظروف الحياة المعيشية إلى العاصمة. بعض 
زملائي في العمل تعجبوا لخروجي المبكر من (شغل الحكومة) إلى القطاع الخاص بعد 
سنوات لم تؤهلني لنيل (المعاش) خاصة وأنني درست المرحلة الجامعية في جمهورية مصر 





مركز محمد عمر بشير 
العربية وليس في كلية الخرطوم الجامعية حيث يعرف الناس بعضهم البعض.. مصر: كيف 
وصلتها ومكثت أربع سنوات وفي الإسكندرية. جماعة من الذين شجعوني جذبهم صعودي 
إلى قمة أكبر صرح صناعي في البلاد وقتها وهو مصنع النسیج السوداني وتوابع مؤسسة 
الخليج العا مية من شركات صناعية وزراعية وخدمية. وبعضهم كان يريد فقط أن أكتب عن 





مرحلة ثورة مايو والرئيس جعفر نميري وما يروى عنه من قصص بعضها أشبه بالأساطير 
وبخروجي مرتين من الحكم أثناء مايو. تعلق آخرون بتجربة العمل مع الجماعة في ثورة 
الإنقاذ وخروجي منها أيضاً ولكن هذه المرة مطروداً ليلاً بالتلفون: ولقد لبيت بقدر ما 
أستطيع رغباتهم جميعاً. غير أني كنت مهتاً بالكتابة - لنفسي أيضاً- لأسجل مع زملاء عزيزين 
بدأت معهم المسيرة بعد سن العاشرة بقليل وامتدت عقوداً مع بعضهم حتى قارب العمر 
الشانین. لا زلت أريد أن أعرف آنا قبل الآخرين كيف اجتاز ابن قرية (صقع الجمل) مدينة 
النهود رس كردفان حياة الداخلية في مدرسة الدويم الريفية الوسطى التابعة لمعهد 
بخت الرضاء ثم على ضفاف النیل الازرق في مدرسة حنتوب الثانوية ثم هلمجرا ما فاضت 
به هذه الصحائف. 

بعض مارسات العمر الیکر كانت حافلة بتجاوزات الصبا والشباب كما كانت 
دوافع بعضها (استکشافیة) : هل فعلاً من المکن أن نقوم بها دون أن یکتشفنا زملاژنا الکبار 
دعك عن آساتذتنا؟ ونجد آننا قد نجحنا: نجاحاً بعد نجاح. ما آغرانا بالابتکار في کل خطوة 
بعد آخری بعضها لم تكن سوية. وفي مرحلة كنا کمن یتمثل بقول الشاعر أيليا أبو ماضي 
(ولکم تشیطن كي یدار القول عنه تشیطنا) نباهي بذلك من كان يظن من آولاد (البحر) إنه 
من الطلبة (الشفته) من دورنا- أو من هم آکبر منا. وعندما نتقدمهم في نتائج الامتحانات في 


5 








السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
حنتوب تعلوهم الدهشةء وكنا نشبههم بمن كانوا یسقطون من أول كأس في تجربة حياتنا 
الصغيرة (تحت التربيزة )UNDER 1118 1۸81٤‏ كما وصف الأديب الإنجليزي أوليفر 
قولدسميث (601:105711111 017۷۶) من لا يحتملون كؤوس الراح في روايته التي 
كانت ضمن مقررنا في الأدب الإنجليزي01710171510© 10 510075 )SHE‏ وهكذا 
كان الحال في سنوات الدراسة بأرض الكنانة حيث كنا نعتبر أنفسنا نحن الذين عشنا في 
الداخليات وسطی (أساس) وثانوي (رجالا) بالنسبة للكثيرين الذين كانت أول محطة هم 
خارج بيت الأسرة هي مصر أم الدنيا. فمنهم من انکب يدرس حتى انكفأ- ومنهم من رد 
ومنهم من تاه ولكنهم في النهاية مسكوا الدرب بعد تجارب حلوة ومرة في أغلبها واجتازوا 
العقبة. واحتفلنا مع بعضنا آخر كل سنة بمن تخرجوا ناجحين وكانوا بحمد الله في كل مرة 
كل الدفعة في الإسكندرية. 

تعرضت لكل هذه المناحي من الحياة خدمة لابنائنا الذين لازالوا يجاهدون في سبيل 
العلم والعمل فان لم يكونوا هم السائرون فرب آبناژهم أو أحفادهم. فالمسيرة سواء في زمنتا 
أو زمنهم زمن ناس (بابا) و (ماما) ليست دائ مهدة کما أنها ليست على الدوام وعرة. أما في 
الحياة العامة في السودان. فلم أشأ أن أكتب عن تجارب تعرضت فيها لخلافات واختلافات 
وصراعات مع أخوة وزملاء لو لا إنها أصبحت جزء من (التاريخ) تناوها الأثير: إذاعة 
وتلفزيوناً. ونشرتها الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية. واستقرت في دور الوثائق 
بالسودان وفي مكتبة (الكونجرس) بالولايات المتحدة. ومنها ما تناولته تقارير السفارات إلى 
بلادها وما أفرجت عنه قوانين الحظر فنشر في عام ١١١7م‏ ومنها شرائط تسجيل لا دار في 
مجلس الشعب وما دار في مجلس الوزراء واجت‌اعات في القصر الجمهوري. وكان لابد لي أن 


نكا 








مركز محمد عمر بشير 
أتناول هذه الأحداث التي تشكل في نظر من تناولتهم من زملاء- في تقديري على الأقل- نكا 
ای و و با 
به الله كل الحفر والبؤر التي تعثرنا خلا ها يوماً ما وصرنا في زمن قياسي في صفاء حقيقي رغم 
اا ای ا ی 
عزيزة كان لابد لي أن أودع خزائن التاريخ أيضاً وجهة نظري فيا حدث لكي تجلس جنباً إلى 
جنب مع ما صار جزءا من التاريخ. 

وهناك وثائق كان لابد لي من نشرها أيضاً رغم أني لم أكن اهتم كجزء من تربيتي في 
بداية عملي في الخدمة المدنية بجمع مستندات (الحكومة) ولم ألتفت كثيراً لنصائح أخي 
د.منصور خالد الذي تعرفت عليه لأول مرة وأنا وزير في مايو بأن (احتفظ) بأية ورقة مهمة 
كتبتها أنا أو عثرت عليها أثناء عملي لأنها ستكون يوماً ما ذات شأن. تذكرت ذلك أيضاً 
عندما ارتكبت خطأ قبول منصب رئيس مفوضية تخصيص ومراقبة الإيرادات الالية إثر 
تحليل(خاطى) للأحداث بأنه أصبح من (واجب) أي مواطن يمكنه القيام بأي عمل للدولة 
بعد توقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية في ۲۰۰۵م- أن يقوم بذلك. كنت أعتقد أن 
القوم (جادون) في تحقيق الوحدة وفي إشاعة واستدامة (السلام). أقول تذكرت أمر الوثائق 
عندما سالني يوماً نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان(إنت بتكتب ليه نحن لينا ۱۵ 
سنة دولة الحزب الواحد لا نكتب إلا القرارات. يعني عاوز بعدين تنشر مذكراتك؟) كانت 
المناسبة هي إنني كرئيس للمفوضية لابد أن أكتب لمؤسسة الرئاسة. واحياناً بنص إتفاقية 
السلام تقارير دورية أسرد فيها (كل شيء) كما أنني تعلمت کا قلت له أن أكتب في) كان 


يعرف 2 دور الحكومة باسم (المذكرة الداخلية INTER DEPARMENTAL SHEET‏ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
وتختصر(5115۳1 «11) والتي يبدي فيها الموظف في أدنى السلم رأيه ويرفع إلى رئيسه إلى أن 
يصل إلى الأعلى وتعود إليه المذكرة فيها آراء الجميع ومسبباتها والقرار النهائي. الهم في هذا 
الحديث أنه شحذ همتي لكي أكتب مذكراتي من حيث لا يقصد. ويستحق الشكر من حيث ل 

هناك (الفرص الضائعة) والتي شكلت أيضاً جزءاً عاصرته من تاريخ هذه البلاد 
سردتها في صحيفة الحرية على مدى سنتين أو تزيد فيم يقارب المائة حلقة أو أكثر وكان لابد لي 
أيضاً أن أودع ما عثرت عليه منها كجزء من هذه المسيرة. وبين هذه وتلك كانت هناك 
مقالات فرضتها عل بعض الأحداث بعضها واستطعت جع البعض الآخر أضفتها داخل 
المسيرة. ومن وقت لآخر يتطوع أخ أو صديق ويبعث لي بورقة أو مذكرة أو حديث في 
صحيفة يذكرني بها ضاع من ذاكرة الثانين فأشكره وأعده أن أجد للجميع مكاناً لأنه- وهذا 
حق- إن لم يكن ما جاءني به مها لا احتفظ به هو زمناً. 

وأنا أكتب على سجيتي دون أن أتقيد بأصول فنية متبعة في مثل هذه الحالات لأني- 
بصراحة لا آعرفها- تعرضت لشخصيات انتقلت إلى رحاب الله. راعيت الصدق والخوف 
من الله في التعرض ها. ورغم أننا أمرنا أن نذكر محاسن موتانا إلا أننا أفتينا بأن التعرض 
للشخص العام في الشأن العام في جری التاریخ- على قيد الحياة أو فارقها- لا غبار عليه ما 
دام الحديث صادقاً وفي أمر العباد. وعلى كل نسأل الله المغفرة في الحالين. وني جميع الأحوال 
فقد نأيت عن إلقاء التهم أو الشتم وإنها سردت الأحداث کا عاصرتها وكا حدثت دون 
(تلوين) کا يقول الصحفيون وتركت للقارئ الحرية. 


مركز محمد عمر بشير 








تضخم حجم الكتاب ول يزعجني لأني كنت عازماً منذ البداية أن أضمنه (مسيرتي) 
ولهذا اخترت اسم (المسيرة) وبعد أن بدأت الكتابة وجدت أن النهج الذي سرت فيه جعلني 
أسترسل أحياناً في تفاصيل أحداث تنقلني ليس فقط من عام إلى آخر ومن مكان إلى آخر بل 
من عقد من الزمان إلى رصيفه بل إلى عقود تحركه ذاكرة لا تتوقف إذا بدأت وهي تسعدني- 
شخصياً- بتذكر مواقف قد لا يرتاح ها القارئ وقد تبعده عن موضوع كان يتوق أن يصل 
إلى نهاية قريبة له. 

رفضت فكرة تقسيم المسيرة إلى أجزاء في كتب منفصلة أو مراحل في الحياة رغم أن 

حياتي في البداية قبل أن أصبح (شخص عام) كانت مرحلة تختلف نوعاً ما عن مرحلة 
الشخص العادي ولکن في الأجزاء الأخيرة منها كانت تمهيداً وتداخلاً بين المرحلتين. وکا 
ذکرت فیا سبق فليأخذ کل ما يراه وليترك ما لا یبغاه: إذ إن کل الخطى مجتمعه کونت 
شخصيتي وأثرت في الشخص الذي قادته حتی الیوم. 

بعد التشجیع (للجلوس) ثم الكتابة بصورة جادة من داخل العائلة الصغرة: 
الزوجة فاطمة والابن الاکبر محمد النصور. سرعان ما تدافع الآخرون بشتی السبل. سارة 
تصحبني إلى القاهرة للترویح وعملياً لاعداد الوجبات وتبيثة الناخ للكتابة. وحمد الهدي 
یطبع حتی كلت عیناه ما استطعت أن آسطره في الخرطوم. ومحمد الأمون صحبني مرة 
وعندما استقر به الاغتراب في دولة الامارات يسأل مشجعاً عن التقدم الذي تم» وسوسن 
وهي مشغولة في الاعداد للدکتوراه في الادارة لا تنسى أن تعد أطباقاً من مأکولات تعلم 
شهيتي نحوها. وعندما لا تجد الصغيرة (۱۱ عاماً) ساح ما تساهم به تطلب مني أن أتوقف 


وأرتاح قلیلاً لكي (تسمع) لي ما تقرر علیها من (سورة الشوری) نعم والله!! هکذا النهج أو 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أراجع معها (العْنّة) في (سورة النازعات) علاً بأني متأكد أن وزير أو وزيرة التربية لو فوجئت 
دون إخطار(بتسميع) سورة الشورى أو (غَنّة) النازعات لفشلت. لا بل لسقطت. 

وأنا في مصر حيث بدأت الكتابة يحضر ويشجعني ثم يستضيفني بالإسكندرية 
الدكتور محمد فارس فاروق أبا يزيد ابن الأخ والصديق الذي ستجی الإشارة إليه في مرحلة 
الدراسة. أما الاخ والصديق محمود يوسف العثی في مدينة نصر بالقاهرة ليس فقط رعايتي 
بل ومساعدتي في التحرك مع سائقه الوفي (وحيد) وني العثور على محمد (الذي قاد بدايات 
طباعة وتنظيم مكونات هذه (المسيرة) باقتدار. وظل إخوة وأخوات كرام بالخرطوم ومصر 
يتساءلون دوماً مشجعين بحنان وإشفاق. محي الدين سالم- إحسان حسين- آمال عباس 
العجب- عبد القادر منعم منصور- محمد الحسن أحمد الحاج- إبراهيم صديق الدليل- أحمد 
أبوسن- إدريس حسن - عبد الله حيدوب- التجاني آدم طاهر - الماحي أحمد جحا- إبراهيم 
حامد مصطفى- صديق أم بده- فوزية يوسف جلال الدين- حامد منعم منصور- 
عبد القادر منصور- ثريا بشير حامد-محمود حسين (مليجي)- محمد سعيد عبداللطيف- 
سيد أحمد الرشيد- فؤاد أحمد مكي ومحاسن عبد الرحيم- وباحاح محبب علي محمد الحسن 
والشريف الدشوني ومصطفى رجب من شباب النهود. 

ولمن يريدون أن يدخلوا مجال الكتابة في هذا المجال أنصحهم- بل آمرهم إن صح 
التعبیر- أن يكونوا صفاء في (البال) ورخاء في (الجيب) خلال فترة(الجلوس) والكتابة. 
واستعداداً لذلك فقد تطرقت خلال بعض جلسات التفاكر و(الونسة) في (الغربة) مع أخي 
العزيز والفقيد الخالد عشان أحمد سليان مدير مجموعة البركة بجدة قبل أن ينتقل إلى رئاستها 
في ال«حرين» تطرقنا لموضوع (الكتابة) ولكني أوضحت له أن (الكتابة) التي يعنيها ليست في 


اس 








مركز محمد عمر بشير 
سهولة تسطير المقالات الصحفية التي قرأها وإنا تحتاج إلى وق ت(صاف) وإلى .. وإلى .. 
وإلى.. قاطعني ببدوثه الجاد أن بنك البركة الخرطوم سوف يتولى (إلى... وإلى.. وإلى...) وما 
علي إلا أن أقدم بذلك (ميزانية) إلى رئاسة البنك في الخرطوم وسوف يصدر هم التوجيه. 
فعلت وقد فعل. ولكنهم منذ الوقت (۱۹۹۷) ۸ يفعلوا رغم تذكيره لهم. وأقسمت عليه في 
لقاء بعد ذلك بألا يفعل لأنه قطعاً لديهم (رأي) وعليه وعلّ احترامه. وعندما حزمت 
وبدأت تيسر كل شيء والحمد لله.. كذلك تفضل عل الأخ العزيز فريد عمر مدني سكرتير 
مجلس إدارة شركة سكر كنانة برجاء أن أكتب هيكل المسيرة وأبدى استعداده لكي يقوم 
بمهمة صياغة ما أكتبه وستتولى الشركة مقابلة (إلى.. وإلى... وإلى..) ولكني اعتذرت له 
وشكرته وبأني سأتولى بقدر ما أعرف آمر الصياغة. وبحمد الله لم أتلق عرضاً بعدهما من أي 
جهة واكتفي الجميع - مشكورين- بحق الت" جيع الأدبي والمعنوي. وكلاهما زاد له أهميته قبل 
أن يكل القلب فيعمى فقد جاء في الاثر: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فان القلوب إذا 
كلت عميت. وبعد الراحة قليلاً أبدأ في (القنيص- أو القنص أو البحث عن مورد) وبحمد 
الله وجدت عند البحث في (الدفاتر القديمة) التي يلجأ إليها (التاجر عندما يفلس) كا 
يقولون عدة مصادر: كل منها أوصلني إلى مرحلة ول أتوقف بحمدالله: إلى أن وصلت 
بالمسيرة إلى ما وصلت إليه. فالشكر لله والشكر للجميع. 

اخترت اسم (المسيرة) وهو بحق مسيرة إلا أن الوالد الكبير أمين التوم قطب 
الانصار وحزب الأمة قد سبقني في اختيار الأسم لمذكراته فكان الأمر (مذكرات إبراهيم 


منعم منصور) وتقبلته. 


سس المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سسحت 


الشهد الثاني 


في هذا اليوم يسر لي ألله أن أبدأ كتابة هذه الذكريات وهذه المذكرات بعد أن هممت 
بذلك أكثر من مرة. وقد بدأت في التفكير في الكتابة في أوائل سبعينات القرن العشرين عندما 
دخلت حياتي منعطفاً جدیدا م أكن قد خططت له: وهو أداء القسم وزيراً للاقتصاد والتجارة 
الخارجية في أول وزارة لثورة مايو 979١م‏ بعد الاستفتاء على اختيار جعفر محمد نميري 
رئيساً للجمهورية في سبتمبر ١1917م:‏ ذلك الاستفتاء الذي جاء بعد هزيمة ثورة التصحيح 
بقيادة الرائد هاشم العطا (۲۲-۱۹ یولیو ١197م)‏ في يوم ۲۲ يوليو ١97١م‏ والذي 
عرف في بعد باسم يوم العودة. 

كان أداء القسم صباح يوم 5١/١٠/١1917م‏ في القصر الجمهوري الذي أصبح 
اسمه قصر الشعب. حياتي قبل ذلك التاريخ كانت خاصة بي: بعده أصبح ت(شخص عام) 
والشخص العام في مجتمع السودان» وربا في البلاده كتاب مفتوح. 

يبدأ الجميع دون استثناء في تقليب صفحاته. من هو ؟ من أين جاء؟ كيف نشأ ؟ 
كيف تم اختياره؟ وما هو العمل الذي كان يشغله ؟ متزوج من أي أسرة؟ أله أطفال؟ أين 
يسكن ؟ أملاكه... وسوف أحاول أن أشفي- بقدر الإمكان- غليل الجميع کا يقولون. 

كل مجموعة وربا كل فرد في جتمع السودان له اهتمامات ببعض أو كل ما سردت. 
ولهذا سوف أبدأ بتسطير هذا الجزء الخاص من الكتاب المفتوح قبل دخول العمل العام 
وسوف لا ابتكر هجا جديداً بل أسير فيه بطريقة تقليدية متتبعاً خطواتي حتى أصل إلى اليوم 
الفارق: يوم أداء القسم. 





مركز محمد عمر بسير 





ثم أدلف بعد ذلك إلى الجزء الثاني من المسيرة: هذه المذكرات أو الذكريات وأترك 
من يتصفحها أن يحكم أي الجزئين أحب إليه إن كان ثمة فائدة في أي منهما. 

ويقيني أن المستهدفين في أي منهما أو في كليهما همهم أن يعرفوا ما دار في هذه 
ها قينا 
عندما تفتحت مداركي للحياة وجدت نفسی في دار كبيرة (حوش) به عدد من القطاطي 
بعضها للسكن وتتناثر على بعد أمتار من بعضها البعض تحيط بها أسوار قصيرة من قصب 
(الثال) وبعضها تلضیوف متفصلة غاما سدور لباب غن اماك السکن ویتوسط الان 
سکن خاص لصاحبه؛ ویسمی الکان اختصاراً (حوش الشیخ). 

البلدة تسمی صقع الجمل. وإختصارا أيضاً (الصقع) وتعود التسمية ىا علمت إلى 
آنبا كانت عاصمة لقبيلة (مر) التي آنتمي إليها في القرن التاسع عشر قبیل الهدية آثناء حکم 
الناظر إبراهيم ود اللیح وکانت الال تنوخ فیها وتجتر کعادتبا هار شجرة (الحميض) 
وكذلك النباتات وترمي با من فمها (آو تصقعها) کبا یطلق علیها. 

ومن کثرة صقع الجمل في تلك القرية جاءت التسمية (صقع الجمل) . غير أن الناظر 
منعم منصور بعد أن استقر قليلاً في الصقع حيث تولى قيادة القبيلة في عام ۱۹۲۸/۱۹۲۷ 
رحل إلى مدينة (النهود) حيث المركز الاداري الذي به قادة الحكومة مثلو الحكم الثنائي 
(البريطاني المصري) وأسس دارا جديدة هي (حوش الشيخ) ا حالي. 

بقيت والدتي في الصقع ومعها بجانبي أكبر بنات الشيخ (عازة) والتي لقبته القبيلة 
بعد ولادتها باسم (أبو العازة) وأكبر أبنائه من بعدها (منصور) ثم فاطمة والتي ولدت يوم 
تنصيبه ناظر عموم دار حمر فأطلقت القبيلة عليها لقب (الملكة) إذ قالوا أن شيخ منعم يوم 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أصبح (ملك) ولدوا له (ملكة). ولا يزال اللقب سارياً عليها ونسى الجميع اسم فاطمة. 
و(الملكة) هي والدة المرحوم عوض الله حسين وإخوانه مصطفى وإساعيل (أزهري) 
ومحمود (المليجي) وعبد الرحمن ووالدة السيدة إحسان حسين زوجة السفير حي الدين سالم 
وأختها عواطف. 

تزوجت (العازة) الشيخ إبراهيم ناصر محمد الشيخ ناظر قسم حمر العساكرة وتركتنا 
وسكنت (أبوزبد). ثم ترکنا(منصور) وذهب للدراسة في مدرسة النهود الأولية وبعدها إلى 
مدرسة الأبيض الوسطى. 
كان لوالدي مزرعة كبيرة تعرف باسم (زرع الشيخ) يقع شال الصقع کی كانت لديه أعداد 
من الأبقار والضأن ترعى حول الصقع. وأخرى من الابل ترعى أو (تنشق) مع إبل أحد 


أصدقائه ویدعی(آجد ود حدير باوي) من فرع القبيلة الذي يسمى(الحخيسات) والذي 





ينتمي إليه رجل القانون جبر الله مسين وكان الشرتاي في ذلك الوقت والد مولانا جبر الله. 
وله قصة وفاء جديرة بالتأمل لابد من روايتها حتى في هذا الوقت المبكر من الذكريات. 

بعد قرار تصفية الإدارة الأهلية في عام ١۱۹۷م‏ جاء إلى السودان الشيخ زايد بن 
سلطان آل نهیان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في أول زيارة له کرئیس دولة إلى دولة 
أخرى. وتم تنظيم استقبال كبير له بمدينة الأبيض عاصمة مديرية كردفان حشدت له القبائل 
بالإبل يتقدمها زعماؤها على هجن أصيلة وعلى ضرب (النحاس) رمز القبيلة وقد كان أكثر 
الفروع الثلاثة أنعاماً الذي لم تطاله تصفية الإدارة الأهلية في قبيلة حمر أن یکون في القدمة 
ورئيسه الشرتاي خمسين فضيلي. الفرعان الآخران هما بني بدر لي وشكرا للاخ 


مرحب لإفادته ولكن الشرتاي خسين رفض أن يذهب إلى الأبيض وأن يتقدم القبيلة 








مركز محمد عمر بشير 
(ويدق) النحاس و(شيخ منعم حي) إذ إن في ذلك عدم وفاء منه وإذلالاً للقبيلة. كل 
السئولین بالاییض» عسكريين ومدنیین, لم يقنعوه ثم انضم إليهم (شيخ منعم) وم یقبل. 
وأخيراً حاولوا (شیخ منعم) أن يذهب لاستقبال ضيف البلاد على مقدمة القبيلة فرفض إذ 
إن الحكومة قامت بتصفية الادارة الأهلية ولیس له موقع رسمي یسمح پذلك. ولا كان 
اشتراك قبيلة حمر هاماً للاستقبال فقد أقنع أحد السئولین (شيخ منعم) بأن يسمح لابنه 
الا کیر ونائبه منصور أن يتقدم الركب خاصة ون شرتاي مسين قبل با لحل الوسط وقد كان. 

كنا نعيش في هدوء وتحيطنا رعاية من والدقي (الحاجة أم بريمة) وأختها فاطمة التي 
أطلق علیها لفرط حلاوتبا(عسل قضيم) وزوجها أبن خال والدي (عثان جمعة) لو كا 
نسمیه (عتبان). 

على الشرق من حوش الشیخ یقع (حوش الشرتاي بخاري علي) شرتاي منطقة 
الصقم وعلى الجنوب مساکن متناثرة لاقاربنا وأقارب الشرتاي بخاري. على الشمال حوش 
الشیخ (منصور إسباعيل) وهو ابن ناظر حمر العروف باسم (إسماعيل فراض القش) وهو 
رئيس محكمة الصقع وتقع الشفخانة بين حوش الشیخ وحوش الشیخ منصور. 

شرق حوش الشیخ منصور كان يقع میدان كبير في نبایته القصوی السوق وبقربه 
(الدونکي) وهي بثر حفرت مع تنصیب الشیخ منعم في عام ۱۹۲۸م ظلت تسقي الانام 
والانمام حتی الیوم. غير أن الميدان الكبير الذي كان فضاء ما ثبث أن دبت فيه الحركة وعلمنا 
أنه سوف تبنی فيه (مدرصة صغرى) تنكون من فصلين لتعلیم أبناء القرية والقری التي حوها 
القراءة والکعابة والحساب والقرآن. وسوف تلحق بالدرسة داخلية للأولاد الذين تبعد 
قراهم عن الصقع. 


252 





سح المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

كان ذلك كما علمت في عام ۱۹۳۸م أو 1974م. كنت وقتها صغيراً ومع ذلك 
أذهب صباحاً إلى (المسيد) الذي يشرف عليه الشيخ إبراهيم الدسوقي التاجر الكبير ووالد 
المرحوم أمير إبراهيم والدكتور الدردريري إبراهيم. 

وفي الساء أذهب مع (الريح) ابن أخت (عثان جمعة) زوج خالتي إلى مسيد (فكي 
عمر العوض) والد المرحوم التجاني عمر وللهندس عبد المنعم والتاجر أيضاً في الحي الشمالي 
الغربي. 

كان أبي يزور الصقع في بداية فصل الأمطار وهو إجازة المحاكم ويشرف على 
الزراعة ويتفقد القطعان وتبدأ عملية (الزراعة» رمي البذور في الأرض) وعملية (الحش» 
نظافة الحشائش) التي تنمو مع هطول الأمطار وكذلك عملية (قطع وجمع ودق قناديل 
الدخن) وهو القوت الرئيسي. تبدأ کل واحدة من هذه العمليات بالنفير. و(النفير) هو 
استنفار جماعي لكل أهل القرية والقرى المجاورة أحياناً للعمل جميعاً في مزرعة شخص 
واحد» ثم يتحولون إلى آخر وثالث وهكذا حسب ترتيب يتفقون عليه وفق المساحات 
والمزارع التجاورة. ويبدأ الجميع بزرع الشيخ» ووفقاً لإمكانيات كل شخص ومساحة زرعه 
يكون نوع وعدد الذبائح بدءا بالتيس من الماعز إلى الخروف والعجل. 

يبدأ العمل مع الشروق ثم الإفطار قبيل الزوال ثم وليمة كبرى قبيل الغروب غالباً 
ما تصاحبها (مريسة) أو(عسلية) أو كلاهما ويعود الجميع شبعى منتشين. والمريسة مشروب 
من الدخن أو الذرة يعطى أحساساً بالشبع وإنتشاء لا يرى القوم فيه بأسا ربا حتى الیوم. 

وفكرة (النفير) لا تقتصر على الزراعة وحدها بل تشمل أيضاً کل عمل يستقطب فيه 
جهد الجاعة كبناء النازل أو داخليات الطلبة أو منازل المعلمين. أما تحديد مسار الطرق بين 








مركز محمد عمر بشير 
القرى الكبيرة ثم نظافتها من الحشائش والأشجار: تلك الطرق التي تربط في الغالب بين 
القرى التي بها رئاسات للمحاكم الأهلية وتسلكها قوافل وسيارات الحكومة أو اللواري 
التجارية وني سبيل نظافة هذه الطرق تتولى الادارة الأهلية استنفار سكان القرى التي تمر بها 
بحيث تقوم كل مجموعة بنظافة منتصف الطريق إلى المجموعة الأخرى وهكذا إلى أن يتم 
تحديد مسار الطريق والذي يصبح في حد ذاته ما یسمی(خط النار) أي الحاجز للنار التي 
تنشب من أن تنتقل من منطقتها إلى أخرى. 

هذه العملية كانت تحظى بمكافأة رمزية من المجلس الريفي للشرتاي في كل منطقة 
ولشائخ القرى وسکانبا. كما كانت تجد استحساناً أدبياً من مسئول مصلحة الغابات. غير أا 
للأسف الشديد تم إلغاؤها بقرار من الخرطوم عام 954١م‏ أصدره مسئولو ثورة أكتوبر 
٤م‏ باعتبار أن هذه(سخرة) لا تساوي مكافأتها جهد العاملين ناسين الفائدة القومية 
التي عادت في الماضي وتعود للبلاد وللمنطقة في الحاضر من تيسير النقل ودرء آثار النيران. 
ربا كان القرار الإيجابي هو زيادة الکافات ما أمكن. 

عمل مائل كان يباشره الناس بإشراف رجل الادارة الأهلية وهو الشرتاي» في 
أغلب الأحيان (شيخ الحلة) الذي هو أدنى منه مرتبة نظافة وتعميق الحفائر الكبيرة التي 
تسقي عدة قرى خلال فترة من الزمان بعد فصل الأمطار. (الرهد) ک) يطلق عليه منخفض 
طبيعي تتجمع فيه المياه المطرية من عدة مجاري (خيران) وتستمر مياهه وفقاً حجمه ووفرة 
الأمطار عدة شهور. كان العمل تطوعياً كالعادة ولا يستغرق أكثر من (ضحوة) عدة ساعات 
بعد الشروق ولا يحظى باحتفاليات كبيرة مثل (النفير في الزراعة) وقد كنت أشهد غالبية هذه 
الأعيال الجليلة التي يصحبني إليها (عم عثمان» أو عم عتمان) كما كنا نناديه. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وقد كان له نفوذ اجتاعي كبير بصفة القرابة التي تربطه بالشيخ» وبصفته المشرف 
على زراعته وأنعامه وإدارة (الحوش) في غيابه بالنهود. وبصفته (عدیله) في خالتي والتي ۾ 
ينجب منها فتزوج عليها وأنجب عبد القادر أحد كبار ضباط الجمارك في بورت سودان 
وحسين المزارع الكبير صاحب الأنعام في قرية (بوطة) التي تنتمي إليها والدته وتقع في 
الطريق بين الصقع وغبيش. 

لم يكن هناك طفل في عمري بالحوش إلى أن أحضر والدي في إحدى زياراته لنا ولد 
يقاربني في العمر اسمه عبدالرهن. وقد أخبرني إنه أخي من زوجة له في النهود تدعى 
(فاطمة كتيرة) وكثيرة لقب عرفت به لكرمها وحسن تعاملها طوال حياتها. 

وهنا علمت أن أم عبد الرحمن ليست هي زوجة أبي الوحيدة بالنهود بل له زوجة 
أخرى تدعى (أم النصر) وهي ابنة عمه الناظر إسماعيل محمد الشيخ الشهير باسم قراض 
القش. وزوجه رابعة من قرية (تربة حمراء) شال شرق النهود رزق منها بابنة واحدة هي 
(روزة) والدة معتصم عل المدير خبير التأمين بالمملكة العربية السعودية وافترقا بعد ولادتها. 

وعلى عكس (حواء أبو نوفة) والدة روزة فان (كتيرة) من الأبيض أهل والدها من 
(العسيلات) ويمت أهل والدتها بالقربى لآل عتباني» وهي الوحيدة حتى ذلك الوقت من 
غير قبيلة حمر إلى أن انضمت إلى الأسرة (بلالة) بنت الشيخ محمدين أحد كبار شيوخ الطريقة 
الإدريسية بحي ود أرو بأم درمان وله ضريح في مقابر أحمد شرفي. 

نعود لأخي عبد الرحمن الذي قضينا معه أوقاتا طيبة في اللعب والزاح وقد كان 


شجاعاً ودوداً إلى أن استلقى يوماً على الفراش مريضاً بحمى شديدة لم يفلح المساعد الطبي 





مركز محمد عمربشیر سس 
في علاجها فقضى نحبه بين حزني ودهشتي إذ كنت أعتقد أن ا موت والمرض الذي يفضي إليه 
من شأن الكبار. 

وما هي إلا شهور وقد جاء والدي في بداية موسم الأمطار ليحضر بداية الزراعة 
كعادته حتى فجعت في والدتي التي أصابتها صاعقة في يوم مطير وقضت عليها وأنا وأختي 
اللکه جالسان بقربها نرتعد من الصوت المدوي والنور الأبيض الساطع الذي لمع أمامنا. وفي 
لحظه رأيناها ترفع أصبعها السبابة إلى أعلى وتقع على الأرض. 

جرينا إلى بيت خالتي الذي يقع على بعد أمتار من منزلنا داخل الحوش الكبير وصفنا 
ها الشهد بقدر ما سمحت به آنفاسنا المتلاحقة فعادت معنا وصرخت واجتمعت حوضا 
النسوه من داخل وخارج الحوش وأرسلت من يخطر والدي وزوجها وهما في الزرع الكبير. 

وفي الصباح اكتشفت أن والدتي لحقت بأخي عبد الرحمن : ماتت. 

وانتقلنا مع أختي الملكة من المنزل المشؤوم إلى السكن مع الخالة العزيزة التي شملتنا 
مع زوجها عم عتمان بحنان لا يوصف وکنا كلا رأينا أو سمعنا صوت أمطار تبطل هرعنا إلى 
سريرها يرقد كل منا على جنب ملتصقين بها لحايتنا إلى أن جاء يوم غادرتنا فيه الملكة إلى 
النهود لكي تتلقى مبادئ التطريز والحياكة والتدبير المنزلي على يدي الوالدة الكريمة كتيرة 
التي كانت المتعلمة الوحيدة بين زوجات والدي في ذلك الوقت. 

ولعلمي أن هذا الحديث عن الأسرة لا يهم بعض القراء هذه الذکرات إلا أن هناك 
طائفة أخرى فيمن همهم الأمر. وإذا قدر هذه المذكرات أن تصل خبايتها فان كل مطلع عليها 
سوف يجد مبتغاه ويقلب آخرون صفحات لا علاقة لها باهتاماتهم. الأسرة الباشرة» ولیست 


المتدة» كبيرة والحمد لله ماشاء الله. ولقد ذكرت والدتي الحاجة أم بريمة وهي أولى زوجات 





السيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول ٠‏ س 

والدي وذریتها منه هي: عازة ومنصور واللکه وشخصی. وقد توق کا علمت کل من عزيزة 
ومكي وهما في سن الطفولة. عازة والدة العلم ناصر والهندس الکهربائي والميكانيكي مرشد 
ومنصور والد کل من منعم والعقید التقاعد الفاتح وجعفر والذي استقر مزارعاً ومالكاً 
لقطعان من الضأن ورجل الأعمال بالتهود خالد. 





وقد صبقت الاشارة إل ذرية اللکه آما أنا فل من الأولاد محمد النصور محمد 


الأمون» محمد الهدي وسارة. الأول مهندس معماري هجر الهنة قبل أن بیارسها لسبب 








e OXFORD 


BROOKES 
UNIVERSITY 


ع جاه مسجم اج سس بح سا وج وجي OIRO FD‏ جد 2 Caê‏ جم جهن OO MOINS‏ رمج سي a E‏ 











محمد المنصور - الابن الأكبر - يوم حصوله على درجة الماجستير من أوكسفورد 


جامعة بروكس في ديسمبر ۲۰۱۱م- الصورة أخذت في مهرجان التخرج في يونيو 7١١7م‏ 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

سياسات حكومة الإنقاذ في الخدمة الإلزامية التي قضاها قبل دخوله الجامعة. 
والثاني تخصص في تقنية العلومات ول ییارسها إلا لفترة محدودة ثم اتجه إلى البرمجة الإذاعية 
والتلفزيونية. والثالث ظل وفيا لهنة الإدارة والحاسبة منذ تخرجه الأكاديمي. وبالمثل ۸ تترك 
أختهم سارة مهنة ال هندسة الدنية التي تخصصت فيها رغم حصوفا على ماجستير الإدارة. ثم 
تزوجها صلاح بن الخليفة علي بركات بالعیلفون. 

والزوجة الثانية هي أم النصر والدة إسماعيل و محمد الشيخ وأحمد وآمنه وأساء 
ونفيسة ثم (حواء أبو نوفة) والدة روزة ثم الثالثة دار السلام والدة حليمة وعلي وأم فرسان 
وعشة والماحي. وقبل أن استرسل فإن إسماعيل ومحمد الشيخ وأحمد وروزة وحليمة كلهم 
يكبرونني سناً. وكنت أتعجب وأنا في الصقع كيف عندي كل هذا النفر من الاخوة 


والأخوات وأنا لا أعرف منهم إلا عبد الرحمن. ومن كتيرة كانت سيدة وعبدالقادر وحامد 





وعدوية ورقية وسعاد. 

إسماعيل كان مساعداً للضابط الإداري في مجلس ريفي حمر ومحمد الشيخ شرتاي في 
الصقع وأحمد نائب أمير قبائل حمر. وآمنه والدة المحامي صلاح الدين محمد صالح وحسن 
المحاسب ووالد كل من خبير وأخصائي الأعصاب والمخ ناصر وتوأمه ياسر مهندس 
الإنشاءات. ثم الاخت أساء التي آثار اسمها العديد من التعليقات في أوساط الحوش إذ كان 
جدیدا تماما على السامع في تلك الأيام. 

وکا أسلفت فإن روزة والدة خبير التأمين معتصم علي إبراهيم المدير» وحليمة والدة 
كل من المهندس والضابط المتقاعد عبد المنعم أحمد جحا وكذلك الماحي أحمد جحا المهندس 


الزراعي ورجل الأعمال والطبيب حيدر. وبعد حليمة كان على خبير النسيج المتقاعد ومن 





مركز محمد عمر بشير 
أعيان مدينة الدروشاب بالخرطوم بحري وأم فرسان والدة المصرفي عبد الرحمن علي عبيد الله 
ثم الاحي رجل التعليم المتقاعد وإمام مسجد والده بالنهود وعائشة زوجة الشرتاي أحمد 
المجيو نيوو دالدة محبوب رجل الأعمال. 

- آما سيدة فهي زوجة عبد الرحمن عمر أول نائب من دار حمر عن الدائرة الشيالية في 
البرلمان السوداني الأول الذي أعلن الاستقلال ومن رجالات حزب الأمة وتولى قبيل تقاعده 
مهمة ضابط او لاراضي مشروع بكر عسلایة. وعید القادر هو آمپر قال داز مر 
وأمير آمراء السودان ورجل الادارة الاهلية اللامع. وكان حامد آخر باشکاتب لرکز النهود 
قبل تصفية الراکز فانتقل إلى مجلس ريفي دار حمر وعدوية هي زوجه البرلاني رجل حزب 


الامة اللازم الزين مر دس ٠.‏ 





آما زوجته (بلالة) بنت الشیخ محمدين الادریسی فقد آنجبت له (حمدین) رجل 
الأعمال والقرشی خبير علم النفس بالامارات وعمر القانوني بالامارات وعبدالميد وزير 
الصحة بولاية شبال کردفان ممثلاً للحركة الشعبية لتحریر السودان قبل انفصال دولة جنوب 
السودان و محمود الذي يعمل بالتجارة في النهود وعبدالعزیز اليکانيکي. ۱ 

ومن البنات نور زوجة قاضي المحكمة الشرغية العلیا عبدالله محمد امد کیبر 
وإخلاص زوجة الدكتور أحمد علي محمد عبيد الله الوزير الإقليمي ورئيس مجلس ولاب شال 
كردفان وعلوية زوجة قطب حزب الأمة التجاني إبراهيم ناصر. 

كان والدي يحتفظ في العادة بثلاث او اربع زوجات رزق منهن جميعا بالولد أو 
البنت أو کلیهیا إلا في جالتين سرحهی بإحسان. وله من زوجته (أم أخوان) بنت واخدة هي 


(جدية) المتزوجة من محمود صلاح بخاري أخ السفير أحمد صلاح بخاري وله زوجته 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
(مادريتي) الطاهر الوحيد في ابنائه الذي نال تعليياً فوق الجامعي بدرجة الماجستير من جامعة 
(بونا) بالهند ثم أبوبكر المعروف باسم (بكري) ومن الیثات أرض الشام زوجة رجل التعليم 
التجاني حمد داوود واقبال وكلثوم. 

وكانت آخر زوجات والدي(حواء) رابح خلفت له ناصر الفني الكهربائي في العين 
الا مارات ومن البنات فتحية وسمية ويسرى وإسراء ومروة وقد كن صغيرات وكذلك ناصر 
وقد أوصانا بهم خيراً عند وفاته عليه الرحمة في عام ۱۹۸۰ هذه هي الأسرة المباشرة وقد 
كنت التاسع في ترتيب البنات والأولاد والخامس بين الأولاد. 

تم اكتمال بناء (مدرسة صقع الجمل الصغری) وجاء المدرس الوحيد ونزل معنا 
ضيفاً في الحوش لأنه كان غير متزوج. وظل اسمه محفوراً في ذاكرتي إلى أن توفاه الله عام 
4م ألا وهو طيب الذكر المرحوم التجاني محمد زين. 

وافتتحت الدراسة عام ۱۹۳۸م بفصل ضم تلاميذ كباراً في السن آغلبهم فوق 
الثانية عشرة وكانوا (حيران) مبرزين في مسيد الشيخ الدسوقي أو فكي عمر واستهوت 
أهلهم فكرة المدرسة وأقبلوا عليها بشغف. وكنت في الرابعة من عمري واعتبرت صغیراً على 
الدرسة رغم أني كنت ارتاد المسيد صباحاً ومساء في صحبة الأخ (الریح) والذي انضم 
للمدرسة وتركني أذهب وحيداً في الصباح إلى مسيد الشيخ الدسوقي. 

ولكن الأستاذ التجاني» وکنا نسمیه شيخ التجاني وهو لقب کل مدرسي الدارس 
الأولية بدأ بعد عودته من الدرسة يعلمني (الحساب) إذ وجد أن عندي مبادئ بالكتابة 


وببعض قصار سور القرآن. 








مركز محمد عمر بشير 

ومع بداية السنة الدراسية الثانية التحقت بالمدرسة وقد كنت مزهواً بوضعي الجديد 
إذ أصبح لي طقم ملابس للمدرسة مكون من إثنين جلابية دبلان أبيض وإثنين (عراقي) 
للألعاب خاصة كرة القدم والتي ۸ أبدأ مارستها وسط كبار التلاميذ والذين انضم إل 
بعض شباب الصقع. كذلك أصبحت لي (شنطة) من الدمورية أضع فيها (كتاب الأطفال) 
وجزء عم من القرآن الكريم وأحياناً يسمح لي شيخ التجاني بإحضار (لوح الأردواز) وقلم 
(الأردواز) لكي أتلقى تعلياً إضافياً في المنزل. 

كما ذكرت فان شيخ التجاني كان المدرس الوحيد وكان يقوم بتدريس ثلاث حصص 
في اليوم للفصل الواحد: حساب. لغة عربية ودين. 

وعندما أصبح لديه فصلان في السنة الثانية كان يستعين ببعض كبار تلاميذ السنة 
الثانية من كانوا متقدمين في حفظ القرآن في المسيد يساعدونه في تدريس اللغة العربية أو 
الدين لتلاميذ السنة الأولى. 

ولا أذيع سرا فقد أفشيته من زمن» أن أحد هؤلاء التلاميذ المدرسين كان الدكتور 
الدرديري إبراهيم على (الدسوقي) ابن التاجر الكبير الشيخ الدسوقي صاحب المسيد 
بالصقع» وكان معه أخوه الاکبر» أمير» والذي كان يساعد بدرجة أقل لانشغاله بمساعدة 
والده في المسيد وی التجارة. 

ولحسن حظنا في المدرسة» على عكس السید» لم يكن شيخ التجاني يجلد تلاميذه بل 
كان ودوداً ناصحاً حبب إلى الجميع الدراسة لهذا لم يجد شيخ الدرديري فرصة لكي يجلدنا 


رغم الأخطاء التي تبرر ذلك فنجونا من يده ومن سوطه ولكن لم ينج أحد من لسانه. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

ونسبة لعدم وجود مدرسة للبنات» بل لم توجد أبداً في دار حمر مدرسة صغرى 
للبنات. فقد سمح شيخ التجاني لأولياء الأمور الذين لديهم بنات صغيرات أن يلتحقن مع 
الأولاد في نفس الفصل لتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والدين خاصة أن البنات لا 
يلتحقن بالمسيد وقد استجاب البعض وكان لدينا على ما أذكر ست زميلات» يجلسن في آخر 
الفصلء وأفاد التعليم واحدة منهن وأصبحت «دایة). 

بانتهاء السنة الثانية علمت من شيخ التجاني أني» وشيخ الدرديري» سوف نذهب 
لتكملة الدراسة في مدرسة النهود إذ إن المدرسة بالنهود بها أربعة فصول وليس سنة أولى 
وثانية مثل المدرسة الصغرى. 

وعندما وصلنا لمدرسة النهود أجري لنا امتحان كانت نتيجته أن ألحق شيخ 
الدرديري بالسنة الرابعة رأساً لتميزه الواضح وألحقت بالسنة الثالثة. 

وقد كان بالنهود مدرستان: مدرسة شرقية وتقع شرق المدينة ويدرس فيها أبناء 
النهود والمدرسة الغربية ويدرس فيها التلاميذ الذين يأتون من القرى المحيطة بالنهود في 
الغالب الأعم وا داخلية لمن ليس له أقارب في المدينة. 

عند وصول للنهود كنت في غاية الانبهار رغم إني ودعت بالبكاء والدموع من 
خالتي وعم عتان والريح» ورغم حزني لفراقهم وفراق أصحاب المدرسة والمسيد وفراق 
شيخ التجاني إلا أني وجدت أشياء جديدة ومثيرة. معظم الباني من الطوب» ومباني الحكومة 
(المركز) من الحجر والطوب الم وكذلك السوق» وسوق الطاحونة والآذان» و(النوبة) 
كل ليلة جمعة وليلة إثنينء الدرسون على خلاف شيخ التجاني یلبسون(القفطان) 





مركز محمد عمر بشير 
وبعضهم(عبایة) وواحد فقط(رداء وقميص) تماماً مثل مفتش المركز وهو أستاذنا الجليل 
مهيد بانقا. 

لابد من وقفة مع الدرديري: الأخ والزميل الدرديري إبراهيم كان كبيراً في السن 
بالنسبة لنا كما كان لديه» شخصية مميزة» وله نوادر يسبب ذلك أنه كان عندما يترك اللرسة 
بعد الدوام لا ببس (العراقي والسروال) بصفتهیا زي النزل بل يلبس الجلابية والقفطان 
والعمة (القلووظ) کا كانت تطوى ویذهب عصراً إلى (نادي السلام) وهو النادي الذي 
أنشأه دار مديئة النهود عام ۱۹۱۲ من بقايا 57 المركز والمسجد ومنازل الموظفين 
البريطانيين والمصريين والسودانيين. 

وافتتحه الرحالة الصري (أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي لفاروق الأول فيا بعد) 
يأتي إليه التجار (الشوام» سوريون ولبنانیون لم يحضروا تقسيم الشام إلى سوريا ولبنان) والتجار 
لیونانیون وبعض أعيان النهود وموظفو الرکز والمعلمون ومعهم الدرديري. 

ولا كان (حريفاً) في لعب الدومينو فقد كان يتسابق الجميع لكي يكون زميلاً هم 
رغم أنه عضو جديد. ويبدو أنه كان يقسو على الجانب المهزوم بلسانه العروف فقد اختزن 
أحد أعضاء النادي صورته وكان يحاول اللعب ضده غير أن هذا العضو تأكد أنه أحد 
تلاميذه خاصة بعد أن سمع صوته في إجابة على اللاعب في الناديء وبالطبع لم ينكر 
الدرديري أنه هو فاال عليه -الأستاذ تقريعاً ومنعه ليس فقط من ارتياد النادي بل أيضاً من 
ارتداء القفطان الذي يلبسه بعض المعلمين وكبار التجار. 





النادرة الثانية للدرديري كانت مع اللواء أحمد عبدالوهاب نائب القائد العام للجيش 
السوداني وأحد أبرز رجال الجندية السودانية كانت الكلية الحربية تخرج طلبتها بعد سنتين 








ا مسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
دراسيتين تقتصر فیهیا كا يبدو على العلوم العسكرية البحتة. وأرادت قيادة امیش أن تدخل 
علوماً حديثة كالاقتصاد والإدارة ودراسات متقدمة في الجغرافيا و.. فأعلنت عن حاجتها 
لخريجين جامعيين من نالوا تدريباً عسكرياً في المرحلة الثانوية (الكاديت) للتدريس بعد قضاء 
فترة عسكرية مدتها ستة شهور بالكلية الحربية. 

اجتاز الدرديري مع زميل له كل الاختبارت وأخطرؤا بالذهاب إلى معاينة نهائية مع 
نالب القائد العام اللواء آهد عبدالوهاب ويمكنهم في هذه المقابلة سؤال سعادته عن أي أمر 
لأنهم وفقاً للنظم العسكرية سوف لا يجدون مثل هذه الفرصة. 

بادر الدرديري بأن (الجماعة ديل قالوا لينا الحد الأقصى الذي نصله في الجيش هو رتبة قائم 
مقام شرف عقيد شرف) رد عليه سعادة اللواء بأنه إذا أراد أن يشير إلى أحد في الجيش فيتتحدث 
برتبة (موش الجراعة ديل) ثم إلى أي رتبة يريد ان يصل. قال الدرديري بفصاحته المعهودة أنه يعمل 
في وزارة المالية والطريق آمامه فاتح إلى درجة الوكيل في الجموعة الأولى: يعني لواء في الجيش.. 
وقبل أن يسترسل قاطعه سعادة نائب القائد العام أنت ملكي ونوصلك قائم مقام (عقيد بلغة 
اليوم). ولسه عاوز تكون لواء في الجيش السوداني» دا ما يبقاش جيش» أنا لغيت الوظائف دي» 
أتفضلوا أطلعوا برة. مسكين الجيش السوداني لقد أكرم الله اللواء أحمد عبدالوهاب. إذ لم يحضر 
الزمن الذي أصبح فيه الملكي ليس ققط لواء بل فريقاً. المهم عاد أخونا الدرديري إلى الالية ثم البعثة 
وبنك السودان والدكتوراه والاغتراب. 

ترى هل كان إذا استمر في ا جیش» بآرائه وشخصیته» أن يستمر ليصل حتى إلى قائم 
مقام شرف دون أن يطاح به في انقلاب أو يطيح في انقلاب. 





مركز محمد عمر بشير 

آنکر الدرديري هذه الرواية ونسبها إلى زملاء يمزحون مؤكداً أن (اللواء) عبود 
القائد العام هو الذي نصحه بعدم الخدمة في الجيش لقلة فرص المستقبل فيه بالنسبة له. 

غير أن أهم ما استرعى انتباهي أن(الحوش) في النهود كله من الطوب وكذلك 
الغرف للسكن بالداخل وللضيوف في فنائه الواسع. بدلاً عن (الراكوبة) الكبيرة التي يتم فيها 
استقبال الزوار في الصقع. كان في النهود ولا يزال ديوان تحيط به برندة دائرية وفي ركن بين 
الحوش الداخلي والخارجي برميل كبير يملا يومياً بالماء الذي تحتاجه الأسر والضيوف من 
الآبار التي تقع شرق الدار. 

وعند حضوري من الصقع كان داخل الحوش ثلاثة بيوت لثلاث زوجات: البيت 
(الصبحاني) أي الشرقي وبه أم النصر أكبرهن» والبيت (الريحاني) أي الشالي وبه دار السلام 
والبيت (الغرباني) أي الغربي وبه كتيرة» وفي الوسط بيت أقل حج) اكتشفت أنه بيت الحاج 
عبدالله وهو خالي لأمي. وكان ملازماً لوالدي منذ أن كان في قرية (أبو جفالة) قرب آبوزید 
وقبل أن يتولى النظارة ثم سافر معه إلى صقع الجمل وجاء معه إلى النهود وكان المسئول عن 
إدارة الحوش واستقبال الضيوف وتأديبنا نحن الصغار. 
تعرفت بعد وصول إلى النهود على إخوتي الآخرين الذين لم أكن أعرفهم أو حتى أسمع عنهم 
وهم الكبار: إسناعيّل وحمد الشيخ وأحمد. والصغار حسن وعبد القادر وعلي والاحي 
وحامد وكذلك إخواتي روزة وحليمة وأم فرسان وآمنه وعائشة. 

وكنت الوحيد الذي ليست له أم وسطهم ووضعت ضمن مجموعة أم النصر غير أني 
كنت أتلقى رات من فاطمة كتيرة وأيضاً من دار السلام وزوجة خالي عبدالله 





وسمعت لأول مرة كلمة يتيم. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
ومحمد الشيخ وأحمد. تحت قيادة أحد آبناء القبيلة العديدين الذين يسكنون معنا في غير 





الداخلية واسمه حامد الناير» وسأتعرض هذا الاسم عند كتابة قصة الغزو الليبي أو غزو 
المرتزقة عام 1917/5 م. 

كنا نتسلم نحن الخمسة مبلغ خمسة مليهات أو نصف قرش للإفطار بالمدرسة ويقوم حامد 
الناير بشراء(اللقيات والفول السوداني) وبطيخة صغيرة وغالباً ما يوفر مليم أو أكثر. ثم عادت 
خالتي فاطمة إلى الصقع ومعها أختي الملكة بعد أن تعلمت أسس ال حياكة والتدبير المنزلي. 

اندمجت في جو المدرسة بسرعة ساعدني عليه الإعداد الجيد الذي شملني به أستاذي 
شيخ التجاني فكان ترتيبي الثالث في امتحان النقل من السنة الثالثة إلى السنة الرابعة. 

لا أذكر من سبقني في الرکز الثاني ولكن أول الفصل آبرز تلاميذه كان حامد سليمان 
موسى وهو من أبناء الحي الشرقي في النهود وكان كبيراً في السن فارع الطول لم يشفع له 
نبوغه في الالتحاق بالمدرسة الوسطى لكبر سنه فانخرط في سلك التعليم مدرساً في المدارس 
الصغرى وكانت بیننا ولا تزال مودة ويزورني كلما سمحت ظروفي بزيارة النهود ويسميني 
لصغر حجمي (أم سیسی) وهو اسم لفأر صغير في كتاب المطالعة أيامنا والمسمى (كتاب 
الأطفال) وأسميه (قرنتش) وهو اسم لقرد كبير في نفس الكتاب. 

رشحني صغر حجمي لكي أكونن التلميذ الذي يتسلق على ظهور ثلاثة من زملائه في يوم 
الاحتفال بعيد جلوس ملك بريطانيا في ذلك الوقت واهتف ثلاثاً: يعيش جلالة اللك جورج 





ومأمور المركز السوداني. ونائبه وناظر عموم حمر وعمدة النهود. ويسبق الاحتفال ألعاب رياضية. 
ومياراة في كرة القدم بين ا مدوسة الشرقية ومدرستنا الغريبة ثم رواية توزع بعدها الجوائر. ٠‏ 

وقد كان زملاء الدراسة في ذلك الوقت برزوا فيا بعد الدكتور الشيخ أحمد جحا 
والبروفسور عمر حسن جحا ورجل .الأعيال محمد أحمد جحا الشهور باسم دقيس والشاعر 
الدکتور تاج السر الحسن وجميعهم من المدرسة الشرقية. 

أما من المدرسة الغربية فقد برز الدكتور البيطري محمد البشير مفرح والبروفسور 
محمد أحمد الحاج وإبراهيم منعم منصور والاحصائي نعيم الله البشاري والدکتور عرض 
السيد مصطفى والقطب الاتحادي بشير محمد خير حسن (طلمبة). 

وقد كان الناظر منعم منصور يتوقع أن يصل إلى المراحل الدراسية المتقدمة عدد أكبر 
من المدرسة الغربية التي تمثل أهل الدار أکثر من أهل المدينة النهود الا أنه علم أن أكبر 
العقبات هو العمر المتقدم إذ إن الأهالي يحتفظون بأولادهم للمساعدة في رعي الأغنام 
والزراعة ما أمكن قبل أن يدفعوا بهم إلى المدرسة كما أن الفقر يحول دون متطلبات التعليم من 
ملابس ومصاريف. 

وكان من نتيجة ذلك أن دعا إلى (مال التعليم) وهو نصف قرش ارتفع إلى قرش ثم 
قرشين يجمع من كل من هو في كشف ضريبة القطعان لتيسير تعليم أبناء النطقة وهو ما آمل 
أن أتعرض إليه بتفصيل أكثر عند الحديث عن الإدارة الأهلية. 

بانتهاء العام الدراسی الثالث وزعت علينا في الدرسة كراسة أنيقة مبوبة على أيام 
أسابيع شهور الإجازة الثلائة اسمها (المدونة الطبيعية) وشرح لنا الاستاذ مهيد أستاذ 


سس لسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
(الطبیعة) أن نرصد کل یوم بعض الظواهر الطبيعية مثل اتجاه الریحالسحب. الأمطار: 
خفيفة أو متوسطة أو غزيرة» حرارة الجو: حار بارد...إلخ. 

وبعد عودتنا قام الشيخ مهيد بانقا بالاطلاع على المدونة وكتب تعليقاته لكل تلميذ 
حسن» ردئ» اجتهد أكثر. 

ولا کبرنا تعجبت كيف أننا في تلك الرحلة كان التعلیم الأولي (الاساس) بهذا 
الستوی في أوائل أربعينات القرن العشرین» ليس هذا فحسب بل أننا قبل وبعد نهاية السنة 
الدراسية نسير في طابور: كل فصل في يوم إلى مستشفى النهود حيث يتم فحص البول لكل 
تلمیذ» ويكشف عليه (المساعد الطبي) أو الحكيم باشا (الطبيب) بالسماعة ثم يعطي کل منا 
جرعة من شراب (الکینا) للوقاية أو العلاج من الملاريا. 

ثم يتم التطعيم (مرة واحدة) ضد (الجدري) أما التلميذ الذي يشعر بأي مرض فيعطى 
(دفتر أورنيك مرضي) يذهب به إلى المستشفى يتعرض فيه إلى كشف دقيق ويكتب الطبيب تعليقه: 
إما دواء شغل» أي منح الدواء ويعود للدراسة أو: راحة أو: يحجز بالمستشفى للعلاج. 

كانت الإجازة في الصقع هذه المرة حافلة بنشاطات جديدة فقد رأى عم عتمان أني قد 
أصبحت رجلا أصحبه إلى السوق كل يوم جمعة ويوم اثنين» كما أصحبه إلى (الدونكي) عندما 
تأي أنعام الأسرة للشراب. 

وعندما يحين الوقت للمشاركة في(نفير) حفر(رهد) أكون من المشاركين ويقدمني 
لأهل المنطقة. وعادة حفر الرهد كانت ممارسة بشكل دقيق ومسئول من كل المواطنين 


القادرين. وكان حول الصقع أربعة حفائر أو رهود. والرهد منخفض طبيعي تتجمع فيه مياه 








مركز محمد عمر بشير 
الأمطار وبعد جفافه وقرب نزول الأمطار يتم إزالة الرمل والطين والأشجار والحشائش منه 
ومن (الخيران) التي تجلب له الماء. 
وقد كان أصغر الرهود هو رهد صقع الجملء يليه إلى الجنوب قلیلاً رهد قرية 

(أبوعشار) وبقربه آثار آبار (ود المليح) التي اندثرت. ويبعد عنه جنوباً بقليل رهد قرية 
(بوطة) وإلى الشرق منه أكبرها جميعاً رهد قرية (أم دباللو) ویستمر الماء متوفراً في هذه الحفائر 
عدة شهور بعد الخريف. 

وقد علمت أنه قد هجر الناس هذه العادة الحميدة ولم يتم تطوير واستغلال هذه 
الحفائر بطريقة علمية حديثة إذ وصفها البعض ضمن ما وصفوا من حميد العادات والعرف 
انا (سخرة). 

وفي محيط الأسرة فإنه عند عودتي إلى الصقع بعد إجازة السنة الدراسية الثالثة 
وجدت أنه قد بنى داخل الحوش منزلان جديدان واحد لجدتي (فطومة) وآخر لخالتي(حواء) 
وزوجها جمعة سالم. وقد جاءت فطومة جدتي لأمي ومعها خالتيء وم أكن أعرفها أو 
سمعت مها من قبل» من قرية (ابوجفالة) من ضواحي أبوزبد کا أسلفت لتكونان بجانبنا. 

وقد كانت جدتي ذات مال وفير تمثل في عدد الأبقار التي صاحبتها وعدد من الماعز 
التي اشترتها في زمن وجيز عند عودتها لاعتقادها أن لبن الماعز أفضل للصغار والكبار من 
لبن الأبقار ولان وهذه حقيقة» سمن لبن الماعز لا جمد مثل سمن لبن الأبقار. 

وقد شاع آنا جاءت بكيس كبير من قهاش (التیل) مملوء بالريالات الفضية فئة 
العشرين قرشاً. وعندما تقدمت في العمر قليلاً أكبرت فيها الروح التي جعلتها تصفي 


3 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
زراعتها الكبيرة وتجارتها المتواضعة وتترك دار إقامتها الطويلة وتأي لتكون بجانبنا في صقع 
الحمل بعد وفاة والدتي. 

هذا بالرغم من أن الحوش في الصقع به أيضاً منزل جدتي لأبي (أم وادي) وكانت 
تحفنا أيضاً برعايتها وخاصة شخصي الصغير خوفاً من أن يكون مصيري مثل أخي الأكبر 
منصور الذي ذهب بعيداً إلى (دار الصباح) إلى الأبيض حيث التحق بالمدرسة الوسطى 
وقبلها إلى آبوزید التي تزوج فيها قبل الذهاب إلى المدرسة الوسطى. زواج أبناء المنطقة مهذه 
الطريقة كان الأمر الغالب: فعلها محمد البشير مفرح ونعيم الله البشاري. 

وتسكن مع جدتي (أم وادي) ثلاث بنات: كلتوم- عائشة- أم أخوان وقد علمت 


ا حفيداتها من ابنتها الوحيدة وسقيقة والدي والتي توفیت قبل أن آولد. وكانت تقوم 





بتربيتهن إذ إن والدهن (محمد فرحنا) تركهن في رعايتها ويزروهم من وقت لآخر» إذ سكن 
لظروف عمله في النهود. عائشة الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة (۲۰۱۱ع). تسكن مع 
أسرتها في واد مدني حيث كان يعمل ابن عمتها وزوجها خبير التدريب المهني عبدالله آدم قبل 
وفاته. ونتزاور حالياً في الأفراح والأتراح. 

حديث موجه إلى آفراد الأسرة والأهل ولابد منه وعذراً لمن لا يعنيه أو أضاع وقته. 

ونا أودع المدرسة (الأولية) بمدينة النهود لابد أن أذكر أن دخل علينا يوماً آستاذنا 
(الشيخ إبراهيم عمر عبد الرحمن) مدرس (العربي والديانة) وأفادنا بلغة مبسطة آننا جميعاً 
(سودانيون) وكلنا من آدم وآدم من طين ولا يريد أن يسمع منا أنه من (قبيلة) كذا أو كذا. 

تعجبنا في البداية ثم رويداً رويداً حفظنا (الدرس) وأنه إذا سألنا أي 


( ا شنو ؟ نقول سوداني). وكان یفاجیم بعضنا أثناء (الحصة) : فلان جنسك 








مركز محمد عمر بشير 
شنو؟ فإذا أخطأ وذكر القبيلة نال (كفاً) ساخنا إلى أن أصبحنا جميعاً في الفصل (سودانيين)“ 
ثم جاءنا رغم أنه ليس يمدرس (الجغرافيا) بقصيدة الأستاذ عبد الرحمن علي طه عن (سبل 
كسب العيش في السودان) وحفظناها إلى أن جاءتنا لاحقاً في درس الجغرافيا. لابد لي بعد 
سبعين عاماً- أن آوردها هنا بمناسبتها وملابساتها لعلها - لعلها - ولعلها- تلهم حكامنا 
اليوم في الإنقاذ شيئاً يتداركون به ما أعادوا به البلاد قرناً إلى الوراء. 


(:) ورد في الجلسة رقم (17) للجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجمين في يناير ٠‏ 414١م‏ أن السيد/ محمد عامر بشير فوراوي اقتراح : " أن يتوجه المؤتمر إلى 
الشعب بنداء عن الجنسية السودانية والتمسك بها بدلاً عن ذكر القبائل” وبعد مناقشة الموضوع تم تكليف العضو مكي شبيكة بتحضير 


بيان في ذلك الموضوع. (محاضر مؤتمر الخريجين- جزء مفقود- ص 88). 


: تسس السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سه 
سبل كسب العيس في السودان ووجدة السودان. 
عدة رحلات قام بها من أساتذة بخت الرضا: عبدالرهن على طه- الشيخ مصطفى 

(شيخ الشيخ) عثان محجوب- سر الختم الخليفة- مكي عباس - امد إبراهيم فزع- النور 
إبراهيم- جالسون إسمث. 

۱ ثم صاغ حصاد ما عادوا - شعراً الأستاذ عبدال رمن على طه وأوضح هنا أمام كل 
بلدة اسم الضیف. 
الرحلة الأولى: القولد في الديرية الشمالية (صدیق) 
اثرحلة الثانية: ريرة في البطانة مديرية كسلا (القرشی) 
الرحلة الثالثة: الجفيل في شال کردفان (سلیان) 
الرحلة الرابعة: بابنوسة في جنوب غرب کردفان (ابن الفضل) 
الرحلة الخامسة: يامبيو في الديرية الاستوائية (منقو) 
الرحلة السادسة: محمد قول في شال البحر الاحر (حاج طاهر) 
الرحلة السابعة: ود سلفاب: وسط الجزيرة (أحمد) 
الرحلة الثامنة: أم درمان (إدريس) 


الرحلة التاسعة: أتبرة- أو (عطبرة) المديرية الشمالية وعاصمة السكة الحديد(عبدالحميد) 


تقول القصيدة:- 
فى (القولد) التقیت (بالصديق) أنعم به من فاضل » صديقى 
خرجت أمشى معه للساقية ويالهامنذكريات باقية 
فک أكلت مع هالكابيدا وكلمس معت آورو والودا 


تیف 





ودعتهوالأمل والعشيرة 
نزلتهاو(الترشی) مضيفى 
وجدتسه یسسقی جموعالإبل 


وکان سفري وقفت احصاد 


وی و ف 


وة ارخ دار افاي 
ألفيته وآهلهقدرحلوا 


فى بقعة تسمى (بابنوسة) 


مازلت فى رحلاتى السعيدة 
منطقة غزيرة الأشجار 


قدملى (منقو) طعامالبفرة 


وبع‌دها استفر بى رحيلٍ 


د الا 


مرکز محمد عمر بشير 


KHK 


KHK 


KKK 


KHK 


RHR 


كمقصدت من هناك ريره 
وكان ذاك فى أوان الصيف 


من ماءبئر جر بالعجل 


ذات افشاب النضر ا 
فسرت مع رفیقی للبلاد 
ماخ لاب ابا 


لكي آزور صاحبی (ابن الفضل) 
من كيلك وق الفضاء نز وا 
حیث التق وا فبابة تع 

حتی وصلت (یامبیو) البعيدة 
لاپامسن کش الامطار 

وهولذیذ کطعام الكسرة 


وهو فتى بف نالصيد ماهر 
وذقت ساء لا کء النهر 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 


رحلت من (محمد قول) ل(ود سلفاب) لالتقی بسسابع الأصحاب 

وصله والقطن ف المعل نضر يروى من الخزان لا من الطر 

أعجبنى من (أمد) التفكير اک جا بتو لبه | ایس( 
KK‏ 

ولست أنسى بلدة (أم درمان) وبا سسا بحر ك الحسكان 

إذا مر بي (إدريس) ف المدينة ویاضامسن فرصهء تة 

شهدت أكداساً من البضائع وزمراًمن مشتروبائع 
KKK‏ 

وآخرالرحلات كانت أتبره حيث ركت من هناك القاطرة 

سرت ماق سفر سعيد وكان سائقي (عبداخمید) 

ا سير شك كلد اسان 
KKK‏ 

كل له ی عيشه طريقة ماکنت عنهاآعرف الحقيقة 

ولاآاشل آن فی بلادى فلا ن ادر ا اد 

فابشر إذن يا وطني الفدی بالسعي مني كي تنال المجدا 





ونحن نتغد هذه القصيدة الدسمة بجغرافية ووحدة البلاد أطل عليها شاعر آخر 
من أساتذة بخت الرضا بأبيات من الشعر تؤكد لمعاني ووحدة جنوب وشال البلاد 
فظناها نشيدا في الوجدان والقا ب ولا نزال نرددها رغم ما شاب علاقات شطري 


البلاد.. وسنظل. 





أنت سوداني وصوداني أنا 

ضمنا الوادي فمن يفصلنا 
نحن روحان خللنا بدنا 
منقو قل لا عاش من يفصلنا 


ريما هذا مرت بخت الرضا قلعة (قومية) التعليم والبلاد. 

ومن محاسن الصدف أن وجدت في سفارة السودان بواشنطن وأنا وزير للالية:. 
شخصاً يعمل بها اسمه (صديق عبدالرحيم) حرمته لائحة شئون الخدمة من تذاکر مجانية 
للسفر في إجازته إلى السودان لأنه (تعيين محلى). هاجر إلى أمريكا واشتغل في السفارة. لو كان 
في السودان وتم تعيينه ونقل إلى واشنطن يمنح التذاكر المجانية. سألت "دا صديق بتاع 
(القولد)"؟ قالوا "نعم". أصدرت تصديقاً مالياً استثنائياً بمنحه التذاكر ارتاح السفير عمر 
صالح عيسى لأنه يعلم أنه أحد معام تاريخ البلاد. 











المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

كنت قد بدأت الكتابة بذكر حياتي قبل أن أصبح (شخصاً عاماً) ملکي لا سلطان 
لأحد عليها. ولكن بمجرد أن يلج الشخص العمل العام في منصب سياسي بالدولة يصبح 
كتاباً مفتوحاً. وقد قصصت فیا سبق ذلك الكتاب قبل أن أصبح وزيراً. ودون أن يسأل أحد 
عن أسرتي ونشأتي وأهلي وعشبري وعملي الخاص والعام. ومع أن الاسترسال في بعض 
الحوادث والمواقف جرني إلى تداخلات بين الخاص والعام إلا أن هذا الجزء سوف يكون في 
عمومياته عاما. 

ولكي آدخل في هذا الجزء الثاني لابد أن (أعرف نفسي) وأجيب على التساژلات 
التي أشرت إليها: الأمر الذي جعلني أعود مرة أخرى إلى الوراء إلى ما قبل بدء المراحل 


الدراسية وإلى (حمر) و(دار حمر) وال مسقط رأسي قرية (صقع الجمل) مركز النهود. 








مركز محمد عمر بسير 
دار حمر.. من هم... حنودها.... العرف .... 


كا ذكرت فانه بدخولي المدرسة الأولية- الغربية- بالنهود في عام ۲٤۱۹م‏ أصبحت 
أعود إلى الصقع في كل إجازة سنوية أو نصف سنوية ويطوف بي عم عتمان كل المحافل فخوراً 
وحانياً وخاصة وأنه حتى ذلك الوقت لم يرزق ذرية من خالتي فاطمة. ويقيم لي المآدب 
وأحياناً الحفلات ويدعو كاتب المحكمة عبدالسلام الخيري وأبناء عمي منصور إسماعيل 
(قراض القش) وهما أحمد المنصور وإسماعيل الشهير باسم (حدبة) كذلك المساعد الطبي 
عبدالقادر محمد بلتة والمشهور باسم عبدالقادر الشايقي. وظلت تربطنا صداقة ودرجة نقية 
من الاخاء مع ثلائتهم رغم فارق السن بیننا وبين عبد القادر الشايقي. فإذا لم تكن هناك 
سيارة قادمة إلى الصقع كنت أركب جملاً عليه كل مظاهر الابهة من (فروة ريف بيضاء) 
وسيف رغم أنني ما كنت استطيع استخدامه لو حمي الوطيس وإنا (أهز) به داخل غمده 
تفاخراً. وكان للعم عتمان نفوذ كبير في الصقع وفي القرى المجاورة کا ذكرت من قبل وكان 
يمتلك أعداداً مهولة من الأبقار تقارب ما يملكه الوالد وكذلك قطيعاً من الماعز التي يعتبر 
لبنها أفضل من لبن البقر وكذلك السمن المستخرج منه. وبعد فترة من ترددي في الإجازات 
على الصقع اتضح لي في مناسبة زيارة أحد مفتشي المركز البريطانيين أن عم عتمان أحد أفراد 
الحرس الرئامي للناظر منعم في محكمة صقع الجمل إذ كان عليه أن يخلع الجبة والملفحة 
والعمة ويلبس الزي العسكري وكان يشمل حزاماً أحمر اللون يسمى (الشالایة) ويربط من 
فوق الشالاية الحمراء (سير) من الجلد في وسطه دائرة من النحاس الأصفر. وكان كل مفتش 
يعلق (آن اللبس بتاع عتمان نظيف والشالاية والسير يلمعوا) وم يكن يدري أن عم عتمان لا 





۱ المسيرة مذکرات ابزاهیم منعم متصور - الجزء الأول سح 
يرتدي الزي إلا عند حضور الفتش الأول الذي یصل خبره مقدما بأنه سوف ۳ 
القوة العسكرية في الصفع. 

كان شیوخ ورجال الادارة الاهلية یستخدموت آقرب الاشخاص لديم في وظائف 
(حرص) تصرف شم الأزياء الرسنمية ویتقاضون مرتیات من الدولة. هم من جهة لديهم صتة 
رسمية إذا لزم الامر تجعل شم مکانة رسمية واجتياعية خاصة في مجتمع القری ويمكنهم من 
إصدار التعلییات والاوامر متی دعت الحاجة وإلى حمل السلاح الرخص والقانوني لقيادة 
عملیات (الفزع) أو تعقب الجناة الفارین من وجه العدالة. وفي:أحيان استقبال قوافل العري 
الرحل من القبائل الاخری الذین قد يتجاوزون السنارات المتفق علیها بين الزعامات. في غير 
هذه الناسبات أو ما یشاهها فانبم (شیوخ) هم مکانتهم یلبسون کما تلبس الزعامات بل هم 
أنفسهم زعامات بالفعل بفضل التفوذ وهيية الحكم. 

ومن هؤلاء في صقع الجمل (الشیخ عتیان جمعة) أو شيخ عتمان کا ینادی. 

وحضور المفتش - الأول أو الثاني- أو ضابط الجلض والإداريين من بعدهم خلا 
مناسبة للصغار- للجري وراء العربة التي يحضر بها من سکان لآخر وكثيراً ما كانوا یلحقون 
بها بسبب الرمال. أحد المفتشين واسمه مشتر ميال- أصبح فيا بعد وكيل حكومة السودان 
بالقاهرة (آشبه بالسفير قبل الاستقلال) اختار أن تبنی له استراحة على رأس (قوز) عن 
الرمال تجد العربة والناس مشقة في الصعود إليه ولكن تحس بالراحة واهواء النقي بمجرد 
الصعود إلى القمة والاستراحة. بتقله عادت الاستراحة إلى مكان داخل صقع الجمل ولکن لا 
يزال (القوز) حمل اسم (قوز ميل) 


مركز محمد عمر بشير 
... مأموريات الإداري التفقدية في دار حمر: 








كان الإداريون- عندما كانوا إداريين وليسوا حكاماً- يصلون إلى صقع الجمل من 
النهود عصراً إذ تبدأ الرحلة في العادة بعد الساعة الثانية ظهراً موعد انتهاء الدوام وتستخرق 
حسب مهارة السائق ساعتين تقل أو تزيد. ويتجه إلى (الاستراحة) وهي (قطية كبيرة) من 
قصب الدخن وملحق بها (راكوبة) هواية مع قطية أصغر لسكن طباخ المفتش والسائق 
العسكري الوحيد الذي يصبحه من الشرطة. وعند وصوله جد نصف دستة من بيض 
الدجاج و (زيراً) مملوءاً بالماء و(حزمة حطب وقود) وكورة لبن. ويستقبله الشرتاي أو رئيس 
المحكمة بكوب من عصير الليمون وبراد شاي سادة ويتركه بعد تجاذب الحديث حول 
الأوضاع العامة بالمنطقة. وفي الصباح الباكر تبدأ جولة الإداري قبل شروق الشمس بزيارة 
(السلخانة) ويتأكد بن المخلفات تدفن بحيث لا تنبشها الكلاب والجوارح وأن الذبيح يحمل 
بطريقة (صحية) إلى (الجزر) بعد السلخانة يذهب الاداري إلى (الدونكي- محطة الیاه) 
ويتعرف من الكاتب المسئول على أن احتياجاته من الزيوت والسيور متوفرة ثم عن تقريره 
للقطعان من أنعام العرب الرحل التي يتوقعها واستعداداته لاستقبالها والتعاون مع الشرتاي 
في ذلك ومن الدونكي إلى (السجن) لمقابلة المحكومين والاهم من ذلك (النتظرین) الذين لم 
تحدد مواعيد لتقديمهم للمحكمة سواء بسبب غياب الشهود أو أي أسباب آخری. ودائاً 
يستمع الوداري إلى شكاوي من كلا المحكومين والمنتظرين وكذلك المحكومات ويدونها 
ليبلغها إلى القاضي المقيم بالنهود أو إلى ناظر عموم حمر الشيخ منعم منصور إذا كانت قضايا 


E 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
موضوع النتظرین في (انتظار) العدالة كان يجد من الحكام البريطانيين على وجه 
الخصوص اهتماماً بالغاً إذ إن الشخص إما متهم أو بريء أو محكوم وإذا كان محكوماً لابد أن 
ينفذ فيه (الحكم) على الفور ولا يترك معلقا. فالحکوم له حقوق حتى لوكان الحكم بالاعدام 
شنقاً حتى الموت إذ لابد أن (ينفذ) فيه بأسرع ما يمكن حتى لا يعيش في آلام (IN Agony)‏ 
وأعجب عن من قتل نفساً زكية بغير نفس يجد الرحمة في موته من حكام وهناك النفس الزكية 
التي لا تجد الرحمة في حياتها من حكام. أصدر السكرتير القضائي منشوراً إلى جميع مديري 
المديريات (الولاة) بأن يصل إلى مكتبه في الخرطوم أي حكم بالإعدام خلال أسبوع على 
الأكثر من تاريخ ابلاغ الحكم للمتهم. حدث أن ترأس مدير مديرية كردفان محكمة كبرى 
بعضوية كل من الفاتح البدوي (والد سعاد الفاتح) قاضي درجة ثالثة بحكم الوظيفة 
(مأمور) والناظر ميرغني زاكي الدين ناظر قبيلة البديرية قاضي درجة ثالثة حيث حكمت 
المحكمة على المتهم بقتل زوجته عمداً بالإعدام شنقاً حتى الوت. كانت الجلسة يوم خميس. 
وفي انتظار طباعة الحكم وتوقيعه من القضاة الثلائه تلقى الناظر زاكي الدين خبر وفاة 
فاستأذن مسرعاً قبل أن يوقع للذهاب إلى ضواحي مدينة أم روابة. تبع أيام العزاء عطلة عيد 
الأضحى البارك وعند عودة الناظر بعد العزاء وعطلة العيد وتوقيع الحكم وإرساله بالقطار 
إلى الخرطوم كانت قد مرت فترة تقارب الأسبوعين قبل أن يستقر الحكم في مكتب السكرتير 
القضائي وإرساله إلى رأس الدولة (الحاكم العام) للمصادقة عليه وبدلاً من الوافقة تلقى 
مدير كردفان تلغرافاً: 
It 15 against all canon laws of humanity that the convict should remain‏ 
in a peril of his life for complete fortnight simply for breakdown 1n the‏ 
administrative system and judiciary of Kordofan province. Will you please‏ 


inform the convict that under no circumstances the death penalty shall be 
inflicted on him. Life sentence instead. 








مركز محمد عمر بشير 

وفحوى البرقية إذا صحت الترجمة هي أنه ضد كل القوانين الإنسانية أن يظل 
المحكوم عليه في خطر على حياته بسبب خلل في النظام الإداري وفي اهاز القضائي بمديرية 
كردفان. أرجو إخطار المحكوم عليه أنه في هذه الظروف سوف لا يطبق عليه حكم الإعدام 
ويستبدل بالسجن المؤيد. 

ونعود إلى جولة الإداري في الغالب يكون (جرس الفسحة) ضرب روج التلاميذ 
للفسحة من المدرسة- الصغرى ثم الأولية- لتناول وجبة الإفطار فيلحق بهم ليتأكد من أنهم 
(شبعوا) بترك بقايا في الصحون ولا يمه إذا كان الإدام لبناً طازجاً أو لبناً راتباً أو ملاح 
شرموط الهم أن يرى الرضا على وجوههم من كفاية الاکل. ومن داخلية الطلبة يتجه الركب 
إلى (الشفخانة) لسؤال المساعد الطبي عن احتياجات الدواء وانتظام وصوله وعن الأمراض 
التي ظهرت واحتوائهم للأمراض المستوطنة کاللاریا ويجري الصغار-وكنت يوماً 
آحدهم- وراء عربة الإداري من مكان لآخر في سرور وبهجة إلى أن ينتهي به الطاف إلى 
(السوق) حيث ینتظره المواطنون ومعهم الشرتاي أو رئيس المحكمة من الصقع ومن القرى 
المجاورة ويلتفون حوله ليس لتقديم الشكاوي فحسب وإنا لإبداء الرأي في كل ما حدث 
منذ آخر زيارة له وما يريدون أن يحدث- ونقدهم امادف- وقد يشطح- في وجود الشرتاي 
أو رئيس المحكمة دون أن يتدخل الشرطي المصاحب له من منعهم ويتناقش الجميع في هدوء 
تعلو فيه الأصوات أحياناً ثم تعود لطبيعتها لهيبة الحكم وبعد أن ينتهي البرلمان الشعبي 
والتکرر كل زيارة- يدون الاداري مذكراته ويعود إلى الاستراحة ليجد الشرتاي أو رئیس 
المحكمة قد استضافه بذبح (خروف) وتناول معه بصحبة بعض الأعيان (الشية والمرارة 


وعصیده بملاح التقلية) والشاي والقهوة. ويتبادل الوداري مع السئول الحلي الآراء في) 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
قابله في زيارته الصباحية- وفيا دار في السوق. وعند مغادرته منتصف النهار يكون الطباخ 
قد تسلم جزءاً من الخروف طازجاً ومشوياً زاداً للطريق. استمر هذا النهج في الإدارة 
والتواجد الدوري وسط المواطنين دون حراسة ودون تدخل من رجال (الأمن) لمنع المسئول 
من الاستاع إلى الناس ومنع الناس من لقاء المسئول- استمر إلى أن أصبح الحاجز بين 
الواطن والإداري يتمثل في رئيس اللجنة الشعبية- رئيس الشوری- مسئول الأمن ثم 
العتمد. وأصبح الجميع (حکاما) إذا حاول المواطن أن همس أو يجهر برأي أو نصيحة أو 
تعليق اعتبر مهدداً للأمن وقد لايعرف أهله مكانه أبداً أو بعد حين. سردت هذه التجربة التي 
عشتها صغيراً وشاباً وحتى كهلاً في اجتماع دعاني له- مشكوراً- د.بابكر محمد توم رئيس 
هيئة مستشاري مجلس الوزراء وأخبرتهم أنه قبل وصولي إليهم قابلت أحد هؤلاء الإداريين 





لك. ذلك أني- كإداري- إذا وجدت مثلاً أن حبوب اللاریا سوف لا تكفي بسبب تزايد 
المرضى أكتب خطاباً إلى (الفتش الطبي) وأطلب إرساله له على ظهر (جمل) سريع ليتسلمه 
(الباشكاتب) ويطبعه ويكتب في آخره (أرسل المسودة حامد أفندي على شاش ضابط 
المجلس وهو ي مأمورية 6 02 وسوف يوقع على الخطاب عند عودته) وعند العودة 
أوقع على نسخة الخطاب وترسل للتأكيد. 


الحاكم والقدوة: 


قلت للسادة المستشارين- بعد أن شکرتهم على دعوتهم للاستماع لتجربتي ولأي 
ملاحظات آراها على الوضوع ال حال - قلت لمم إن المطلوب الآن هو تواجد مسئول وسط 








مركز محمد عمر بشير 
الناس فعلاً لا قولاً فلا يعقل أن يكون بين المواطنين والسئول 4-۳ مستويات حكم (لا) 
مستويات خدمة (فالجميع قد امتطوا العربات اللاندكروزر) كحكام وأنهم تدربوا ليحكموا 
لا لaخدga| Trained to rule and not to serve‏ واقتنع العديدون أن من محاسن الحكم قهر 
الواطن حتى يخلو الجو من أي صاحب رأي أو نقاش. ولخصت همم الأمر أن البلد ملآى 
بالمتعلمين والفنيين والمخططين والتنفيذيين ولكن الذي ينقصهم هو (القدوة) التي تجعلهم 
يخدمون بلادهم دون خوف ودون تحكم. لم ألحظ أي تجاوب أو تعارض في وجوه الحاضرين 
فضربت لهم مثلاً آخر للقدوة- وآسف أنه لا علاقة له بصقع الجمل وإنا بالنهود وبالسودان 
عامة. زار الرئيس عبود مدينة النهود واشتكى له الواطنون من شيء واحد فقط: الماء. فأصدر 
توجيهاً بل أمر وزارة الأشغال التي كانت تتبعها هيئة توفير المياه بحل المشكلة في أقل من 
عام. وفي حظات الاستعداد لافتتاح مشروع المياه بعد أن تم حل المشكلة بعشرة آبار اتصل بي 
من أسمى نفسه رئيس اللجنة العليا للضيافة وأنا موظف بوزارة التجارة والصناعة والتموين 
وأبلغني تعييني مندوباً مفوضاً للجنة بالخرطوم وطلب مني التعاقد مع السيد مدير 
المرطبات(مصلحة حكومية كانت تتبع للسكة الحديد) بأن يرسل إلى مدينة (أبوزبد) آخر 
محطة في السكة الحديد بالقرب من النهود عربة (ثلاجة) بها قدر وافر من الثلج وكمية من 
(السمك) لإفطار الرئيس عبود الذي سيفتتح المشروع هو ونفر من القيادات. کا طلب 
رئيس اللجنة العليا ألا ننسى آدوات الأكل من ملاعق وشوك وسكاكين وكذلك العاملين 
لخدمة الضيوف من الفندق الكبير وأن أوقع على الفاتورة لكي يتم تحويل التكاليف تلغرافياً 
مدير المرطبات قبل تحرك عربة السكة الحديد.أمهلني السيد علي حو ساعة وطلب مني 
التواجد قرب التليفون ليؤكد لي التجهيزات. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 

وفي أقل من ساعة اتصل السيد علي حمو وقال لي : كلم عمك. قال المتحدث أنا 
عمك إبراهيم عبود. مين الحمار القال أنا ماشي النهود آكل سمك وأشرب موية بثلح ؟ 
كلمهم قول ليهم أنا ماشي أفتتح مشروع الموية وعاوز أشرب الموية دي في زير أو (سعن- 
قربة أو زمزمية) كا أني جاي في ضيافة شيخ منعم وأكيد سوف يذبح لي خروف وآكل معه 
(الشية والمرارة وملاح التقلية) حاضر معاليك. ذهبت إلى السيد على حمو في مكتبه بمباني 
محطة السكة الحديد وقال: يا ابني أنا عديل الرئيس عبود وبعرف أبوك وما برضی ليهم 
(الشينة) عشان كده أخيرته بطلب اللجنة العليا للضيافة بالنهود وسمعت رأيه. مرة أخرى 
قلت فيثة الستشارین أن الطلوب من السئولین هو (القدوة) وأنه قد حدث أن مسئولا 
ولائياً طلب أن تشحن له (نورتات) في طائرة من الخرطوم حفل شاي لسئول رئاسی. لم 
يسأل السئول الرئاسي كيف ولاذا استوردت (التورتات) بهذا العدد ولم يسأل آحد في الولاية 
نفس السؤال. وصار الأمر مباراة بين كل زيارة وزائر. إذا آصبح آمر الزیارات مسائل 
احتفالية للکلام والأكل والأمن. والاعلام ثم إصدار التوجیهات بعمل کذا أو استكمال کذا 
ولا شیء يحدث حتی احتفال آخر. قلت لجمع الستشارین أنه جمعتني جلسة مع علي عشان 
نائب رئيس الجمهورية وذکرت له تجربة (ثورة مایو) في وعود الرئیس نميري إذ كان في 
مجلس الوزراء شخص بدرجة وزير دولة ووظيفته مساعد أمين عام لمجلس الوزراء للشئون 
الاقتصادية وشئون المتابعة وهو حالياً في أحد أجهزة (الانقاذ- في مجال التصدير) والجزء 
الثاني من اسم الوظيفة هو متابعة كل ما يعد أو يوجه به الرئيس نميري في لقاءاته فیتصل في 
اليوم التالي بالجهة المنوط بها التنفيذ ويلفت نظرها ويطلب منها تقرير متابعة في ظرف أسبوع 


أو شهر حسب نوع الوعد أو التوجيه. ويظل الأمر متصلاً بين الاثنين ثم مع الرئيس حتى يتم 





مركز محمد عمر بشير 
التنفيذ أو يحاط الرئيس علا بها يمنع أو يؤخر التنفیذ» ثم يتم اخطار الجهة الوعودة حتى لا 
يبدو الرئيس (كذاباً) أمام مواطنيه كما نصح الشيخ زايد بن سلطان حكيم العرب الرئيس 
عمر البشير بإلا يعد با لا يستطيع فعله. 

عدت في منتصف العام ١155‏ إلى صقع الجمل على ظهر عربة جيب حملت أخي 


منصور منعم وزوجته جدية ناصر بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتم تسريح 





معظم الجنود السودانيين بمن فيهم البلوك أمين نمرة ١97957‏ منصور منعم منصور. عندما 
وصل منصور إلى النهود احتفل به الشيخ منعم بدعوة كبيرة لأعيان النهود وفي حفل شاي 
صغير مع المفتش الأول للمركز ومفتش حمر المستر تنيسون وتم تدشينه في جمع لكل شراتي 
دار حمر كرئيس لمحكمة صقع الجمل التي كان يشغلها إساعيل منصور محمد الشيخ (قراض 
القش) الذي توق وهو يستشفى في بارا. وكان جمع الشراتي يحمل إيحاء بأن منصور إذا عاد 
(منضبطاً) من الحرب وأدى مهمته بكفاءة في صقع الجمل وحصل على رضا أركان الحكم 
فسوف يعلن وكيل ناظر عموم حمر: نائباً لوالده. كان استقبال الصقع لنصور غير مسبوق إذ 
قوبل بموكب من راكبي ال هجن والخيول وقارعات الطبول والغناء والرقص على مسافة شرق 
صقع الجمل- في قوز الدروت- ونزل في جزء فسيح من(حوش الشيخ) أحسن عم عتتمان 
إعداده من حيث الأماكن لعامة الضيوف- ولخاصة الضيوف- ولسكن الشيخ الجديد وكان 
في مقدمة المستقبلين بجانب عم عتمان الشرتاي بخاري علي - وهو شرتاية صقع الجمل أكبر 
شرتاوية في دار حمر تضم ٩۰‏ قرية كبيرة بخلاف (الأريت) أي صغار القری التي غالبا ما تبدأ 
بقطاطي قرب الزارع البعيدة عن(الحلة) الكبيرة ثم تستقل تدريجياً ويعترف بها باسم 
(الأريت) ولكنها تتبع شيخ ا حلة الأم. والشرتاي بخاري علي حاج التور- ينحدر من جهة 








السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
والده- رجل الدين علي حاج التور- من منطقة (البرياب) جنوب واد مدني واستقر في دار 
حمر وصادق قياداتها وتزوج عمة الناظر منعم وأنجب منها (بخاري) الذي نحن بصدده وقد 
صاهر بخاري إسماعيل (قراض القش) وتزوج ابنته وأنجب منها بنتاً أساها (روزة) على 
اسم عمتها فأصبح یلقب باسم(آبوروزة) - واستعار منها الاسم الدکتور الديرديري إبراهيم 
فسمی ابنته الکبری (روزة) ما آثار لغطاً وسط مثقفي الخمسينات حسمه الدکتور عبدالله 
الطیب بعروبة الاسم وعرافته. والشرتاي يعني بالشئون الادارية. تقدير وجمع الضرائب 
منفرداً أو مع لجان- وترسیم حدود القری- ومراعاة انضباط عمل (شیخ الحلة) في توزيع 
آراضی الزارع لعتار الحلة- وفي توزیع (آشجار التبلدي) على العمار الجدد- ومنح الأراضي 
(الغفار) أي التي لا حائز أو مالك ها بين سکان الحلة إذ إنها قد تحمل يوماً آشجار صمغ 
المشاب الذي يعتبر المحصول النقدي الأساسي للزراع المقيمين يأتي بعده حب البطيخ وكان 
سوق مدينة النهود يعتبر الأول في العام لكلا المحصولين: الصمغ وحب البطيخ. كا يقوم 
الشرتاي بفض النزاعات (الإدارية) كا تسمى والخاصة بأمر الزراعة والصمغ وتداخل 
الرعاة. ويشرف على توجيه مشايخ القرى على (رعاية الحفائر- أو الرهود: جمع رهد) 
لتجميع المياه في فصل الخريف. وكان العرف الذي يشرف الشرتاي على تطبيقه وينال عليه 
هو والمشايخ الذين يتبعونه (مكافأة) من الرکز- ثم الجلس الريفي فيا بعد- هو (حش 
الشوارع) بين كل قرية وأخرى. وحش أو نظافة الطرق تقليد تتبعه كل قرية و (حلة) بأن 
تقوم بنظافة نصف الطريق بينها وبين الحلة التالية فيكون الجميع على معرفة بسبل التواصل. 
ثم أن حش الطريق يجعل منه حاجزاً طبيعياً لإيقاف انتشار النيران التي غالبا ما يخلفها أهمال 
المسافرين أو كا جرى به اتهام العرب الرحل. 








مركز محمد عمر بشير 
العرف في اختيار الحاكم - وني إدارة القرية وفي حفظ الأمن: 

ويتبع الشرتاي في أداء مهامه عدد من (الخفراء) يتقاسمون الولاء مع رئيس المحكمة 
الذي يشكل السلطة القضائية في فصل مبكر بين السلطات دون فلسفة دستورية. ويتقاضى 
الشرتاي راتباً رمزياً إذا قيس بمسئولياته إذ إن إشرافه الإداري يحمل في طياته بسطاً للأمن 
بتطبيق عرف القبيلة. ولكن دخل الشرتاي الأكبر يأتي من (المكافأة) التي یتحصل عليها من 
جمع ضرائب منطقته في الوقت المحدد له كل عام حتى لا يحدث خلل بين الإيرادات 
والمصروفات. ويقوم الشرتاي مع لجحنة أو مستشارين- دون حوافز- بتوزيع (الربط) 
الضريبي على مشايخ القرى كل حسب كنثافة عماره وجودة أراضيهم وعدد قطعانهم من 
الأبقار والإغنام و(جنائن) الهشاب وبقيام كل شيخ بالوفاء بالتزامه الضريبي في الموعد الذي 
يحدده له الشرتاي يحصل على نصيبه من المكافأة. الركن الاساسی في الادارة الأهلية هو (شيخ 
الحلة) إذ إن العرف يقضي بأن يأتي الشرتاي للقرية التي تنشأ أو التي شغر مها منصب الشيخ 
ويتم التصويت العلني ويتم اختيار صاحب الأغلبية. وتكون المنافسة- إن وجدت بين ابن 
الشيخ التوفي أو المعزول- وأحد أخوانه. إذ إن الجميع يراعون أن القيادة لابد أن تكون في 
بيت (الشياخة) ومن واجبات شيخ الحلة بجانب الضرائب وقيادة الحلة وحسن توزيع 
مواردها استقبال ضيوف الحلة سواء كانوا من السلطة أو من عامة المسافرين إذ يكون سؤال 
كل من يصل إلى مشارف القرية: وين بيت شيخ الحلة. والشيخ هو(عين) الأمن الأولى في 
حدود قريته فيعرف كل من يدخلها وسبب وصوله وأين تمت استضافته ومتى رحل وإلى 
أين. ومن اصطحب من سكان القرية. معلومات هامة لحفظ أمن القرية وسمعتها خاصة من 
لصوص (السعية) وهي لفظ يشمل الجمال والابقار والأغنام والماعز. إذ إن العرف يقضي في 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
حالة سرقة السعية أن يستنفر صاحبها أهل قريته وعشيرته لكي يلحقوا بالسارق وهي عملية 
تعرف باسم (الفزع) ويشارك فيها كل قادر راجلا أو على دابة- ومعه سلاحه الأبيض: 
السكين والسيف والناري- مرخصاً أو غير مرخص كا هو الغالب. وسواء معهم (قصاص 
آثر) معترف به أو ليس معهم فهم جميعاً يقتفون الأثر إلى أن يتم اللحاق بالسارق- أو يدخل 
الأثر في حرم قرية ما . إذا تم اللحاق بالسارق فإن العرف السائد هو أن يقوم (الفزع) بضرب 
السارق ضرباً يلحق به أذى جسیً يحدث في الغالب عاهة أو أثراً يكون عبرة له ولغيره. وإذا 
كان السارق مسلحاً تبادل الطرفان سلاحاً بسلاح تكون فيه الغلبة دوماً للفزع إلا إذا تمكن 
السارق من امرب بحيلة ما.- النظام الأعلى- إدارة وقضاء- يعترف بالفزع ولا يعاقبه با 
یجدث للسارق. لكن حدث مرة أن زار قاض مقيم هو(صلاح حسن) سجن صقع الجمل 
ووجد فيه سجیناً في يده کسر وعلى جسده رضوض وبسؤاله اشتكى بأن (الفزع) اعتدى 
عليه رغم أنه كان بعيداً عن الال المسرو قة بل ونائ] في ظل شجرة (تبلدي) وأنكر للمحكمة 
علاقته بالسرقة. ورغم ذلك حوكم بجريمة السرقة وم يعاقب (الفزع) وبسؤال رئيس 
المحكمة حسين بابکر- والد السيدة إحسان زوجة السفير حي الدين و أفاد القاضي 
المقيم بأن (الفزع) تتبع أثر السارق إلى أن وصل إلى مكان المسروقات ثم تتبع أثره من مكان 
ا لجال إلى ظل التبلدية حيث وجده نائ وعلى أحد فروعها (سعن) ماء و (رسن - حبل يقيد 
أو يقتاد به الجمل) ووفقاً للعرف الأهلي فان أي شخص من غير أهل المنطقة يوجد ممتلكاً 
(رسن وسعن) ويسير في الفلاة فهو سارق ويحاكم حتى ولو لم يكن معه مسروقات إلا إذا 
أقنع المحكمة من أين أتى ومن هم أهله وعشيرته وإلى ين ذاهب فيحتجز إلى أن تستوثق 
المحكمة من المعلومات أو يحاكم بالسجن. بمثل هذا العرف يحفظ الأمن والممتلكات في 





مركز محمد عمر بشير 





أرض واسعة ليس فيها بوليس أو جيش. ۸ يقتنع القاضي المقيم ابن العاصمة ودارس القانون 
فأمر أولاً بإخلاء سبيل الرجل وقيام الشفخانة بعلاجه ثم استدعاء كل (الفزع) لجلسة 
حددها لمحاكمتهم بتهمة الاعتداء على مواطن يارس حرية التنقل. سارع رئيس المحكمة 
باستدعاء شيخ الحلة الذي قاد (الفزع) وأخبره با ينتظرهم إن لم يكن في الحلة (سفيه) يدرأ 
عن أهله الأذى لأن هذا هو يومه. سفيه الحلة شاب طويل ممتلئ الجسم له شارب ويلبس 
جلباباً نظيفاً ناصع البياض ويلبس طاقية مشغولة بالحرير وينتعل (مركوب فاشري نسبة إلى 
مدينة الفاشر المشهورة وقتها بصناعة نوع من الأحذية) ويحمل في يده (عكاز مضبب أي 
مكسو بجلد ذنب الثور زيادة في قوته) وعلى ذراعه (سكين) لها غمد من جلد أحمر مصبوغ 
اللون هذا (السفيه) يكون دائاً فصيحاً ودائاً سليط اللسان في بعض الجالس ويقول عن 
شيخ وأهل الحلة سى الحديث الذي يمنعهم الحياء عن قوله رغم آنهم موافقون عليه وكلما 
ازداد لوماً ازداد مكانة لدى عشيرته فإذا ما تم توافق في الطرف الآخر لامه الكبار وتحمل 
اللوم عالماً أنه قد أدى دوره وبعد انفضاض المجلس يتلقى الشكر من الجميع. وبا أنه يكون 
دوماً غير متزوج فإنه حط أمل الفتيات وتقوم الشاعرات منهن بتأليف الأغاني في مدحه 
وسيرته.ذكرني هذا الفتى بواحد مثله قام بنفس الدور في الصحافة السودانية منذ توقيع 
اتفاقية السلام الشامل إلى أن تم انفصال الجنوب فنال الثناء من ابن أخته ومن حزبه. نعود إلى 
رئيس المحكمة وشيخ الحلة وبقية القرية الذي طمأن الرئيس والشيخ بأنه سيقول للقاضي 
المقيم أنه شاب وقوي وسبق (الفزع) في المقدمة ولا عثر على السارق أوسعه ضرباً (منفرداً) 
ولو لم جضر «الفزع) في الوقت الناسب لتخليصه منه لربا ناله أذى أكثر. ارتاح رئيس 
المحكمة وشيخ القرية للحديث وحمد الله أن لدى القرية (سفيه) اشترك في (الفزع) غير أن 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
شيخ الحلة تذكر فجأة أن القاضي المقيم قد يطلب منهم القسم على الكتاب- المصحف بأنهم 
لم يشتركوا في الضرب ولكن رئيس المحكمة طمأنه- بخبرته مع أمثال هؤلاء القضاة- بأنهم 
بحسب القانون الذي درسوه لا يطلبون من التهم الحليفة- أي القسم- جاء القاضي المقيم 
واجتمع (الفزع) بضع وعشرون رجلا امتلأت الساحة بأهل صقع الجمل ليشهدوا محاكمة 
(الفزع) للمرة الأولى في تاريخهم فإذا بالسفيه يردد على القاضي ما التزم به وإذا بالسارق يصر 
على أن الضرب كان (أم بتيبت- أي عشوائي وبقوة كا شرحه للقاضي) ومن كل «الفزع) 
سخر (السفیه) من السارق وقال له كان واحد منهم ضربك معاي كان مشيت الآخرة- أحمد 
الله الناس ديل انبم خلصوك مني- برأ القاضي ساحة (الفزع) وأمر بحبس السفيه فزغردت 
النساء وضرب الرجال (الروراي) تعجب القاضی بعد المحاكمة كيف يصر المتهم أن كل 





(الفزع) قام بضربه في حين أن واحداً فقط من كل الرجال يؤكد أنه هو الذي ضربه منفرداً. 
ول يكن أمام رجل الادارة الأهلية إلا أن يبرر شكوك القاضي حتى لا يعيد النظر في الحكم 
فشرح له أن المتهم يعلم قوة وبطش الصبي المعترف ويخشى أن ينتقم منه إذا ركز عليه الاتهام 
عند خروجه من السجن فأراد أن يشرك الآخرين حتى يشفع له ذلك مستقبلاً وقبل القاضي 
التفسير. وفي صباح اليوم التالي كان رئيس المحكمة يروى للشيخ منعم منصور ما دار فسارع 
الشيخ منعم إلى رئيس القضاء محمد أحمد ابو رنات متخطياً قاضي المديرية الذي هو من نفس 
طينة علم القاضي المقيم. قبل أن يصل إلى منصبه الرفيع. كان محمد أحمد أبورنات (كاتباً ثم 
باشكاتب) جاب مديريات السودان ك| كان الوضع آنذاك ثم التحق بالمصحلة القضائية كما 
كانت تسمى وأنكب على المكتبة والمجلة القضائية. وكان في بعض إجازاته يأ إلى مسقط 


رأسه مدينة النهود حيث كان والده وأخوه من بعده رئيساً لمحكمة البندر. ويجلس في محكمة 


مركز محمد عمر بشير 
الشيخ منعم منصور مستمعاً ومتلقياً للعرف من أفواه أعضاء المحكمتين ومن لقاءاته مع 
والده وأخيه والشيخ منعم. ولا أصبح قاضياً بعد تأهيله علمياً زاد اهتمامه بالقضاء الأهلي 
ودوره في خدمة المواطنين أمناً وفضاً للنزاعات وبسطاً لهيبة الحكم ولا وجد الشيخ منعم تفه 
كاملاً منه لخطأ القاضي المقيم خريج الكلية- كلية القانون- لفت نظره إلى تصرف آخر هو 








رفض القاضي المقيم معاقبة الشاهد في القضايا المدنية عندما يطلبه أحد الخصوم. وقد كان 
العرف أن المحكمة تعطي الخصم طلباً في ورقة زرقاء اللون تسمى (الورقة الخضراء لدى 
الجمهور) وعلى الشاهد بمجرد استلامه للورقة الخضراء أن يحضر الجلسة في اليوم المحدد 
ولكن بعض الشهود يمتنعون» وتقوم المحكمة بمعاقبتهم على ذلك. أعراف القبائل ها في 
الغالب جذور من العدالة المطلقة أو من الدين أو کلیها. جاء في آية الدين في سورة البقرة 
(۲۸۲) والدين شأن مدني (ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا) وكانوا يرون بالقياس أنه إذا كان 
القرآن يأمر شاهد (الدين) لحضور كتابته فكيف لا يحضر جلسة قضية مدنية ولكن أفتى 
القاضي المقيم وأيده قاضي المديرية بأن على الخصم في القضايا الدنية أن يقنع شهوده بالحضور 
ومن يرفض لا تعاقبه المحكمة إلا في حالة طلبه للشهادة (بواسطة المحكمة) وفي هذه ا حالة 
تسلم الورقة الخضراء لشيخ ال حلة ليقوم بتسليمها له. كان النظام الأهلي قضاء وإدارة ولا 
يزال يرى أن عدم حضور الشاهد مهما كان نوع القضية من شأنه أن يعطل العدالة بين 
المواطنين مما قد يعود إلى ظلم يتطور إلى قضية جنائية. كما أن عدم تلبية أي مواطن نداء 
المحكمة بالحضور يقلل من هيبة الحاكم الذي طلبه والحكومة التي يمثلها خاصة أن 
النزاعات الادارية والمدنية أكثر من نظيرتها الجنائية والتي في الغالب يرسل لا (خفير) من 
الإدارة الأهلية أو تستدعى له الشرطة من النهود. تجاوب السيد محمد أحمد أبورنات رئيس 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
القضاة مع الحالتين وأرسل إلى قاضي مديرية كردفان وال مدير مديرية كردفان ألا يتدخل أي 
قاضی مدني في قضايا العرف الأهلي والتي يتم الاستئناف فيها إلى ناظر عموم حمر والتي 
تراجع أحكامها من وقت لآخر إذا لزم الامر بواسطة مدير المديرية كسلطة إدارية عليا. 
وبعودة الشيخ منعم إلى النهود ووصول قرار رئيس القضاء أعيد السارق من الشفخانة إلى 
السجن وأطلق سراح (السفيه) وعلت الزغاريد والكوأريك مرة أخرى. السجناء عندنا في 
المنطقة نوعان: الغالب الاعم معروفون بأهلهم وأسرهم وني قضايا مدنية وإدارية تتعلق 
بنزاعات حدود المزارع والقرى وأحياناً التحرش والزنا من إمرأة متزوجة ثم یعفو عنها 
زوجها. وهؤلاء من الممكن إلا في حالة الزنا أن يضمن أحدهم شخص كفء ويكونون 
طلقاء أثناء النهار ويخدمون في بيوت السلطة: الشرتاي- المساعد الطبي- المدرسة وينامون 
ليلا في فناء السجن. أما السجناء في قضايا السرقة ومن أهل المنطقة والذين لا يعرفهم أحد 
يكونون داخل غرفة السجن ومن يريد منهم أن يقضي نهاره تحت ظل شجرة النيم أمام 
السجن أو ينام ليلا خارج الغرفة بسبب حرارة الجو فإنه يقيد بالسلاسل حتى لا برب. 
اعترض أحد القضاة المقيمين على السلاسل ما دام هناك حارسان للسجن في كل (وردية) 
فإذا كان ولا بد يوضع على قدميه قيد من حبل. نفذ رئيس المحكمة الأهلية قرار القاضی 
وهرب سجينان لا يعرف لما أهل. السجين الذي له أهل لا يبرب حتى ولو ترك دون 


حراسة لآن العار سوف يلحق به وبأسرته وتغنى عليه شاعرات البنات هجاء يلاحقه طول 





حياته. 


سرحنا مع السارق الذي يلحق به (الفزع) ودور شيخ ا حلة في الأمر. أما إذا وصل 
(الأثر) إلى حرم قرية ما فيتوقف (الفزع) ويرسل أحد آفراده ليبلغ الخبر إلى شيخ الحلة 





مركز محمد عمر بشير 





ويطلب منه حضوره مع نفر من السكان ويتبعون معه الأثر لمسافة قبل الوصول إلى حرم 
القرية ثم إلى مدخل القرية. وحسب العرف كان (الفزع) يطلب من شيخ الحلة أحد أمرين: 
أما إخراج الأثر من قريته لكي يعاودون البحث أو تسليمهم السارق والمسروقات. إذا فشل 
شيخ ال حلة في الحالتين فان الأمر يبلغ إلى (الشرتاي) الذي يستدعيه ويرسل معه أحد الخفراء 
ليبلغ آهل ا حلة الفضيحة التي بلغت قريتهم وأن عليهم حسب العرف الذي يعرفونه أن 
يقوموا جميعاً ويدفعوا قيمة السروقات. ثم يصدر قرار إداري بفصل الشيخ عن قيادة القرية 
وانتخاب آخر لا يكون من أسرته يا تجري بذلك التقاليد. 


العرف في قضايا القتل وتسبيب الأذى: 


ولا يقتصر العرف على النواحي الأمنية فحسب بل يتعداها إلى بعض الجحنايات 
فجريمة القتل وتسبيب الأذى الجسيم الذي يفضي إلى عاهات في أعضاء الجسم مسائل لا 
تفصل فيها الإدارة بين المتخاصمين بل يتم تسليمهم إلى الشرطة فالقاضي المقيم وقبيل صدور 
الحكم يتقدم أهل المتهم إلى المتضررين يتطبيق العرف وقبول (الدية) وقبول الدية يخفف 
حسب العرف أو يلغي الحكم الصادر في حق المعتدي. حدد رجال القبيلة مبلغ دية الرجل ب 
۰ جنيهاً والمرأة ب .5٠‏ كان هذا قبل إلغاء (صندوق الدية) بواسطة ثوار أكتوبر في مطلع 
۵ باعتباره من آثار الإدارة الاهلية وكان- كما قالوا أو لم يثبته التحقيق- مصدر فساد 
يتقوى به شيخ القبيلة. حدد العرف مبالغ لأعضاء الجسم المختلفة كالعين الیمنی - والیسری 
واليد اليمنى واليسرى- والآأنف- والأذن. کا تحدد مبلغ يساوي دية (الرجل) الكاملة إذا 
أخطأ الشخص الذي يقوم بعملية ختان الأولاد في قطع (حشفة) الولد أو حسب التعبير 


الشرعى إذا (جَبٌّ) الولد. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

كان مبلغ الاشتراك في الدية قد حدده الشيخ منعم بقرشين يجمعان من كل شخص 
مكلف بدفع الضريبة. ويوضع المبلغ في حساب منفصل في المجلس الريفي. وعندما تقبل 
المحكمة طلب دفع الدية فان المتضرر يحصل فوراً على نصف المبلغ من الصندوق ويتم جمع 
النصف الآخر بواسطة أهل المتهم بنسبة الربع من أسرته الممتدة وأهل (الدية) ثم الربع من 
قبيلته أو (خشم البيت) الذي ينتمي إليه في القبيلة. وأهل الدية هم جماعة أو جماعات 
تعاهدت مع أسرة معينة على أن يكونوا معهم سواء بسواء في أي دية. وكا لا يعلم الكثيرون 
وكنت معهم إلى أن أخبرني الشيخ منعم بعد حل الإدارة الأهلية وإلغاء صندوق الدية وقد 
كان في زيارته الأخيرة للخرطوم قبل وفاته آخبرني أن أهل دية أسرتنا المباشرة والذين 
تعاهدوا مع أعمامه ومعه هم- وجميعهم من غير قبيلة حمر الصغيرة وان كانوا من قبيلة حمر 
الكبرى-(برتي) الحلة الصبحانية أي صباح أو شرق قرية صقع الجمل وهم أهل البروفيسور 
محمد أحمد الحاج- (وبرياب) الصقع أهل الشرتاي بخاري على حاج التور ومنهم سعد 
البريابي والدرديري إبراهيم وإبراهيم الشيخ (وكراسنة) أم بل وهم عشيرة الكرسني رجل 





الدين الذي أتى به جدنا من الحجاز واستبقاه وزوجه ابنته وأصبح أبناؤه وعشيرته من حمر. 
وهم أهل البروفيسور عوض السيد وإبراهيم الكرسني وعوض السيد مصطفى وزعيمهم 
عبدالر من الكرسني وكيل قسم أم بل- (وجوامعه) السعاتة وهي قرية شرق مدينة أبو زبد 
وهم أصلاً من دار الجوامعة بشرق كردفان وهاجروا إلى دار حمر كمشايخ دين واستقروا في 
هذه القرية ومنهم السفير أحمد صلاح بخاري والإداري إدريس بخاري والدكتور أحمد 
بخاري والاقتصادي بخاري محمود وعشيرتهم - (ومناصرة) أبو حميرة وهي قرية تقع جنوب 


شرق النهود في الطريق إلى أبوزيد والمناصرة كا نسميهم ويسمون أنفسهم هم أصلاً من 








المناصير واستقروا بدار حمر بقيادة زعيم مهاب هو عبدالستار الزبير ومن الأسرة البروفيسور 
سيد البشير والدكتور عبدالرازق البشير واللواء السر محمد أحمد خالد والدكتور إبراهيم 
البدوي عبد الساتر عالم الاقتصاد والخبير الدولي. هذا بالطبع إضافة إلى أهل الدية من الأسرة 
الصغيرة والمتدة وأهل خشم البيت والقبيلة كلها. وقد خصص هؤلاء لأنهم من(فروة 
النمر) وفروة النمر تعبير أطلقه الشيخ مكي المليح على أن حمر (فروة نمر) كل نقطة فيها قبيلة 
وكل من هذه القبيلة حمري بحكم الوطن وفروة النمر هي جلد النمر با فيه من نقاط متنائرة. 
فكل من جمعته هذه الفروة فهو حمري إلا من أبى با في ذلك (جلابة) النهود أي التجار وذرية 
التجار الذين جلبوا البضائع للنهود ولدار حمر خلال عهود منذ التركية فالمهدية فالحكم 
الثنائي والحرية وإلى الآن وکا يقولون فان الشئ بالشی يذكر فبجانب صندوق الدية أنشأ 
الشيخ منعم منصور في احتفال كبير عام ۱۹6۷ دعا له الشراتي والأعيان صندوقاً للتعليم 
ووافق الجميع على جمع (مال التعليم- قرشين من كل مكلف بالضريبة- أو مكشف كما 
یقولون: يعني في كشف الضريبة) ويحفظ مال التعليم في حساب خاص بالمجلس الريفي مثل 
مال الدية ويصرف منه على الطلبة الذين تؤهلهم قدراتهم العلمية للالتحاق بالمدارس فوق 
الاولية وتقف إمكانات أسرهم عقبة أمام دراساتهم. ويتم القرار سواء بالنسبة للطالب أو 
مبلغ الاعانة من نة التعليم بالجلس الريفي. ونال عدد كبير من آبناء حمر أقساط التعليم 
التي تأهلوا لما من ذلك المال.وكالعادة تم في ثورة أكتوبر ۱۹۱۶ ومن نفس الذين تأهلوا من 
ذلك المال اتهام الشيخ منعم والإدارة الأهلية بالتصرف الفاسد في الصندوق وتم حله 
وإضافة رصيده للمال العام في المجلس الريفي وتوقف الدعم لتعليم أبناء مر. وبالطبع لم تجد 
فرقة المراجعة مخالفة في التصرف في مال التعليم وطويت صفحة الصندوقين: الدية والعلم 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
ولا أدري ماذا كسبت المجموعات المتعلمة من أبناء القبيلة من القرار. ويتملكني الأسى 
عندما أقابل وفداً بل وفوداً من دار حمر تأتي إلى الخرطوم تبحث عن أبناء القبيلة ليتبرعوا لدفع 
دية أقرباء هم ويصرفون في تكاليف السفر والاقامة في العاصمة أكثر ما يجمعون بسبب 
ضعف الدخل لمن يتصلون بهم وأبت العزة بالإثم أن يعيد أبناء القبيلة بعد أن تسلموا الحكم 
الحياة لأي من الصندوقين أو كليها. 





بدأ منصور منعم منصور حياته كرئيس لمحكمة صقع الجمل بداية قوية أعطته هيبة 
فكان حاسم في أحكامه وفي طلب أعضاء المحكمة والقاضي الشرعي لحضور الجلسات إذ إن 
لكل محكمة ستة أعضاء من شیوخ القبيلة العالمين بالعرف وببعض السوابق القضائية وببعض 
مترددي المحاكم مطلوبين أو شاكين. أما القاضي الشرعي فيتم اختياره من (الفقراء) المشهود 
هم بحسن السيرة وكذلك بمعرفة أحكام الزواج والطلاق والميراث. أي رجال الدين ولا 
يصدر رئيس المحكمة الحكم الا بعد معرفة رأي كل عضو والقاضي الشرعي في يخصه 
وتصدر الأحكام في العادة بتوافق الآراء» غير أن رئيس المحكمة يتصرف أحياناً بمفرده في 
الحالات التي يقف الأعضاء فيها حيرى خاصة في البلاغات والحوادث التي تقع دون سابقة 
ها. وقد حضرت شكوى أحد التجار من أن قفل دكانه قد فتح وتمت سرقة عدد من ثياب 
(الزراق) والدمورية والدبلان والنقدية التي في (الدرج) رغم أنه مقفل. ثوب الزراق ملبس 
انقرض منذ عقود وهو ثوب من القماش يصبغ بصبغة ذات لون آزرق غامق للغاية وتلبسه 
كبار السن من النساء أو الفقيرات منهن أو في مناسبات المآتم لشخص عزيز. 

رجح أعضاء المحكمة أن الدكان (مسكون) أي به (جن) وأنه لا يمكن أن يدخل 
شخص بباب مقفل ويأخذ مالا من (درج) مقفل ويخرج من الباب المقفل دون أن يكسر 





مركز محمد عمر بشير 
القفل أو (الدرج) رئيس المحكمة رجح أن يكون هذا لص من غير سكان الصقع أو من 
مدينة النهود أو عاش في مدينة وعرف كيف يستخدم (الطفشانة) وهي سلك حديدي ملتو 
بشكل يجعله قادرا على فتح الأقفال. عرف من شيخ الحلة(أبو سيل سعيد) أن ال حلة لم يدخلها 


في الأسابيع السابقة شخص غريب سوى أحد الجنود المسرحين من قوة دفاع السودان ومن 





زملاء رئيس المحكمة. طلب الرئيس من شيخ الحلة أن يتعقبه ويراقب تصرفاته (يوم السوق) 
لم يتردد صاحبنا من شراء (أوقة) كاملة من اللحم والجلوس مع نفر من أصدقائه في 
(الأنداية)» (الأوقة) كانت هي الوزن المتعارف قبل إدخال (الکیلو) من الوزن عقب 
الاستقلال عام ۰۱۹۵۲ وصل إلى شيخ الحلة أن والدة الجندي المسرح (قد أمسكت عن ذكر 
اسمه إذ إن ابنه لا يزال حياً عند كتابة هذه الذكريات) لبست ثوب (زراق) جديداً. طلب 
رئيس المحكمة زميله السابق وواجهه باتهام سرقة الدكان فأنكر مدعياً أنه يصرف من مكافأة 
هاية الخدمة في الجيش ولا كان رئيس المحكمة يعلم أن حجم تلك المكافاة لا يكفي سنة من 
استلامها فقد خيره بأن يعيد المسروقات أو يستعد لخمسة وعشرين جلدة ثم الحبس إلى أن 
يدل على مكانهاء استبسل الجندي ولكن بعد السوط الخامس عشر اعترف وقاد خفيرين من 
المحكمة إلى (مطمورة) مهجورة في مزرعة والدته ووجدت كل المسروقات ما عدا ثوب 
(زراق) واحد تبرع به التاجر للوالدة ومبلغ خمسة وعشرين قرشأ سامحه فيها وعندما أطلع 
الفتش الأول على الحكم في أول زيارة له للصقع اعتبره نضجاً في الإدارة. 


كان الموسم جيداً في أول تعيين منصور للمحكمة واستبشر الجميع خيراً وأخبره 


المفتش أن الحكومة رأت أن تستفيد من وفرة إنتاج الدخن وأن تشتري ألفي جوال من الدخن 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
وتحتفظ بها في عدد من (الشون) الحديدية التي ستصل الصقع قريباً. والشونة المذكورة عبارة 
عن أسطوانات من الحديد المقوى قطرها حوالي متر وارتفاعها متران. ويتم التخزين فيها بأن 
توضع داخل قطية على طبقة من الرمال تعلوها أخرى من نخالة الدخن (البتاب) ثم يصب 
الدخن إلى أن تشارف على الإمتلاء ثم تضع طبقة عازلة أخرى من (البتاب) وهذا يمكن 
الاحتفاظ داخل كل أسطوانة بحوالي مائتي جوال دخن بعيداً عن الحشرات وبعيداً عن 
الرطوبة والأمطار. وقد تم بناء حمس قطاطي حفظت فيها (الشون) وتم حفظ باقي 
الحصول في داخل قطاطي عادية في جولات من الجوت.وفي الموسم اللاحق بدأت ظواهر 
قلة في المحصول- فجوة غذائية بلغة اليوم- فبدأت السيارات ٦‏ و۸ طن تتوافد على صقع 
الجمل بخطابات من مفتش المركز للسحب من المخزون والتوزيع لبعض مناطق دار حمر. 
وقد تكرر شراء المخزون الاستراتيجي- بلغة اليوم أيضاً بصفة منتظمة كل موسم وفير- 
وظل الاستخدام النتظم للشونة حتى منتصف خسينات القرن الماضي. وكانت تفرض على 
کل شيخ حلة توريد كمية من الدخن وفقاً لقديرات لجان الضرائب وتدفع له القيمة بالسعر 
الجاري قبل أن يتدهور بسبب الوفرة بل أن خبر مشتري الحكومة يجعل السعر متماسكاً. التزم 
كل شیوخ القرى با حصة المقررة لهم وفي المواعيد المحددة ماعدا شيخ (أبوسيل سعيد) شيخ 
حلة صقع الجمل والذي يعتبر أن منصور (وليده) ويتذكره (صغيراً) وهو يحمله على كتفه 
ويلاعبه. تباطاً الشيخ أبوسيل في توريد حصته وربا بسبب كبر حجم القرية وتباعد ساحات 
مزارعها فأنذره شيخ منصور بعد استدعائه في المحكمة بأنه إذا لم يمتثل للأمر في ظرف آسبوع 
فسوف يتعرض لمحاكمة إدارية. وبالطبع سارع الشيخ أبوسيل إلى تدارك الهفوة ولكنه أطلق 
مقولة التصقت باسمه زمناً (حكمة عجيبة آتاري صحي ود الدابي ما بنْربّى) ولا سمعها شيخ 





مركز محمد عمر بشير 








منصور ضحك وقال له- خارج المحكمة- يا عم أبوسيل و(الدابي كان ما عضاك وهو صغير 
ما عارف كيف يعضيك بعد ما كبر وعرف) وبحكم شبابه مقارناً مع الشرتاي ونائب رئيس 
المحكمة بخاري علي كان منصور يتجول كثيراً على جمل أو حصان داخل الصقع وداخل 
(شرتاوية بخاري) الأكبر مساحة وسكاناً وقرى بين مناطق النظارة ويلتقى بالمشايخ وعمار 
القرى. ويهارس معهم نشاطات حفر الرهد قبيل الخريف وعمليات (القنص) أوائل 
الرشاش للحبار وأثناء الخريف لدجاج الوادي والغزلان. وفي يوم اصطاد ضمن دجاج 
الوادي طائراً في جناحه ووجد في أحد رجليه خاتاً مكتوباً عليه باللغة الانجليزية 
(النرویج:(۱0۳۷۵) فعلم أنه جاء مهاجراً من هناك من طرف الحكومة أو جماعة ما وأرسله 
إلى المركز في النهود حيث علم أنه بالفعل جاء مهاجراً وطلب منه ألا يتم صيده وإذا أمكن 
يقبض عليه بشراك ويرسل للمركز لكتابة معلومات على رجله وإطلاق سراحه لكي يبلغ من 
آرسله المدى الذي هاجر إليه. وفعلاً سادت لفترة ثقافة قبض (طير الخواجات) وإرساله 
للنهود. وفي إحدى سفرياته للنهود وجد منصور منعم آحد زملاء الجيش يعمل في السینا 
المتجولة فأقنعه بالحضور لصقع الجمل كلما زار دار حمر أو جاءها في طريقه إلى الفاشر. وآوفی 
الزميل بوعده فكانت صقع الجمل من القرى القليلة التي ارتادتها السینا التجولة قبل أن يتم 
تعميمها. ورأى الناس الطائرات والدبابات وعنتر وعبلة ومقرن النيلين. 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
العرف في الحياة العامة: 


والعرف لا يقتصر على النواحي الإدارية والقضائية بل يضم كل أسلوب الياة. 
فهناك طقوس للفرح عند الولادة وعند الختان. والشاب الذي ل يتم ختنه لا يقبل زوجا. وفي 
حالة ختان البنت يتوافد الشبان من عشيرتها لينال كل منهم شرف (دفن حفرتها) أي دفن 
ذلك الجزء من العضو التناسلي للبنت الذي يشمله الختان الفرعوني. من يقم بعملية (دفن 
حفرة) البنت تكون له الأسبقية في الزواج منها على غيره- إلا ذا حال مانع من جانبه. وتتم 
عادات الزواج على مرحلتين: عقد القران والزفاف- ثم (قطع الرحط)- و(الرحط) مجموعة 
من السيور الرفيعة تلبسها الفتاة على خصرها وترقص بها ويقوم (العريس) بدفع مبلغ إضافي 
من المال وإقامة احتفال إضافي يعرف باسم (بقطع الرحط) ويكاد يتساوى في طقوسه 
وتكاليفه مع الزفاف. والعروس التي لا يقطع رحطها لا تغادر منزل أسرتها إلى دار الزوج 
ویظل الزوج يتردد عليها ويخصص له جانب من المنزل وقد تنجب منه وهي لا تزال مع 
أهلها. وقد يكبر أبناؤهما ثم يفتح الله على الزوج بیال يمكنه من القيام بطقوس (قطع الرحط) 
ولا يتعجب الناس إذا جاءهم صبي أو شاب يدعوهم لزواج (أمي) اي قطع رحطها. ويتم 
احتفال الزوجة في موكب فرح كالزفاف يسمى (الرحول) ومع ظروف الحياة تم تبسيط 
عملية (قطع الرحط) وأصبح الزفاف يستكمل في نفس اليوم ونسى الناس اشتراطات 


(الرحول) وكا نسوا عادة قطع الرحط. 








مركز محمد عمر بشير 

وبالمثل فإن الطقوس واحتفالات ولادة (ولد) توقفت عند وليمة متواضعة في سابع 
يوم الولادة في حين كانت تسبقها احتفالية بحلاقة شعر المولود ويعرف باسم (الزيانة) تنحر 
فيها الذبائح تماما مثل (الساية) وقد تقتصر احتفالية ذوي الدخل المتواضع على عدة قداح 
من (العصيدة) بملاح (الروب) ويعتبرون العصيدة والذبيحة إضافة إلى جانبهما الاحتفالي 


(كرامة) تحفظ الولود من العين والشيطان ويردف لما بحجاب صغير يعلق على رقبته. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
الطقوس الدينية: 

وبرغم الأمية- عدم القراءة والكتابة- السائد فان درجة الإيمان والتدين كانت 
عالية. ففي مطلع كل شهر قمري- هجري - يتحرى الجميع الرؤيا ولیس فقط لشهر رمضان 
كا تطلب الحكومة في الدن. وعند رؤية الشهر تطوف الأسر المتجاورة على بعضها مباركة 
ومهنئة بالخير والبركة ويتبادلون (الكرامة) المكونة من (حب الدخن) الغلی على الماء بقليل 
من الملح (البليلة) ويضاف لدى المقتدرين عدد من حبات بقول أخرى وقدر من سمن البقر. 
هذه الكرامة أو(البليلة) ى) تسمى تمارس أيضاً صباح كل جمعة لدى معظم الأسر. ويسود 
الاعتقاد أن دخان نارها المرتفع إلى السیاء يرفع معه (البلاء والغلاء) غير أنه عندما يتأخر 
هطول الأمطار تصبح (البلیلة) التزاماً على كل الأسر موسرها وفقيرها وترسل مع 
(العصيدة) بملاح الروب إلى تجمعات الرجال - بصرف النظر عن درجة ثرائهم- في 
الأماكن المعروفة وذلك قبل أن يقوموا إذا لزم الأمر بصلاة الاستسقاء والتي يسبقها (دم) 
بذبح خروف أو تيس حسب مقدرة القرية. وقد يتجهون للصلاة تقرباً عند ضريح شيخ 
مقبرة القرية في معظم القرى يكون هناك (زاوية) أو خلوة يعلم فيها الصغار القرآن. وعندما 
يحفظ الصغير قدراً من الكتاب يصل فيه سورة( البینة- لم يكن الذين كفروا..) يقام احتفال 
يسمى (الشرافة) وهي تزيين لوح القراءة بعدة آلوان من صبغة تسمى (التفتة) تعطي ألوانا 
تغنى بها إبراهيم الكاشف: أحمر أخضر أصفر ويطوف الصغار منشدين الجلالة حول زميلهم 
ويطوفون بالمنازل وتجمعات أهلهم ويتلقون مافيه النصيب ثم يعودون إلى (المسيد) ليجدوا 
أن أسرة المحتفى به قد أوصلت لهم قدحاً من عصيدة بملاح روب وقد يزيد عليها (صحن 


لحم) إذا صادف الوکب(یوم السوق: يوم الذبح) آما إذا أكمل الصبي الحفظ حتى سورة 


مركز محمد عمر بشير 
(النباً- أي عم يتسألون- أو أ جزء عم) أهلته مداركه بعدها حتى أكمل جزء تبارك 
(سورة الملك او المجادلة- قد سمع الله) فان التضحية بخروف او تيس تكون لزاماً على 
الأسرة. ومن يتخطى كل ذلك إلى (يس) فيقال عنه أنه (تم ربع يس- أي أكمل ربع 
الصحف الشریف) والذي (يتم ربع يس) إذا لم تستطع أسرته ذبح (عجل) فان عدداً من 
ا لخيرين والباحثين عن الأجر يتبرعون لنيل البركة ويصبح الشخص من (حملة القرآن) في 


تصنيفهم ويكون له مكان خاص وسط القرية.ويقصده من يريد (بخرة أو تميمة أو محاية) 








للتداوی بالقرآن. ويسمح له بعقد قرآن الأزواج. سورة (يس) ها مكانة خاصة في مجتمعنا 
الريفي وتعتبر تميمة قائمة بذاتها. 

في الزواج تقرأ (يس) عند عقد القران. وفي ليلة الزفاف يجلس القارئ يهب الزوجين 
البركة بقراءتها ويتركههما قبيل الدخلة. وعند بدء (الفزع) يبحث عمن يتلوها مع آيات أخرى 
للعثور على السروقات ولاتقاء شر السارق إذا كان مسلحا. وقراءة سورة (يس) واحدا 
وأربعين مرة وقاية وحفظ وقد قصصت من قبل وعذراً للتكرار أنه عندما كنت معتقلاً في 
سجن كوبر بالخرطوم بحري عقب (الانتفاضة) في أبريل ۱۹۸۵. وقد أقنع الرشيد طاهر 
بكر زملاءه بقراءة سورة يس واحداً وأربعين مرة كل يوم بعد الإفطار. 

كان في السجن حارس برتبة (ملاحظ- صول) يتولى المرور أحياناً ليتفقد النزلاء 
ويتأكد من العدد. وقد كانت ملامحه يعلوها الصلاح وله لحية من نوع لحية (هوشي منه) تتدیل 
حتى صدره. سأل مرة: إنتوا بتعملوا في شنو. شرح له الرشيد الطاهر أنه قسم سورة (يس) 
على الزملاء كل يقرأ مرة أو مرتين أو أكثر حسب قدراته على أن يكملوا السورة ٤١‏ مرة. 
ضحك الرجل المتدين الوقور وقال: عجب والله والله لو بتقروا (بس»)١‏ 5 مرة جد تطلعوا من 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
حيطة الحجر دي ولا يتهد منها حجر ونحن الحرس ما نشوفكم. بتقروا وكل واحد عقله 
مشغول وساهي. كاد بعضنا أن يوقف الاستمرار في القراءة لولا توسل الرشيد الطاهر 





وشرح أمر الوسواس الخناس فاقتنعنا على مضض. 

لابد من (طرفة) لكسر رتابة هذه الذكريات. حکی الشاويش (سيد أحمد) أن متها 
لديم حوكم في قضية بالسجن المؤبد. وفي أخرى بالإعدام شنقاً حتى الوت. تفتكر دا يعملوا 
فيهو شنو يا إبراهيم آفندي. حرت جواباً فاقترح الشاويش: أفتكر أحسن شيء يعدموا 
ویدفنوا في السجن. وافقته على الفور. و (طرفة) أخرى في السجن أن زمیلنا النتمي لطائفة 
(التيجانية) کال عمر الأمين رأى أني (مظلوم) فناداني إلى ركن وهمس لي أنه سيعطيني (اسم) 
أردده لمدة (۷ أيام) فقط وسيفرج عني. طلبت أن أعرف أولاً رجل الدين (صاحب الاسم) 
قبل أن أتسلمه منه. قال لي بكل ثقة إنه (سيدنا يوسف عليه السلام) رفضت بشدة أن أعرف 
(الاسم) ناهيك عن أن أردده. قلت له يا أخ كال سيدنا يوسف نبي أبقاه الاسم في السجن 
سبع سنوات. عايز تقتلني وتدفني في السجن زي سجين الشاويش (سيد أحمد) وأنا أهرب 
من الأخ كال تلقفني خالد حسن عباس الذي كان يتتبعنا عن بعد متأكداً أن في الأمر سرا 
واساً لا عرف به کال عمر الأمين من مبادئ تصوف. حذرته أن يقترب من كال واسمه 
والا شيعناه سجيناً قصصت له الرواية فلحقني هارباً. 

هذه التقاليد والأعراف اندثر أغلبها إن لم يكن جميعها ورغم ما نال (الخلاوي أو 
المسيد) من تحديث فإن طقوس حفظ القرآن التي ذکرتبا يكاد لا يعرفها حتى القائمون على 
شئون الخلاوي وتلقين الكتاب الكريم آما التبرك بحلول الشهر أو بالق رآن ليلة الدخلة أو .. 


أو.. فمسائل لم أجد من يذكرها اليوم ولكن هناك عرف واحد حافظ عليه الجميع حتى الآن 








مركز محمد عمر بشير 
وهو أن في كل قرية(ضريح) لأحد رجال الله يدفن الموتى حوله وني مقبرة باسمه. وتروى 
العجزات والكرامات عنه. وفي حالات عديدة- وإلى وقت قريب- كان الشاكي يطلب من 
المحكمة في حالة إنكار المتهم وعدم وجود شهود أن يقسم على المصحف على ضريح الشيخ. 
فيذهب المتهم والشاكي ومعهم شرطي المحكمة يحمل المصحف ليتم القسم على الضريح. 
وفي حالات أخرى يصر الشاكي أن يكون القسم ليس على المصحف الموجود بالمحكمة وإنما 
على مصحف الشيخ أو على مصحف مخطوط باليد لا مكتوب بالمطبعة. وقبل أن ينقرض هذا 
العرف من المتخاصمين كانت المحاكم تستجيب لرغباتهم. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 
... وعادة النفير في الناسبات: 

من العادات التي كانت سائدة بشكل منتظم عادة (النفير) وقد اشتهر النفير في 
الزراعة ولكنه أيضاً في البناء. وهو التعاون المنظم بين أهل القرية في المناسبات المذكورة. 
فعندما تود الأسرة أن تبني منزلاً- في أي شكل من أشكاله في القرية- قطية أو راكوبة أو 
كرنك أو تسوير حوش فإنهم يعلنون عن الناسبة ويومها يجتمع الشباب والنساء والرجال 
وكل یعرف ما يستطيع القيام به وما يتوقعه منه صاحب الناسبة: قطع وإعداد الأعواد 
والمطارق والقش واللحى والشعب ثم حفر الأساس للشعب وعملية البناء. يقوم الداعي 
بإعداد خروف أو تيس و(الطعامات: شطة وملح) ثم قدر مناسب من (الریسة) يفي بحاجة 
العدد المشترك في (دوانة- برمة كبيرة) أو برمة أو (دلنق- أصغر من البرمة) وعادة ما يقوم 
الرجال الذين انتهى دورهم في الأعمال الأولى بذبح (الكرامة) ويقوم المتخصصون منهم في 
إعداد (الرارة) أو (أبو غازي في حالة التيس) ويجهزون النار للشواء. وفي العادة فان رجال 
النفير يعتمدون على أنفسهم في إعداد مائدتهم وكأنهم في رحلة. وبقرب انتهاء اليوم يكون 
العمل قد أنجز وجلس الجميع احتفالاً وسمرا ونشوة. 

وفي مجال الرراعة : 

يتم عادة توزیع أيام النفير حسب الطلب ووفقاً لحجم (الزراعة- الزرع) وبعده أو 
قربه ونوع الخدمة الطلوبة: هل هي تعاون على الزراعة (بذر البذور) أم على النظافة (الحش) 
وني حالة الحصاد هل(قطع العیش- أي قطع القندول من القصب) أو (دق العیش) أي 
فصل البذور من الرژوس. وفي الحالة الاخبرة تستدعي وجود النساء حیث يقمن خاصة 
کبیرات السن بتذرية البذور في مهرجان تتقدمه الأغنيات الخفيفة ذات الإيحاءات بسبب 








مركز محمد عمر بشير 
الانتشاء من احتساء بعض المنعشات. وبعد التعرف على نوع العمل وحجمه يقتسم الرجال 
في الصباح الباكر أداء الادوار فمنهم من يجهز الحفرة ومنهم من يتبعه بالزراعة وهناك من 
يقوم بالعملية الأولى من (الحش) ومنهم من (يكتل) أي يردفها بأخرى تؤكد تام النظافة 
وعندما يكون النهار قد قارب الانتصاف يخلد الجميع إلى ظلال الأشجار للراحة وتناول 
الإفطار والذي يكون شيئاً من لحم قليل وقدراً من (مريسة) أقل يتقوى بها الجميع لواصلة 
العمل حتى العصر حيث يتناول الجميع غداءً دسمأ سواء من مرارة ثم شية- أبو غازي- أو 
کلیه| والقضاء على بقية مريسة النفير ويتخلل الجلسات الحديث الحلو المرح ويعودون 
أدراجهم مع المغيب. وتنفرد كبريات النساء بعملية فرز الحبوب كا ذكرت وللجميع هن 
تقدير خاص إذ جرت العادة أن (الضرايات- أي اللائي يقمن بتذرية احبوب) يقطعن 
الطريق على المسافرين بالطرق التي تمر قرب الزراعات في الموسم ولا یسمحن للمسافر أن 
يواصل مسيرته إلا إذا (دفع العادة) والعادة بضعة قروش تختلف في مقدارها بين الراجل- 
وراكب الفرس أو الجمل- أو ناظر العموم الذي غالبا ما يكون مارا بسيارة. والشخص 
الذي يتجاهل (العادة) ترتجل (الضرايات) هجاء يلحق به زمناً لا يمسحه إلا قدر مهول من 
(العادة) يدفعه آول موسم حصاد. وبعد موسم الحصاد وخاصة في الليالي المقمرة يتجمع 
بعض فتيات القرية والأمهات وبعض الأقارب من الشباب على وجه الخصوص يقيمون 
احتفالية غنائية تغنى وترقص فيها الفتيات وتسمى (الصفقة) إذ ليس هناك من آلات 
موسيقية سوى الأكف التي تصفق وحناجر الشباب التي تمارس عملية (الكرير) أي الإيقاع 
الموسيقي بصوت الحنجرة. وفي كل (صفقة) توجد فتيات شاعرات يخلدن مناسبات في القرية 


أو القبيلة أو وسط الشباب في سن الزواج ويخشى الجميع مغبة الخطأ الذي يفضي إلى (هجاء) 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
إذ إن ذلك يلحق عاراً لا يمحى. وعندما يشتد ا لحاس بالشباب يخلع أحدهم جلبابه ويرتكز 
على عصا ویطلب من زملائه أن يجلدوه على ظهره وهو ما يعرف باسم (البطان) في أواسط 
وشهال السودان ويقال عنه في دار حمر بأن فلاناً (رَتَبْ) ويجلد مرات يتطاير الدم من ظهره ما 
يثير إعجاب الفتيات وشفقتهن فتعلو الزغاريد ويتوقف الجلد و(يبز) عليه زملاؤه مفتخرين 
به ينتظر كل منهم دوره. وقد يتدخل عاقل ويقول كفى هذه الليلة. وقبل أن تنفض (الصفقة) 
تكون إحدى الفتيات المعجبات الشاعرات أو النساء (الحكامات: ممتهنات شعر المناسبات) 
قد قامت بتأليف وتلحين أغنية إعجاب بالفتى أو مقطع هجاء إذا كان أثناء الجلد ارتجف أو 
(رمشت عينه) وتبادل النظرات والاستلطاف في مثل هذه اللقاءات كثيراً ما يشكل درجات 
من الاعجاب الذي يفضي إلى الزواج. وعادات الزواج تتشابه في كل السودان إذ تذهب أسرة 
الخطيب في زيارة تفقدية لأسرة الفتاة فتراها وأهلها على الطبيعة ومن طريقة الترحيب 
والاستقبال والضيافة يتكون الرأي الذي يشكل المراحل المتتالية في السير أو التوقف. إما إذا 
كانت هناك قرابة دم أو جيرة بين الأسرتين فإن طرفي العلاقة قة يكونان على تعارف منذ الصغر: 
يأكلان سوياً ويرعيان (الغنم أو العجول) مع بعضها وقد يسبحان في ماء الرهد دون خجل 
إلى أن يلفت الكبار نظرهما إلى آنا قد كبرا ويفرق بينهما دون أن يشعرا بالخجل من بعضه| 
البعض. غير أن أسوأ ما في تداخل علاقات الأهل والجيران هو قيام الأمهات المرضعات 
بتبادل إرضاع الأطفال فيمنع الزواج بينهم لا نهم أصبحوا حسب الشرع إخواناً أو أخوات في 
الرضاعة. 





مركز محمد عمر بشبر 
وفي الرواج: 





هذه بعض عادات وتقاليد دار حمر كا عشتها في صقع الجمل آما الزواج في دار حمر فقد 
كانت له أعراف وتقاليد أخرى إذ كان يزف العريس في (سيرة) وهو على صهوة جواد يحف به 
الأهل والأصدقاء وأمه وأخواته وبنات أهله يغنين ب| يبرز مناقبه وكرمه وشجاعته (حتى وان ۸ 
يكن يتحلى بها) حاسرات الرأس ويحركن الرقاب يمنة ويسرة فیما يعرف باسم (الشقلاب) إلى أن 
يصل الركب إلى بيت العروس حيث يتم الاستقبال خارج الدار ويدخل الجميع حيث يستضافون 
ويساق العريس مع قلة من أصدقائه وأمه وأخواته إلى حيث تجلس العروس يحيط مها جمع ماثل 
وجسمها كله مغطى بفركة قرمصيص وهي نوع من الأقمشة التي تنسج في صعيد مصر من ا حرير 
الصناعي ويخرج أهلها يدها من بين الغطاء ويضع عليها العريس (الحناء) بين صيحات الشباب 
وزغاريد الأهل من الجانبين ويصحب (خت الحناء) مبلغ من الال. ثم يكشف العريس الوجه 
الذي سرعان ما يتوارى خجلا وراء القرمصيص مرة أخرى. 

ثم يعود الركب وني الليلة التالية- ليلة الزفاف- يحضر موكب الزفة بطريقة ممائلة 
وتقرأ سورة (يس) تبركاً ثم يلمس وجه العروس المس القصّة کا يسمى) نظير مبلغ تقبله أم 
العروس ثم يترك الزوجان لبعضهی ويلهو الأهل من الطرفين في الخارج بأغاني الفرح 
مبتدئين بأهزوجة تقليدية(عيال أم زقدو اندسوا رقدوا خلونا برة) وتتضاحك الفتيات وهن 
يتخيلن اليوم الذي ينتظر السعيدات منهن. كان العريس يستمر بعد الزفاف أربعين یوما 
ترعاه أم العروس بتغذية خاصة مع أصحابه وتتعمده كبريات النساء بالدلكة حتى يقال 
مبالغة أنه بعد اليوم الأربعين يقطر جلبابه دهناً عطراً. ثم تقلصت الأيام الى سبعة ثم ليلة 


واحدة وعرسان آخر زمن. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سسس 
.... وعن قبيلة حمر: 

الصقع وهي كا ذكرت كانت حاضرة الدار أيام الشيخ إبراهيم ود المليح والذي له 
تجمع ماء حتى الآن يعرف باسم (بيار ود المليح) ود المليح ناصر المهدية وكالعادة استدعاه 
خليفة المهدي إلى أم درمان مع بعض القيادات القبلية. ويبدو آنها قد اختلفا في بقائه في البقعة 
أو في شأن إدارته للقبيلة فاستبقاه ثم سجنه ولا جاء وفد القبيلة لاسترحام الخليفة أرسل في 
طلبهم وأخبرهم أنه لا يرجو العفو من الخليفة وأنه بعد أن هرب (سلاطين باشا أوعبد القادر 
كا اسماه الخليفة أو شويطين كا يناديه العامة) فلا بد أن (الرّك- أي الإنجليز والأتراك 
والمصريين) سيقودون حملة لقتال المهدية وعندئذ سيحتاج إليه الخليفة فيطلق سراحه دون 
طلب عفو يكون إذلالاً له ولقبيلته أو سيبقى في السجن ويطلق (الترك) سراحه لأنهم سوف 
ینتصرون بعد أن عادى الخليفة كل القبائل. وبالفعل انتصر(الترك) وأطلقوا سراحه بعد أقل 
من عامين. ولم تكن صقع الجمل هي الحاضرة الوحيدة لقبيلة حمر إذ كانت هناك عدة عواصم 
اقتضتها ضرورة الاستقرار والامان وحفظ حدود (دار حمر) المترامية الأطراف والتي اشتراها 
الحاج منعم ود سالم من السلطان حسين بن سلطان دارفور محمد الفضل الذي كانت تتبع له 
هذه الرقعة التي تمتد حتى حدود مدينة الأبيض عند قرية (العیارة) وجبل (آبوسنون) 
والعيارة هجاء أطلق على إمراة من قبيلة حمر اشتهرت بأنها تشتم- تعایر- كل من يخالفها 
فأطلق عليها اسم (العيارة) وأصبحت القوافل تتحاشی المرور على قرية العيارة. أما (جبل 
أبو سنون) فهو معروف. هذا الجزء من أرض دار حمر وكيفية وصوها إليها مهاجرة من اليمن 
في رواية ومن شال أفريقيا في رواية أخرى- وشرائها من سلطان دارفور اقتبس أغلبه من 
رسالة ماجستير لأحد ابناء دار حمر الباحثين- السيد أحمد حمدان- المحاضر عند كتابة هذه 


مركز محمد عمر بشير 








الذكريات بجامعة الرباط» وقد اعتمد الباحث السيد في رسالته- التي كانت بإشراف 
البروفيسور عوض السيد الكرسني على وثائق تسع تبدا بخطاب تعيين الناظر منعم منصور 
ناظراً لعموم قبائل الحمر في ۲۳ یولیو ۱۹۲۸ وتشمل نسب القبيلة وتنتهي بالوثيقة النحاسية 
التي توضح حدود أراضي ديار حمر والتي تم شراؤها من سلطان دارفور حسين بن السلطان 
محمد فضل والمؤرخة ۲۲صفر ۱۲۲۷ الموافق 7١18م‏ والموجودة لدى ناظر عموم حمر 
(الأمير فیا بعد) عبدالقادر منعم منصور. كذلك اعتمد الباحث السيد على معلومات شفوية 
من أعيان وشخصيات في دار حمر وني دارفور عددها ۲۸ فرداً أبرزها من حمر مصباح یوسف 
دود المعاليا والفكي محمدين حامد إبراهيم من حفظة القرآن وقد تجاوز عمره المائة عام 
وبذهن حاضر وعبد القادر منعم منصور الناظر(الأمير) وأخوانه محمدين وحامد وأحمد 
وأخته فاطمة (الملكة) ومن قبيلة (برتي) الناظر الصادق عباس ضو البيت ومن قبيلة (الفور) 
محمد بشار أحمد (شرتاي) وعمر أحمد زروق (شرتاي) و(الملك) رحمة الله حمود في الفاشر 
ومن الجعليين أعيان النهود (يسن أحمد جحا) بل ومن المملكة العربية السعودية محمد عبدالله 
الصويلحي الرقيب في الشرطة السعودية والمقيم بالمدينة النورة. من آبرز إفادات الشرتاي 
محمد بشار أحمد- فوراوي- من زالنجي- قارسلا أن سلاطين الفور أعجبوا بشجاعة حمر 
بعد اختبارهم في أكثر من معركة ولذلك- وضاناً لعدم تحالفهم مع بعض قبائل كردفان - 
وافقوا على الفور على طلبهم شراء أرض تكون دارا هم وحاجزا بينهم وبين تلك القبائل كا 
نها تجعلهم أكثر قربا للسلاطين. 

وشملت مصادر البحث القيم مراجع باللغة العربية لسودانيين وعرب وفرنجة 


(مترحمة) آبرزهم- دون تقليل من قيمة الآخرين- سلاطين باشا ودكتور عون الشريف 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
ودكتور منصور خالد والدكتور أحمد زكي بدوي (طبعة لبنان) ودكتور عبدالغفار محمد أحمد 





والأستاذ موسى البارك ونعوم شقير والبروفيسور يوسف فضل. کا شملت أيضاً رسائل 
جامعية غير منشورة عددها هس منها بحث عن الطريقة التيجانية للبروفيسور عوض السيد 
الكرسني باللغة الإنجليزية وآخر للأستاذ إسماعيل علي الفحيل ودراسة عن تراث الحمر 
الشعبي للأستاذ محمد أحمد إبراهيم ورسالة عن (الدقاقیم). وقد انفصل عبد الرحيم سالم 
الملقب (أبو دقل) عن الدقاقيم في عام ۱۸۷۳ لفرع ثالث هو (الغريسية) وبقرار من الحاكم 
التركي (حسن باشا الجويزير) وافق عليه حاكم عموم السودان إسماعيل باشا أيوب وذلك 
قبيل قيام الثورة المهدية والتي انضم إليها وحارب مع القائد حمدان أبوعنجة في جبهة الحبشة 
مما أكسبه مكانة في المهدية. وبهذا فقد أصبحت فروع القبيلة الثلاثة كا يلي: 
العساكرة(الطرادات)- الدقاقيم- الغريسية. 

العساکرة: ویشمل ثلائة خشوم بیوت هي : الدمالج» السات والدویش أو 
عیال طراد. 
(۱) الدمالج: یشمل: 
١-بني‏ بدر ۲ -الغشیات. 
(۲) الخمسات : ویشمل: 
١-الخريسات7-‏ الجخيسات ۳- النانعة. 4 - المناضير ۵- الميامين. 
(۳) الدويش أو عيال طراد: 
۱- الطرادات ۲- الغنيمية. ۳- الفواضل. 
5 - الصبیحات ۵- النواجات ۲ - آولاد خضرة. 





مركز محمد عمر بشير 
/ا- الجلدة. 8-الحرباش 8-الجواميس. 
۰-التيايسة. -١١‏ الخوازم ۱۲- المعاركة. 
۳ -الشاعين ۱- القرعان. 
الدقاقیم : ویشمل خشوم البیوت التالية: 
۱-ناس آبوزید. ۲- آولاد شضوان. ۳- آولاد برعاص. 
ع - آولاد عامر. ۵- آولاد سحایا. ۲ - الصبحة. 
۷- الجمعانية. ۸- الشعبيات. 4-الوايلية. 
۰- آولاد ساري. -١١‏ آولاد صبیح. ۱۲ - الغرقة. 
الغریسیة: ویشمل فرع الغريسية البيوت التالية: 

۱- اطداهدة. ۲- آولاد شیغان. ۳- عیال جوید 

كما شملت الراجع کتاب الالیات التقليدية في فض النزاعات للأستاذة فاطمة الأمين 
واحری عن دور الحكومة الركزية والادارة الأهلية في فض النزاعات القبلية في دارفور. آما 
الصادر باللغة الانجليزية فقد بلغت إثني عشر كتاباً ورسائل یرجم بعضها إلى عام ۱۸۲۱ 
عن (مصر العلیا) ثم عام ۱۸۸۱م وعام ۱۸۸۹ وآعوام ۱۹۱۲ و ۱۹۳۵ و۱۹۶۰ إلى 
اعوام ۱۹۵۷ و ۸۱۹۹۸ في کتابات مفتش مركز غرب کردفان (النهود) إلى مدير مديرية 
کردفان (الأبيض) والستر هارولد ماکایکل- مفتش ثم مدير مديرية کردفان ومورخ- 
والستر هندرسون في کتابه عن قبيلة حمر والورخ ریتشارد هيل وغيرهم. 

بعد كل هذا من هم (حمر) وكما قال الأديب الفذ الطيب صالح ( مع الاعتذار والفارق) 
من أين أتى هؤلاء الناس. كعادة القبائل السودانية المسلمة والتي تتكلم اللغة العربية 











السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
بمختلف اللهجات فإنهم يرجعون بنسبهم إلى الجزيرة العربية. هذا شأن المتواضعين منهم. 
آما الآخرون فإنهم ينتسبون إلى الدوحة النبوية الشريفة سواء إلى سيدنا الحسين بن علي كرم 
الله وجهه أو إلى أخيه الحسن. وبا أن الحسين (شهيد) فالغالبية تميل نحوه. 

لابد من طرفة: عند مصالحة السيدين على الرغنی وعبد ال رحمن المهدي بعد الاستقلال 
قام وفد من الختمية برئاسة وزير الحكومة المحلية الشيخ محمد أحمد المرضي بزيارة مجاملة الى 
انتو شطار منتسبين الى سيدنا الحسين طيب ما دام اصلوا كذب في كذب ما كان الأنصار 
ينتسبوا لسيدنا الحسين: أقلو شهيد ما لهم ومال الحسن. 

... ونسبهعم: 

وشجرة النسب التي تتجمع حوهما فروع القبيلة تلتقي عند الشريف محمد الأحمر بن درك 
بن السيد حسن المعارك (الطرادات آل مكي ومكين ومنهم آل محمد الشيخ). الدقاقيم (آل 
ابو دكة- فتين- آبو جلوف) و(الغريسية آل أبو دقل) وبالنسبة لأسرتي الباشرة فان النسبة 
المكتوبة عند الشيخ محمد عبيد الله والأمير عبد القادر منعم منصور تقول باسمه: عبدالقادر 
بن الشيخ منعم بن الشيخ منصور بن الشيخ محمد الشيخ الملقب جلد الفيل بن الشيخ 
إسماعيل النعاس الملقب سكاك بن الحاج منعم بن الشيخ سالم بن الشيخ عيسى بن عامر بن 
عشان بن طراد بن الشريف محمد الأحمر بن درك بن السيد حسن المعارك بن الشريف محمد 
دشم بن حسن بن السيد أحمد بدر بن السيد رافع بن الشريف عامر بن السيد الحسن بن السيد 
إسماعيل بن السيد عبدالله بن السيد إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر 
الصادق بن السيد محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي 
كرم الله وجهه. أما اقسام القبيلة أو فروعها فهي في الأصل فرعان عسکر (الطرادات) ودقوم 








مركز محمد عمر بشير 
ومنه| تتكون قبيلة حمر ولا وجد من ينكر ذلك خاصة كبار السن ونظار القبيلة الذين 
شملهم البحث. ومازال هنالك عدد غير قليل من الناس يرى أن الغريسية أحد فروع 
الدقاقيم ولكنه يقر بوجود نظارة مستقلة هم. من أين جاءوا ؟ دخلت القبيلة السودان من 
جهة الشمال الغربي من شمال أفريقيا حوالي ١٠٠١م‏ قادمة من أرض الحجاز شرق المدينة 
المنورة عن طريق الشام. استقرت شال مدينة (كتم) في دارفور شال الفاشر ثم غادروها 
بسبب قلة المرعى الدائم إلى منطقة (الطويشة) الحالية شرق دارفور واستقروا في المنطقة بين 
قبائل (برتي) وقبيلة (المعاليا) كان لقبيلة حمر زعییان: سالم تريشو ناظر فرع العساكرة 
(الطرادات) وحمد أبو تابر ناظر فرع الدقاقيم (إذ إن حمر عسكر ودقوم) وهم مهمون بالخروج 
من دارفور بحا عن مكان آمن من مناوشات القبائل- وآمن من حيث الماء والمرعى- اختلف 
الزعی‌ان. كان من رأي (أبو تابر) أن تتجه القبيلة شهالاً حتى تصل (البحر) نهر النيل فتستقر 
بعيداً عن الغير وعن العطش. وكان من رأي سالم تريشو أن تسير القبيلة نحو (الصعيد 
جنوبا) إذ كلما ساروا جنوباً وجدوا ماء ومرعى. آما القبائل ومناوشاتها فهم كفيلون بها إذ 
إنها سنة البادية. اتجه كل زعيم مع آهله وبعد فترة رأى سالم تريشو أن يتفقد أخاه فأرسل 
الرسل يتعقبون المسار فهالهم أن بدأوا يجدون بقايا جمال نافقة وهياكل بشرية ناشفة. ثم 
توقفت البقايا وتوقف الأثر. ماتوا (هافوا) جميعاً بشراً وسعية. وعرفت الواقعة باسم (هيفة 
أبو تابر) غير أن بعضا- باسناد ضعيف- يقولون أن قبيلة الكبابيش طمعت في القافلة 
واستفادت من ضعف حاها بسبب الجوع والعطش فقتلت زعيمها أبو تابر ومن معه 
واستولت على الغنائم. بيد أن هذا قول ضعيف روج له البعض - كا قيل- عند شحذ اطمة 
لقتال الكبابيش في معركة (العقال). 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 


وكا توقع سالم تريشو فقد اشتبكت حمر مع قبيلة المعاليا وهزموها في معركة عرفت 
باسم (معركة القرطاس) والقرطاس هو الورق والإشارة إلى أن قافلة لسلطان دارفور قامت 
من الفاشر في طريقها إلى الحجاز وقد كلف قبيلة حمر بحايتها من القبائل التي 
تعترضها.كانت القافلة تحمل كسوة للكعبة كا تحمل كمية من (السكر الرأس) والمعبأة في 
جوالات والمغلف بورق أو قرطاس أزرق اللون. خلال المعركة تفلتت كميات من القرطاس 
وانتشرت ف المنطقة آدت إلى تسمية المعركة باسمها. 

ثم اتجهت القبيلة شمالاً مرة أخرى إلى منطقة (أم شنقة) شرق منطقة (أم كدادة) 
الحالية حوالي ۱۷۵۰۰ م حيث عرفت للقبيلة هيبة وكينونة رشحتها لكي يستعين مها سلطان 
دارفور (تير اب) في حرب ضد قبيلة المسبعات في معركة عرفت باسم فرشاحة غرب مدينة 
الأبيض والتي هزم فيها (هاشم السبعاوي) سلطان المسبعات الذي هاجر خارج المنطقة كلها 
ولجاً للسلطان (محمد أبو لكيلك) في سلطنة الفونج بمدينة سنار ثم اتجهت القبيلة إلى ما 
يعرف حالياً بکردفان ووجدت خيراً في مناطق(فوجا) و(أم بادر) و(أبو زبد) و(الفرشاحة) 
قبيل عام ١۱۸۸م‏ . كان زعيم القبيلة سالم تريشو قد توفى وخلفه ابنه الحاج (منعم) الذي 
أنجب البنين (مكي أبو المليح) و(مكين) وهما اللذان تنسب دار حمر إليه) أحياناً فيقال دار 
(مكي ومكين) وكان لما أخ ثالث يعرف باسم (إسماعيل السكاك) وبعد اكتشاف مناطق 
كردفان ترك الحاج منعم ابنه مكي الملقب أبو المليح في (أم شنقة) واستقر هو وابنه إسماعيل 
السكاك في (فرشاحة) حيث توفى حوالي 5 ۱۸۲م. خاضت قبائل حمر عدة حروب متتالية 


للمحافظة على كينونتها وعلى (الدار) التي بسطت نفوذها عليها سواء في دارفور أو في 








مركز محمد عمر بشير 
كردفان. فكانت حرب ۱۸۱۸ مع قبيلة (الزيادية) في منطقة (البحير) شمال دار مر بكردفان 
عندما أرادوا احتلالها فهزموهم وقتل زعيمهم (بخيت ود قبلة) كذلك خاضوا حروباً مع 
(المسيرية) حول منطقة (الأضية) ذات المورد المائي فطردوهم منها بقيادة فارس من فرع 
الفواضل- الطرادات- اسمه اشتهر لغرابته إذ كان يدعى ویکنی (جمعة محمد مغطى يابس) 
واستمرت المعارك مع الحوازمة والنوبة حول (أبوزبد) أما الحوازمة فقد تركوا المنطقة كلها 
بعد ا هزيمة واستقروا حيث هم الآن حول (رشاد) في شرق جبال النوبة.اما النوبة فقد آثروا 
(الصلح) على أساس أن الحدود بين القبيلتين هي (الأرض) حد حمر وحد النوبة (الجبل) 
بمعنى أن النوبة لا يقربون (الأرض) فهي لقبيلة حمر وأن حمر لا يعتلون الجبال فهي لقبائل 
النوبة. اما المعركة الكبرى التي حسمت حدود دار حمر الشالية بخلاف حرب (الزيادية) فقد 
كانت مع القبيلة المعنية والغنية (الكبابيش) وقد عرفت باسم (دوسة) أو معركة العقال عام 
۰ م العقال إشارة إلى كل قبيلة (عقلت جماها أي آوئقت آرجلها) ونزلت الميدان تحت 
شعار الوت أو النصر لا مجال للهرب. هنا يقف اقتبامی من بحث الاستاذ السید فأقول ما 
حدث يشبه تماما مثل ما فعل القائد طارق بن زياد مع قواته عند فتح الاندلس بأن أحرق 
(المراكب) التي أقلت الجنود وتركهم آمام عدوهم أو الغرق في البحر. انتصرت قبيلة (حمر) 
في حرب العقال ولكن نظراً لأهميتها في تاريخ حمر القديم وأثرها في الاستقرار الحديث 
للقبيلة لابد أن أورد الإرهاصات التي سبقتها والنتائج التي لحقت بها إذ كانت قبيلة 
الكبابيش تريد أن تتوسع جنوباً(صعيد) فتضم مورد المياه المعروف حتى الآن باسم (فوجا) 
إلى سلطتهاء وبالقوة. الأمر الذي رفضته بالطبع قبيلة حمر واستعدت للقتال من أجله- 


ويرجح البعض أن المعركة دارت في منطقة تعرف باسم (جبل أبو فاس) شرق مورد (أم 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
بادر) ويرجح أخرون أن المعركة كانت في عقر دار حمر في منطقة (الدم جمد) ولعل مكان 
المعركة كان يعرف باسم آخر لكن بعد انتهائها (جمدت) الدماء التي سالت في برك متعددة 
عرفت بعدها المنطقة حتى اليوم باسم (الدم جمد) والدة ناظر الكبابيش الشيخ السالم وهي 
امرأة حكيمة وفي رواية ضعيفة زوجته حذرته ولكنه لم يستمع للنصح. وبا مئل نصحه (مكي 
أبو المليح) زعيم قبيلة حمر في خطاب يعتبر قطعة أدبية وعسكرية نورده هنا. 
..... حرب العقال أو دوسة العقال: التي ثبتت أركان دار حمر: 

وقبل أن نتعرض للخطاب نورد رواية أخرى أكثر دقة عن أسباب حرب العقال 
وهي أن قوافل من قبيلة حمر اعتادت السفر إلى دار الكبابيش حيث يكثر (الملح) على سطح 
الأرض في منطقة تسمى (القاعة) ويحملن ما تستطيع القوافل لاستخدامه في تسمين أنعامهم. 
وفي مرة اعترضت القوافل جماعة من قبيلة الكبابيش ويبدو أنه كان بينها ناظرهم الشيخ 
فضل الله ود سالم إذ إن الجماعة كانت تحمل معها (نحاس القبيلة) وقد انتصرت قافلة حمر على 
مجموعة الكبابيش وسلبت منهم النحاس الأمر الذي جعل الشيخ فضل الله يرسل خطابا 
عنيفاً إلى الشيخ مكي أبو المليح يخطره فيه أنه منذ الآن فان حدود داره في (الدمارة) أي 
الاستقرار وقت شح المياه صيفاً في (فوجا) داخل حدود حمر: جاء في الخطاب (السودان في 
رسائل ومدونات: الجزء ۱۳ ص ۱۱۸ سنة ۱۹۳۰). 
(في فو جا أم خيارة عاوز له دماره): أي دماره في فوجا ذات ابر أي الماء. 
(كان حاوطوك حمر): أي أحاطوا بك ليحاربوك. 
(بدس فيهم حماره): أي أدخل وسطهم أحاربهم بحمار وليس بحصان أو جمل. 
(أغر وبي كدارة): وصف للحمار له غرة. والكدر هو رجل امار. 





مركز محمد عمر بشير 
(بشيشك يا يمة العيش برد): أي على مهلك يا والدة. العيش هو العصيدة أي أن حمر لا 
يحتملون أكل العصيدة وهي ساخنة ويطلبون من أمهم أن تجعلها باردة فكيف يحتملون 
الحرب وهم يخشون الأكل الحار. 

(لا يشيلو كنجارة): والكنجارة من قبائل دارفور. أي لا تأي كنجارة وتستولي على 
العصيدة الحارة. 





وفي الخطاب تحقير واضح. وتهدید الاستيلاء على مورد ماء فوجا. 

وکا سبق بيانه فان قافلة حمر أخفت نحاس الكبابيش في أحد كهوف الجبال التي 
تنتشر على الحدود بين القبيلتين ول يعثر عليه حتى الآن ىا سبق ذكره. وبالطبع سارع 
الکبابیش إلى جلب نحاس آخر على وجه السرعة من مصر التي كانوا ولا يزالون على صلة 
بها عبر درب الأربعين. 

وقد أشار رجال قبيلة حمر على الشيخ مكي أن يبادل الخطاب بآخر أشد تحقيراً 
وعنفاً. وإنذار بأنه قادم إليه في (حربة) أي جيش لا قبل له به. 

الأمر الذي أود أن أركز عليه هو أننا لا نسعى من هذا الخطاب ولا من وراء ذكر 
الانتصارات على القبائل التي بادرت حمر بالعداء والاعتداء أن نقوم بإحياء (عصبية) فليس 
منا من دعا أو يدعو الیها.ک لا نسعى إلى تفاخر جاهلي واستعلاء ونیا رأينا فقط أن نشير إلى 
تاريخ مجيد يجعلناء نحن أبناء هذا الجيل ومن بعدناء نعرف من نحن وصلاً إلى آنسابنا 
وأرحامنا والتي عندما كانت متجردة في علاقة بعضها البعض وفي علاقتهم بالدار التي 
أسسوها وضحوا لحايتها. كانوا وحدة مهابة لمصلحة بعضهم البعض: رفعوا اسمها وسعى 


- 








السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
ابحمیع من حوهم ومن على البعد لاحترامهم وکسب ودهم والاحتاء بهم والعیش في کنفهم 
حتی آضحت(فروة النمر). 
نشر خطاب الشیخ مكي الستر هندرسون مساعد مفتش غرب کرفان (مر) .1.1.1 
Henderson‏ لاو ل مرة في مجلة السودان في رسائل ومدونات Sudan notes and records‏ 
الجزء ۱۳ ص ۱۱۷ عام ۸۱۹۳۰ . ثم نشره الاستاذ محمد آمد ابراهیم في بحثه عن (ملامح 
من تراث حمر الشعبي إصدار شعبة آبحاث السودان بجامعة الخرطوم عام ۱۹۷۱). وکذلك 
الاستاذ السید أحمد حمدان في الرسالة الضافية التي نال بها درجة الماجستير في العلوم السياسية 
من شعبة العلوم السياسية بكلية الدراسات الاقتصا:ية والعلوم الاجتاعية بجامعة الخرطوم 
عام ۲۰۰۰م. 

وكل هذه المصادر الثلائة اعتمدت على الروايات التي حفظها الأحفاد عن الآباء 
والأجداد. وأهمها ما رواه الدكتور الدرديري إبراهيم الدسوقي عن أحمد عبد الرحيم بري 
(سوبة) قبل وفاته. 

ومع أن ما نشر عام ۱۹۳۰م كان أقرب تاريخياً إلى النص الأصلي (۱۸۷۰م) إلا أن 
ناقله أجنبي إذ تحدث اللغة العربية التي لابد أن يعرفها بحكم منصبه إلا أن (هجة) حمر قد 
تجعل بعض الکلیات والتعبيرات لا تأتيه نفس سلاسة العربية الفصحى التي تعلمها بینا لا 
تفوت على (الحمري)» حسب فجته. 

وما بين أول تدوين للخطاب بشكل وثائقي وبين (دوسة العقال عام ۱۸۷۰) 
تتابعت روايات وروايات تفسر بعض الاختلافات اللفظية مع أنها قليلة وصغيرة لم تؤثر على 
متن الخطاب. 





مركز محمد عمر بشير 

ويقال في رواية أن الشيخ مكي عهد إلى أحد (الفقراء من يعرفون القراءة والكتابة 
بحكم حفظهم للقرآن الكريم) بالكتابة فبدأ الفكي قائلاً : (بسم الله جوابا إلى البرضا واليابا. 
اللهم يا مسبب الأسباب ويا مجري السحاب) وقبل أن يسترسل أوقفه الشيخ مكي وعهد إلى 
آخر هو الفكي أحمد ود عيسى أبو أمأ جابت. أي ولدت. وتبادل الاثنان الشيخ والفكي لغة 
الخطاب غير أنه ينسب إلى الشيخ مكي إملاء الخطاب وإلى الفكي أحمد ود عيسى مجرد 
الكتابة. 





وعدا تعاول شرح بعض المفردات والمعاني التي وردت في الخطاب ما أمكن. يقول 
الخطاب: 

(يا سال يا ود سالینا أنت مننا وأبوك أخينا). أي أننا أهل. 

(يا شايب الكلاب الطالن سنينا): أي : كناية عن طول العمر والهرم بحيث لم يعد ذا نفع. 

(لا تسمع قول المخربينا فروخ ا حرام المفسدينا): أي : أبناء الحرام كناية عن عديمي الأصل. 

(لا عاشوا فيك لا ربيو فینا). أي: لا علاقة أو ولاء لهم لكم أو لنا فهم لا يأكلون 
معكم ولا معنا عيش وملح. 

(ديل (.... و.... و...) . آسیاء لثلاث قبائل كانت تحرضه). 

غدارين لي کتب مكة والمدينة. أي: يحلفون زوراً على القرآن بسوره المكية والدنية. 

(قضيباتہم ضويلات العقارب). أي: شعور رؤوسهم ملتوية كذيول العقارب كناية 
عن الغدر والفتنة. 

(هذا عامر وهذا خارب). 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول جس 
ثم يبدأ في وصف جيشه: ١‏ 

(جاتك حربة حاشدة مى ناشدة). حربة أي جيش حاشد كثيف مي ناشدة: أي لا 
تنشد دلیلا فهي تعرف طريقها. 

(من ورى حشد). أي: من الوراء وهي تطلع القوز المرتفع الرملي ترى حشدها. 
(ومن وسط انفزرت). أي : انبسطت مع انبساط السهل وهي تنزل من القوز الخلفي. 
(ومن قدام مزنا مزرق بان): أي: ظهر أوها في المقدم كثيفاً أيضاً مثل السحاب 
الأزرق المثقل بالمطر. 

والمعنى العام: أن هذه (الحربة: احیش) یری آخره ووسطه وأوله من كثرة عدده 
وهو ينزل من المرتفعات خلفه وفي السهل وهو يظهر من جديد في المرتفعات امامه (وهي 
كثبان الرمل القيزان). 
وصف فرسان الحيش(ا حربة): 

(فيها صقور السرح الكلهم خبران): السرح نوع من الشجر تجلس على قمته صقور 
خبيرة با تود اصطياده أي أن كل الفرسان خبراء بفنون اصطياد العدو. 
(فيها بكر ود حمدوك فارس الرحمن). أي: من حملة القرآن. 

(فيها أبو ركو قلبه حجر ملان). 

(فيها أبو عريضة تركة الديدان). أي: حفيد من لا يهابون الموت والدود هو الأسد 
والديدان هم الأسود. 


(فيها د ودعشاي تور جاموس عفنان). أي: لا يعاف أو يهاب الموت. 


مركز محمد عمر بشير 
فيها السمح الباطل الجفران. أي: النحيف غير المترهل واحفران ينفر منه العدو مثل 
الابل التي أصابها مرض (الحفار). 
(فيها كيران كيف الكلب جحان). من شدة شوقه للدماء والقتال. 
(فيها أبو دقل بي بندقه الرطان). أي: ببندقيته التي تطلق عدة طلقات (ولعلها أبو خمسة في 
ذلك الوقت) قبل أن تتوقف وشبهها (بالرطانة). 
(وفيها مكي آبو المليح كيف جبل ضلیان). في مهابته. ولیس جبل لبنان كما ورد في 


(بتلفت يمين وشمال يتفقد الفرسان). 








(كان واحد فيهم غاب يكون ندمان). 

ثم يعدد خشوم البيوت المشتركة في (الحربة): 

(فيها عيال دويش جرعة السم بقة القطران). وعيال دويش أحد خشوم البيوت في 
حمر العساكرة. والقطران معروف وهو مستخلص من تقطير حب البطيخ ويداوى به 
أمراض الإبل. 

(فيها عيال (طراد) شايلين دق الصحابة). ودق الصحابة سيوف يقال أنهم ورثوها 
عن الصحابة الذين ینتسبون إليهم وحاربوا بها الكفار على رؤوسهم تمييزاً لهم ودليل الشدة. 

(فيها (دقاقيم) قدر التراب نقط المطر صب العجامة). أي: مثل الطر الذي ينزل 
وفي تدافعهم للقتال مثل(الاعجمي) الذي يصب الماء لقلة خبرته. 

(فيها دار(غريس) وفيها دار(سلامة).) 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

(وفيها كروراً فوق كرور ماليهن قيامة). أي: أعداداً فوق أعداد كيوم القيامة من 
كثرة الإشارة إلى الحلفاء من غير حمر. 

ثم يصف نفسه ويعدد مواقفه وجبن خصمه: 

(الشيخ العزيز بايدا قاما). أي : قام بنفسه. 

(سل السيف وقبض امه). أي: قبض ام حصانه استعداداً للمعركة. 

(انت قبال دي جريت زي النعامة). يشير إلى المعركة مع قافلة حمر التي جاءت بحا 
عن (الملح) فاشتبكت مع مجموعة الكبابيش بقيادته. 

(خليت البهم بي عيالة ناما). أي: تركت وراءك البهم وهم صغار الغنم. كناية عن 
آولاده. نائمين مع آمهم. 

(خليت المستر بي أكامه). أي: تركت بیت(الشعر) المستور وفيه أمهم. 

(خليت في بطنه عروس زي ا حامة). زوجته. 

(وخليت الصفير يجري في برامه): الصفير هو الخمر الصفراء اللون(عسلیة) التي 
صفيت في البرام (أواني الفخار). 

(وخليت النحاس اليبكي زامه). أي: بصوت حزين زمه الام. 

(انت ها لت لك اوا دك ول حرا يديك ): 

(شن جابك للذيب.) أي: ماذا أتى بك للذئب. 

(كان أداك بايدا ولطمك رماك). أي: إذا ضربك بيده يرميك. 

(لا كدمك ولا عضاك). أي: لا يحتاج لأن يستخدم أسنانه ليعضك لضعفك. 

(إنت لا تقدر تلاطم الفيال). آي: لا تستطيع أن تقاتل الافیال. 





مركز محمد عمر بشير 


(الفيال لا تلاطمهن. إن قلت تلاطمهن تبقی من رمایمهن). آي من قتلاها. 





لم يأبه الشیخ سالم لنصح وتحذير الشیخ مكي ولا لنصح وتحذير والدته فساق 
فرسانه ومعهم والدته ودخلوا دار حمر. وعند اللقاء اتفق احانبان أن يعقل كل منه| جماله- 
أي يقيدها- وعند بدء الحرب ما النصر أو الموت. لا أحد يمكنه المرب لأن الال كلها 
معقولة والنساء من الجانبين في (خيام) في مؤخرة الجيشين. وقعت الهزيمة بقبيلة الكبابيش 
ونجا الشيخ سالم تاركاً وراءه والدته في خيمتها وزقاق الخمر التي أعدت للاحتفال بالنصر. 
وكعادة العرب الأحرار فقد أمر الشيخ مكي أبو المليح بألا يقرب أحد من رجاله (أعراض 
الشيخ سالم) وأن تساق الوالدة الكريمة في هودج يليق بمكانتها ومعها هدايا من إماء وعبيد 
وإبل ويحرسها فارس من (النواجات- أحد فروع الطرادات ويمت بقرابة إلى إبراهيم حامد 
مصطفى) ومعه فوارس من القبيلة إلى أن تصل إلى مقر ابنها. لم تنس الملكة الكريمة ظروف 
الحرب ولا هذا الموقف فسجلت كل ذلك في قصيدة أصبحت النارة لزعماء قبيلتها في التعامل 
مع حمر. قالت مخاطبة ابنها (وحتى يتابع القارئ من غير أهل البادية الحديث أورد الشرح فيا 
يلي للمفردات ثم آتناول القصيدة): ريسوا- سلموه الرئاسة عوارة- الجرح الذي لا يبرا 
مهما عولج» شق الریح- مجرى الماء والريح شال أي منطقة دار الكبابيش وهي شال دار 
حمر(الصعيد- الجنوب أي دار حمر)- (كنجارة) إحدى قبائل الفور غير العربية» كتالا- قتاله. 


من يوم ريسوا باقي لنا عوارة 
شت الريح أباه قال الصعيد دارا 


5 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

قلنا لكم يمين قلتولنا لي يسارة 

سامعين صوت نحاس قلتولنا نقارة 

قلنالكم عرب قلتولنا كنجارة 

قلنا لكم حمر قلتولنا بقارة 

دا مكي أبو المليح ما بتقدروا كتالا 

(وبا أن كل الروايات شفاهية رغم توثيقها الا أن الأمير عبد القادر منعم منصور 
يشكك في أن تقول القصيدة الام في ابنها ويعتقد ربا عن مصدر - بأن القائلة زوجته لا أمه). 

وفعلا لم يستطيعوا قتاله. المؤسف في الهزيمة بجانب (أسر) أم الشيخ والاستيلاء على 
رمز النظارة وهو (النحاس) الذي يضرب في مناسبات الفرح- والأعياد- والاستنفار- 
واستقبال ووداع كبار ضيوف القبيلة. أخفى حمر نحاس الكبابيش في المرة الاول في إحدى 
(مغارات) الجبال المتناثرة في شمال دار مر وبمرور الزمن لا يعرف له الآن مكان كا لا يعرف 
الذين أخفوه والذين لا شك صاروا في ذمة الله ولكنهم أعادوه هذه المرة مع الوالدة الكريمة. 
تناسى الجميع من الطرفين الحادث غير أن الأخ الصديق الضابط السابق (معتصم قرشي) 
وهو من قبيلة الكبابيش لا يزال يذكر الأمر كمدخل لحديث الأخوة الضاحك بيني وبينه كلما 
التقينا. يا أخي كلم أهلك يدونا نحاسنا. أسهبت في الحديث عن علاقات وخلافات ومعارك 
قبيلة حمر مع عدد من القبائل- الصديقة كلها اليوم وذلك لسبيين: الأول هو أن يقرأ أبناء دار 
حمر: عسكر ودقوم وغريسية وفروة نمر كيف حاز أجدادهم على هذه الدار وكم بذلوا في 
ذلك من نفس ونفيس وليس أعز من هذين شيء ينفق. لا أقصد تجريحاً أو إساءة لقبيلة إذ إن 


ما ذكرت قد نشر قبل أكثر من سبعين عاماً في موسوعة السودان في رسائل ومدونات 





مركز محمد عمر بشير 
وتجاوزه الجميع. والسبب الثاني هو أن من يقرأ ببصيرة خطاب الشيخ مكي أبو المليح يجد فيه 
(وحدة) دار حمر: كلها. لم يتميز فيه إلا القائد بحكم منصبه بحكم أنه يمثل الجميع. أسوق 
هذا عظة لبعض أبناء دار مر خاصة من غير فروة النمر الذين يسعون اليوم وأحياناً يتزلفون 
للحصول على منصب ليس فيه من (سلطة) سوى امتطاء عربة (لاندكروزر) على حساب 
(اقتطاع) جزء من الدار (غبيش والاضية) أو (أبوزيد) أو (أبوزبد واخوي) وهو يعلم أن من 
يتزلف إليه (يمتطي صهوته) هو قبل اللاندكروزر لتنفيذ (أجندة) ليس لأهله أو للدار فيها 
خير- بل تمزيق لها وتمزيق لوحدة بنتها وجمعت حوضا كل السودان: غرباً وشیالا وجنوباً 
وشرقاً ووسطا. وليس من وراء ذلك مقابل سوى (التسلط) على رقاب الخلق. 
العلاقة مع قبيلة الكبابيش: من العداء- إلى التعاون- إلى الوفاق: 

هدأت الخواطر ک| يقولون واستجاب الجميع إلى صوت العقل وبدأت الزعامات 
تفكر في التعاون لمصلحة قبائلها في مواسم الأمطار والزارعة وني أوقات (الدرت- حصاد 
الزروعات) وفي تنظيم علاقات القبيلتين في كل منها. كذلك رأى زعيم الكبابيش الجديد أن 
يبحث عن تحالف دائم مع زعيم لقبيلة حمر يتفهم معه العهد الجديد بينهما. 

وبمرور الزمن اتفق الكبابيش وحمر على (مسارات- أي طرق) يتبعها الكبابيش 
عندما يتجهون جنوباً أثناء فصل الأمطار للرعي والماء وذلك لكي يحتفظوا كاحتياطي 
بمراعي ومياه دارهم عند العودة شمالاً بعد موسم الخريف. هذه المسارات تراعيها القيادات 
من القبيلتين وأي تجاوز يتم حله سنوياً في مؤتمرات بين القبيلتين يحضرها مثلون للحكومة إذا 
دعا الحال. ومن بين الالتزامات على الكبابيش عدم شراء(الدخن أو الماريق الذرة) أثناء 


الخريف من دار حمر حيث يكون الزارعون في حاجة ماسة إلى (النقود) المتوفرة عند الطرف 











المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
الآخر وقد يتسبب شراء الحبوب الغذائية في ندرة تقود إلى (مجاعة- أو فجوة غذائية بلغة 
حكومات اليوم) إلى أن يجين موعد الحصاد. والتزام آخر على الكبابيش هو عدم (اصطحاب) 
أية إمرأة معهم إلى خارج (الدار) كا على الكبابيش عدم إجبار أي مواطن أو مواطنة آثر 
(الحرية) على العودة معهم. وقصة (الحرية) هي أنه أواخر أربعينات القرن العشرين كانت 
حكومة الحكم الثنائي تحارب- التزاماً منها مع المجتمع الدولي- تجارة الرقيق أو الاحتفاظ 
بأي عنصر من عناصر (الرقيق) لا يرغب في البقاء مع من يكفله. وقد كانت الحكومة تحتفظ 
في المحاكم الأهلية التي تقع في (المسارات) بورقة تسمى ورقة (الحرية) وتصدر بختم رئيس 
المحكمة الأهلية وشاهدين بأن (فلان الفلاني) الذي كان من (رقيق) فلان الفلاني قد أصبح 
(حراً- أو حرة) بموجب طلبه وإصدار هذه الوثيقة له. كانت حملة الوثائق- إلا ما ندر- 
تبقى في دار حمر قريبة من المحكمة التي أصدرتها إلى أن يمر عام أو أكثر يشعر بعده الشخص 
بالأمان فينخرط في المجتمع لكن حاملاً معه (ورقة الحرية) على الدوام. 
دور السير الشيخ علي التوم في ترشيح منعم منصور ناظراً لعموم حمر: 

حفظ السير علي التوم أهمية العلاقة مع (حمر) وصونها لكرامة الأسرة فقام بلفت 
نظر الحاكم البريطاني السير مافي- ومدير المخابرات المستر دیفز- إلى أن خلافات دبت في 
قبيلة حمر على النظارات والرتاسة. وأنه من الأفضل أن تعمل الحكومة على توحيد القيادة فيها 
إلى (ناظر عموم) كا كان العهد في الماضي أي قبل الهدية حتى يمكن التعامل مع زعيم واحد 
بدلا من عدة نظار لقبيلة واحدة. استحسن الحاكم العام الرأي وطلب إلى مدير المخابرات أن 
يتحرى الرأي في ترشيح السير علي التوم أحد أبناء بيت النظارة وهو- منعم منصور- الذي 
كان والده ناظر العموم قبيل الفتح وتوفى في حرب مع قبيلة (الرزيقات) حضر المستر ديفز إلى 


مركز محمد عمر بشير 








قرية (أبو جفالة) غرب مدينة (آبوزبد) ليلا ووجد منعم منصور جالساً على (برش) الصلاة 
وأمامه(قدح- إناء من خشب الأبنوس) به طعام للضيف الذي يأتي بعد انفضا ض(الضرا- 
مكان تجمع سكان القرية ليلاً لتناول العشاء سوياً) وبعد الاستقبال والماء والشاي والعشاء 
المتواضع والسؤال واخواب اجتاز المرشح المعاينة وعاد المستر ديفز ليتم تعيين منعم منصور 
ناظراً لعموم قبيلة حمر في ۲۳ يوليو ۱۹۲۸م وتبع ذلك الإنعام بها كان يعرف باسم (كسوة 
شرف) من الحاكم العام وخطاب تهنئة من جلالة الملك فؤاد الأول العظم ملك مصر. وآخر 
من الأمير عمر طوسون وهو أمير مصري كان مهتأ بشئون السودان. يقال أن السير علي 
التوم توخى في اختياره عدة عوامل أهمها أن المرشح من بيت النظارة وبالتالي لا يرفضه أحد- 
وثانيها أنه يسكن في منطقة (أبوزبد- قرية أبو جفالة) أقصى الجنوب بعيداً عن منطقة النزاع 
(الساخنة) مع قبيلة الكبابيش في الشمال- وثالثها أنه متدين ولا يشرب الخمر. كانت قبيلة 
حمر قبل وخلال الحكم الثنائي وإلى وقت قريب حتى أواسط القرن العشرين مشهورة بتعاطي 
الخمور البلدية (بقنية- مريسة- أم شوشو- آم بلبل- عسلية وغيرها من السمیات) ليس 
فقط في مناسبات الأفراح (ولادة- ختان وزواج) وإنا في الناسبات الاجت‌اعية مثل (نفير) 
لبناء منزل أو لحف ر(رهد للمياه) أو للزراعة أو الحصاد أو العودة من (فزع- عملية البحث 
الجماعي عن مسروقات الأنعام أو خلافها) وسواء وجدت أو لم توجد مناسبة يحتفلون 
ابتهاجاً بالليالي المقمرة. ولعل البهجة والنشوة تقود في كثير من الأحيان إلى المشاجرات 
والاعتداءات بسبب الإحساس غير العادي بالشجاعة والتحدي. ويحضرني في هذا المجال 
تعليق من أحد رجالات المسيرية أنه زار قرية في دار حمر يوم عيد» وجد أمامهم زقاق المريسة: 


فكل رجل يأتي بعدله- او بلغة اليوم بالديلفري 126110657 الخاصة به. عرضوا عليه كأس 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
الضيافة فرفض قائلا أنه(أنصاري والمهدي وخليفته منعوا الخمر) ولا انتصف النهار ول يأت 
طعام توكل وتناول كأسا - وثانياً وني الثالث تملكه الحماس والشجاعة (الرجالة) فوقف أمام 
الجمع ممسكاً بحربته قائلاً: أتاريكو يا حمر زمنكو دا كلو تشربوا في (الرجالة - الخمر) 
وخليتونا مع اللبن (والروابة- اللبن الرایب) قسم بربي لو كان أنصار الهدي لقوا شرابكو 
دا يوم كرري كان طردوا (الترك - لدار الريف أي أعادوهم إلى مصر وكان المهدية لي يومها 
حاكا). ک| تحضرني أيضاً واقعة طريفة بين ناظر (مدير) مدرسة صغرى أي ذات فصلين فقط 
في إحدى القرى وبين مفتش تعليم جاء من عاصمة المديرية وقتها- الأبيض- لفت نظر 
الإداري الزاثر أن التلاميذ يستأذنون في الحصة الثالثة- بعد وجبة الافطار- في الخروج للتبول 
ثم العودة لمواصلة الدرس. وخشى سيادته أن يكون في المنطقة (مرض) أصاب معظم 
التلاميذ فاستفسر (الناظر) الذي أفاد بكل براءة وعفوية أن الأولاد (بعد الفطور) لا بد هم 
من التبول لأن فطورهم (بغو تخين) و(البغو) نوع من المشروبات البلدية ذات التركيز الخفيف 
رغم كثافة المحتويات إلا أنه لا يترك ليتخمر. ويسمى في مناطق أخرى (قدوقدو- وتنسب 
التسمية إلى الفلاتة النازحين من نيجيريا باعتبارهم رجال دين لا يحتسون مشروباً شديد 
التركيز) تساءل الاداري أيضاً ببراءة وعفوية ولكن لاذا فطورهم (بغو تخين- اي كثيف 
المحتويات من الدقيق والبهارات مثل القرفة) شرح له الناظر أن الوزارة ترسل هم كشفاً 
بمحتويات وجبات الإفطار والغداء والعشاء في الداخلية. معظم محتويات الكشف ليست 
فقط غير موجودة بل غير معروفة للسكان المحليين مثل الفول والعدس والبطاطس.لذلك 
اتفق مع(متعهد توريد غذاءات الداخلية) أن يكثر من (دقيق الدخن) واللبن الرايب ويشتري 
بمبالغ الغذاءات الأخرى( حم في يومي السوق) ويتعشى التلاميذ بالعصيدة باللبن الرايب. 








مركز محمد عمر بشير 
وتحفظ(العصيدة) الفائضة عن الاستهلاك لصباح اليوم التالي والأيام التالية لكي تستخرج 
منها(قدوقدو- أو بغو تخين) أما في وجبات الغداء وعلى مدى أربعة أيام في الأسبوع يأكل 
التلاميذ (لى) طازجا) مشوياً أو مسلوقاً مع بصل وزيت - وثلاثة أيام (لحم شبه طازج في 
شكل شرموط) بالطبع ۸ يقتنع الاداري الوافد من الأبيض ولا وصل(مدينة النهود) كان 
بمعيته ناظر المدرسة الذي أمر بإيقافه عن العمل وتشكيل مجلس تأديب- محاسبة- والذي 
أصدر قراراً ببراءته بمجرد مغادرة مفتش التعليم وعاد الناظر لمدرسته وأتمنى أن يكون أحد 
تلاميذه يقرأ الآن في هذه (الذكريات- المذكرات) ويستعيد أيام أن كان يتبول في الحصة الثالثة 
ویمضغ اللحم طازجاً شهياً في الغداء. تعرضت في هذه الذكريات- المذكرات منذ بدايتها إلى 
(الخمر) وجلساتها حتى في أوساط طلاب المراحل الوسطی أو الثانوي العالي أو الجامعة- أو 
في أوساط المواطنين على اختلاف مكانتهم وإلى أن (ألغيت) بقانون أصدره الرئيس نميري. 
ونسبة لأهمية (الخمر) في الحياة عموماً وفي الحياة السودانية - منافع وآثام- فسوف آفرد لها 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
...ناظر العموم ووكلاء الأقسام: 

بدأت النظارة بالبراءة التي أصدرها السير (ماني) في عام ۱۹۲۸م واستمرت حتى 
قرار ثورة مايو بتصفية الإدارة الاهلية عام ١91١م‏ كانت خلاها القبيلة موحدة تحت ناظر 
عموم ومعه نظار أقسام: جنوباً وغرباً وعاصمتها الأضية على رأسها مد ثم حامد على فتين- 
وشرقاً وعلى رأسها إبراهيم ناصر وشمالاً عبد الرحمن الكرسني.عبدالر من الكرسني أمه من 
بيت الحكم في العساكرة. يروى أن أهله كانوا سائرين من بلاد الشايقية في طريقهم إلى 
دارفور» وأثناء فترة راحتهم أثناء السفر اكتشفت حمر آنهم أسرة من (الفقراء) رجال الدين. 
كانت حمر أكثر حاجة إلى (الفقراء) من دارفور التي كانت لا تزال حتى وقت قريب- ورب 
حتى الآن دار القرآن والتي يقوم سلاطينها بتسيير (المحمل) به كسوة الكعبة وزكاة أهل دار 
الحجاز ومكة المكرمة. يبدو أن أسرة الكرسني كانت تسعى للمزيد من تعلم القرآن والتفقه 
في الدين بين كانت حمر في حاجة إلى الحد الأدنى بسبب ترحاهم المستمر وكثرة الحروب. 
اقنعوا (الكراسنة) بأن يقيموا معهم فترة وتزویج كبيرهم أحمد الكرسني فإذا طاب شم المقام 
مرحباً- وإذا آرادوا الترحال مرحبا. تقول رواية أخرى عن ال حاج محمد عبيد الله مكين عم 
الشيخ منعم منصور ورئيس محكمة غبيش أن زعيم حمر الحاج منعم كان في (الحج) وسمع في 
الحرم المدني الكراسنة وهم يتلون القرآن وأعجب بالتلاوة وطلب من شيخهم أن ينتدب 
أحداً منهم لدار حمر ليعلم أهله القرآن وأصول التلاوة وافقه على انتداب ابنه (أحمد) واشترط 


عليه أن يزوجه إحدى بناته: شقيقة مكي ومكين واساعیل. ولد لأحمد فضل الله- وتزوج 





مركز محمد عمر بشير 





فضل الله بنت خاله مكين-وولدت له محمد أحمد- ومحمد أحمد هو والد عبد الرحمن 
الكرسني الشهير أقاموا وامتزجوا بأهل الدار وتوالدوا. عبدالرمن الكرسني تزوج بدوره 
بنت(إبراهيم المدير- جدية) أحد أعمدة العساكرة الذي يقيم في (ود بندة) على طريق 
النهود- أم كدادة- الفاشر. عندما اشتد عوده كان فارسا ومحدثاً ولبقاً وزعيماً ارتضاه الحمر 
في منطقة ماس مع قبائل (دار الريح) وكان زينة كل مجلس قبلي وجمع بين حاسن (فروة النمر) 


من جهة والده ومحاسن (العساكرة) من جهة والدته وجدته. 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 





الناظر منعم منصور محمد الشيخ ناظر عمود دار حمر يرتدي (كسوة الشرف) التي 
أنعم عليه بها الملك فؤاد الاول ملك مصر عام 471١م‏ عند تعيينه في منصب النظارة تاريخ 


الصورة ديسمبر ۸٤۱۹م‏ عندما كان عضواً في الجمعية التشريعية /915١-١95١م.‏ 





مرکز محمد عمر بسير 
.... وعمدة في مدینه النهود: 





من قبيلة (الشايقية) يراس محكمة (البندر) هو أحمد مصطفى أبو رنات- الاخ 
الأصغر لرئيس القضاء العلامة محمد أحمد أبو رنات: أول رئيس قضاء سوداني بعد 
الاستقلال. وساعد (العمدة) في محكمة البندر بعد فترة الشيخ محمد أحمد دود المعاليا. قصة 
اختياره عمدة من غير قبيلة حمر في عاصمتها (مدينة النهود) تعود إلى أمرين الأول هو البدا 
الذي أقره مؤسس القبيلة الشيخ مكي آبو المليح أن (حمر فروة نمر) أي أن في أي بقعة ومنطقة 
منها قبائل (الأغراب) متى ارتضوا الوجود في (الدار) وأهلها والعرف الذي يسود فيها 
فهم(جر) خاصة من تصاهر مع القبيلة وبهذا لم يكن في اختيار(شايقي) للمحكمة ما يثير 
غبار ذلك أن أي مجموعة من قبائل اختاروا موقعاً في أرض (الدار) تم تعيين زعيمهم أو 
كبيرهم (شرتاي) عليهم وصدر قرار بأن تكون لديهم (محكمة) يرأسها إما الشرتاي أو أي 
واحد منهم. والد رئيس القضاء وعمدة النهود كان من أكبر المتعاملين في سوق النهود الذي 
اشتهر وازدهر بالواشی والصمغ العربي والفول السوداني وحب البطيخ ونحوها. وكل هذه 
النعم والأنعام يأتي بها زراع ورعاة من حول النهود- أي حمر بالمعنى الواسع- كا أن 
المتعاملين في السوق من وكلاء الشركات والسیاسرة وصغار التجار كانوا من أهل البندر 
وتغلب عليهم قبيلة الشايقية إذ إن التجار الجعليين والشوام- سوريين ولبنانيين- ويونانيين 
يجلسون في حوانيتهم أغلب الوقت. وكثيراً ما كانت تحدث مناوشات ومغالطات بين 
المتعاملين في السوق والوافدين إليه ما استدعى اختيار شخص له شخصية تتسم بالأمانة 
والقوة واحترام الجميع له ليفصل فيا بينهم. لم يكن هناك منافس للشيخ أبو رنات فتم تعيينه 
(عمدة) تحال إليه كل قضايا السوق والبندر. الطريف أن حفيده ميرغني- ابن العمدة أحمد 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
الصطفی ابو رنات الذي شمله قرار تصفية الإدارة الأهلية تقدم بطلب إلى رئيس القضاء- 
صادف أن كان الشايقى خلف الله الرشيد- يطلب تعيينه (عمدة) النهود في کرسی والده بعد 
أن وافق الرئيس جعفر محمد نميري عام ۱۹۸۳ على تفويض حكام الأقاليم لاعادة الإدارة 
الأهلية متى رأى أي منهم ذلك. كان الطلب يحمل(تزكية) من الناظر منصور منعم ناظر 
عموم حمر الذي خلف والده في المنصب. تردد خلف الله الرشيد باتخاذ قرار بتعيين شايقي 
عمدة في دار حمر وفي النهود فاتصل بي متسائلاً إذا كان هذا التعيين سيخلق (إشكالاً) رغم 
توصية الناظر فأكدت له أن العكس صحيح ذلك أن حمر تراضوا مع كل (فروة النمر) وعلى 
رأسهم ساكني الدينة ولم يحدث- حسب علمي- خلاف بين الريف والبندر على الإطلاق. 
فكان أن أصدر سيادته القرار. 


.... الدار الأرض: 


اشتراها الحاج منعم آبو المليح من السلطان حسین بن السلطان تيراب ووافقت على 
الحجة السلطة العثانية في الاستانة تركياء أرض واسعة وتکاد تکون بحجم ولاية غرب 
كردفان الحالية (۲۰۱۱م) وتعداد حمر بضعة آلاف ينتشرون وفقاً لظروف كل مجموعة وما 
تملك من (سعية) لم يسطر (سعر) للدار ولكن وفقاً للروايات التواترة فقد دفع فيها ألف أمرد 
بسلاحه (شاب ل ينبت شعر شنبه)- ألف أوقية ذهب-ألف أوقية فضة- ألف رطل ريش 
نعام- وسواء كان الثمن مبالغاً فيه رواية أو كثيراً حقيقة فان (الدار) بحجمها الذي شملته 
تستحق ما ذكر وأكثر. كان المطر دافقاً والكلاً وافراً وما قصرت عنه الوديان والحفائر 


(الرهود) أكملته آشجار (التبلدي) وهی أحدى مميزات دار حمر فتجد في كل قرية عدداً منها 








مركز محمد عمر بشير 
يفي بحاجات السكان ك| أنك تجد أحياناً وفي مناطق غير مأهولة (غابة من أشجار التبلدي 
تسمى (الظعن) ولذلك وحتى لا تتغول القبائل على (الدار) فتح الشيخ مكي أبوابها لمن يريد 
الواطنة فاراد بذلك أن (يحتوي) الأغراب بدلا من أن (يغزوه) : يعطيهم الأرض لن يريد 
الزراعة والمرعى لمن يملك البهائم ويوفر لهم الأمن والسلم عن طريق (شرتاي) لكل قبيلة 
و(محكمة) تبسط العدل. 

الحدود: من ريح وغرب دارفور عند جبل طوطاح ريح أم بادر وشرق المندرة وجبل 
أبو فاس إلى حدود (الكرقل) وشرق إلى جبل فرشاحة وأبو حراز (بديرية) والسنجكاية 
(حوازمة) وجنوباً التبون (مسيرية) وتعود الوثيقة لتتحدث عن حدود دار حامد وجبل 
الشفرة وأم سدرة وأم صميمة والعيارة على مشارف الأبيض وجبل آبو سنون وکانت كلها 
تحت نفوذ سلاطین دارفور كما آورد الرحالة بيرك هارت عام 4 ۰۱۸۱ 

آثناء حکم الهدية (۱۸۹۸-۱۸۸۱) اختلفت قیادات دار حمر آنذاك في تأییدها أو 
الانضام تحت رايتها. عبدالرحيم حيم ای ال ی 
قائدها حمدان أبو عنجة في جبهة الحبشة. إبرا هيم المليح ناظر العساكرة أيدها ثم وقف ضد 
المجرة إلى أم درمان فاعتقل في (بارا) عام ۱۸۸۷م وظل في السجن بأم درمان بعد ذلك إلى 
نهاية دولة المهدية ورفض وساطة من بعض زعماء القبيلة لتطلب (الاسترحام) له من خليفة 
المهدي. كذلك عارض حمد فتين ناظر الدقاقيم المهدية وسجن في أم درمان وأفرج عنه قبل 
نبایتها. في هذه الأثناء افتقدت القبيلة كبار قياداتها فاجتمع (الخمسات وهم فصائل من 
العساكرة: الخريسات - الجخيسات- الميامين- المنانعة - المناضير) واختاروا منصور محمد 


الشيخ ابن الثلائین عاماً ناظراً للقبيلة في عام ۱۸۹۷م مع قرب نهاية المهدية. وقد مات 


۱۰ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
منصور محمد الشيخ بعد عام واحد ۱۸۹۸م وهو يعترض مع نفر قليل من قبيلته مجموعة من 
قبيلة الرزيقات عائدة من أم درمان وافترش (الفروة) واستقبل (القبلة) ومات دون أن 
يستسلم للأسر وأصبح لقبه (الفرّشُ) مات معه مفترشاً (الفروة) التي يصلي عليها ثلاثون 
رجلا منهم من (فروة النمر- أي من غير حمر القبیلة) رجل من قبيلة (الكنوز) أقصى شمال 
السودان هو (خير ود حسن المشهور بلقب طلمبة) وهو جد بشير محمد خير رجل الأعمال- 
الاتحادي- وأحد الثلاثة الذين اصدروا صحيفة (أكتوبر) بعد ثورة ۲۱ أكتوبر وهم (صالح 
محمود إساعيل- أحمد الطيب بابکر- وبشير محمد خير).أرض المعركة كانت في منطقة 
(القناطير) غرب مدينة أبوزبد. ولد منعم منصور بعد وفاة والده في عام ۱۸۹۸م. 

.... منعم منصور قبل النظارة: 





نشأ بداية في منطقة (خماس) مع أعمامه ثم انتقل إلى أبو جفالة (غرب مدينة أبو زبد) 
في كنف أخواله. وبينا هو يواظب على حفظ القرآن وتلقي دروس الدين على يد (الشريف 
حسين) صاحب الضريح الشهور الآن في مدينة (آبوزید) كان أعمامه وأبناؤهم يعيشون 
الخلافات المعهودة في أروقة بيت الحكم في النهود ما بين حاكم اليوم ومعزول غداً. وعندما 
تجاوز الخامسة والعشرين تقدم بطلب إلى (شرتاي) منطقة أبو زبد الشيخ أحمد عديل ليعينه 
(شيخ حلة) قرية (أبو جفالة) وباستشارة الناظر إسماعيل محمد الشيخ (قراض القش) رفض 
الطلب. وبنصيحة من(الشريف حسين) ذهب منعم منصور إلى النهود مستأنفاً لدی مفتش 
المركز البريطاني وأقام عند وصوله النهود في منزل (عبدال رحمن الشیخ) التاجر من قبيلة 
(البرياب) وليس في منزل عمه (قراض القش) تعجب مفتش المركز من الاسم إذ كانت 
المعلومات التي لديه أن (منصور محمد الشيخ) مات ول يخلف ذرية: ولداً ولا بنتا. عبدالرحمن 


۱۰۳ 


مركز محمد عمر بشير 
الشيخ (والد سعد عبدالرهن الشيخ المشهور باسم سعد البريابي) أكد له أن الشخص الذي 
أمامه هو ابن منصور وطلب شهادة بعض تجار النهود وأحد رجالات حمر من منطقة 
(أبوزبد) تصادف وجوده في النهود. أصدر المفتش تعلیاته إلى كل من الناظر إسماعيل محمد 
الشيخ والشرتاي أحمد عديل بالموافقة على أن يكون منعم منصور ابن الشيخ منصور محمد 
الشيخ شيخاً على القرية ثم أرسل ابر عاجلاً إلى مدير المديرية في الأبيض ومنها إلى 
السكرتير الإداري وسراي الحاكم العام بالخرطوم. وهكذا عندما تقدم الشيخ السير علي 


التوم بترشيحه للنظارة كانت مهمة مدير الاستخبارات المستر ديفز هي ليس التأكد من أحقية 








منعم منصور فهو ابن ناظر عموم بل من أهليته للمنصب إذا قررت الإدارة ضرورة توحيد 
نظارات حمر الثلاثة (العساكرة والدقاقيم والغريسية) تحت (ناظر عموم) واحد كما كان 
الحال قبل المهدية إذ إن تقسيم السلطة بين النظارات الثلاثة قد أضر بوحدة القبيلة وبحسن 
إدارتها وحفظ الأمن وتحصيل (العشور والضريبة) . في ذلك الوقت توفی ناظر الغريسية 
القوي عبد الرحيم سالم أبو دقل )١977(‏ والذي تعترف له الحكومة شخصياً ببعض الفضل 
بعد معركة كرري- كا أن ناظر الدقاقيم محمد أبو جلوف أرغمه تقدم السن بالتنازل عن 
النظارة لابنه الطيب وكان ناظر العساكرة إسماعيل محمد الشيخ (قراض القش) في مناکفات 
مستمرة مع مفتش المركز الذي أوصى في أكثر من تقرير بضرورة توحيد القيادة لقبيلة حمر 
تحت ناظر عموم يكون- کا هو الحال منذ دخلت القبيلة السودان- من (العساكرة - 
الطرادات). عزل إسماعيل (قراض القش) من المنصب وق به ابنه (أحمد) وصار الطريق 
مهدا لتعیین (منعم منصور) وقد كان ذلك کا سبق في ۲۳ یولیو ۱۹۲۸م ويلاحظ أن منعم 
منصور ظل فترة في شياخة قريته (أبوجفالة) إلى جانب النظارة ول يلتفت بسوء إلى 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
(الشرتاي) الذي حرمه الشياخة وظل يعامله باحترام وتقدير ويناديه(يبه- أي الوالد) أحمد 
عديل أو العم أحمد عديل وم يعزله من منصبه حتى بعد أن بلغ عمراً متقدماً حمله على 
التنازل- طواعية- لابنه حسن أحمد عديل. وظل احترام (منعم منصور) للشرتاي حسن 
ومن بعده لعميد الأسرة (الشيخ عبدال رحمن أحمد عديل) وأوصانا بذلك. أما أسرة عمه 
إسماعيل (قراض القش) فقد رعاها فتزوج ابنته (أم النصر) وولدت له بنين وبنات ذکرتهم في 
صدر الذكريات- المذكرات. كا قام بتعيين ابن بنته الكبرى (أم كثلوم) إبراهيم منعم 
(ضامناً) لكل قبيلة حمر بالنهود جى له جعل من المال عن كل رأس من الأنعام يباع في أسواق 
القبيلة نظير أن (يغرم) قيمة أي رأس يتضح أنه مسروق وهو نوع من (التأمين) ظل سارياً إلى 
أن ألغته- دون سبب سوى الجهل ثورة أكتوبر ۱۹٩٤‏ م. 

ولعل من حضروا (قراض القش) في حياته يذكرون قولته التي تخيف الأصدقاء 
والأعداء (أنا أبو أم كلثوم) وعند ذكر ما سبق (في الحلم والعفو) لابد أن نذكر (الوفاء الذي 
حمله منعم منصور (للشيخ عبدالرهن الشيخ البريابي) ولابنه (سعد البريابي) إذ ظل 
العديدون يتعجبون من قربه من (الشرتاي) بخاري علي الحاج التور زعيم البرياب ومن سعد 
البريابي ويعزون ذلك أن الشرتاي بخاري ابن عمة (منعم منصور) إذ إن أمه (روزة- بنت 
محمد الشيخ أخت منصور محمد الشيخ) وفي نفس الوقت عديله في(أم فرسان) بنت إسماعيل 
(قراض القش) ووالدة كل من أحمد منصور واساعیل (حدبة) ولكن العلاقة الأسمى كانت 
هي الوفاء للشيخ عبدالرحمن (الذي تحدى سطوة) إسماعيل (قراض القش)- وأبودقل- 
وأبو جلوف وأدخل (منعم منصور) إلى مفتش المركز وجاء بالشهود العدول ليؤكدوا 
للمفتش أن (منصور محمد الشيخ) خلف ولداً هو الشاب الذي أمامه على عكس ما أدعاه 





مرکز محمد عمر بسير 





زعماء القبيلة من أن منصور مات دون خلف. الأمر الذي قلب كل موازيين عملاء الخابرات 
والزعامات في المركز ما يقارب ربع قرن. ظللت- وبعض إخوتي من يعرفون العلاقة- في ود 
ولابد من ذكر أن الشرتاي بخاري علي طيلة سنين حكمه ۸ يتآمر منفرداً ولا مع 
الآخرين من الذين اتصلوا به مرارا على شيخ منعم. ولم تصل إلى شيخ منعم منه وشاية أو 
کلمة سوء. 
الأطماع في أجزاء من دار حمر ۱ 


وبعد آکثر من قرن ونيف لم تسلم دار حمر من أطماع بعض القبائل ولکن هذه الرة في 
(الصعید) إذ ظلت قبيلة (الحوازمة) تناوش من وقت لآخر للاستیلاء على مورد الیاه في 
(آبوزبد والعروف باسم التردة) باعتبار أن آعداد الانعام لدی حمر لا تجعلهم يحتاجون إلى 
آبوزبد. کم| أن حمر في آبوزبد کانوا- ولا یزالون- آقلية بالنسبة للأغراب ناسین أن (حمر فروة 
نمر) وفي عام ۱۹۲۸م دارت معركة جعلت هزيمة (الحوازمة) فیها تجليهم إلى الابد في 
(رشاد) یصلون إلى الحلف الذي سبق بیانه في أن حد جر الأرض وحد النوبة الجبل. كذلك 
آغرت مياه (أبوزبد) ولا تزال قبيلة السيرية التي كانت تزحف بتخطیط ذكي لتحتل المنطقة 
ولکن الشیخ إبراهيم ناصر - ناظر قسم آبوزبد وناظر حمر العساکرة- ذکرهم بأن حدودهم 
مع مر حدود (انتفاع) وتقع جنوب آبوزبد عند (وادي الغنام) وهو وادي تجري فيه المياه 
وقتها لبضعة شهور وعندما يجف یمکنهم أن حضروا فیا یعرف بالدمارة- أي السکان 


الوقتون خلال فترة الجفاف على أن یعودوا لدیارهم بعد زوال الأسباب» وبشرط أن تبقی 


۱۰۹ 





السيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
أبقارهم عند حدود (الانتفاع) ويحضرونبها مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع لتستقى ثم 
تعود. أخلت (المسيرية) بالشرط وأحضر بعضهم أبقارهم للرعي حول (التردة) كما أن 
آخرين ظلوا في (خيامهم- الدكة) بعد زوال الأسباب. قام الشيخ إبراهيم ناصر بإنذارهم 
بمغادرة المكان وأمهلهم أسبوعاً سوف يقوم بعده بحرق (الدكة) بمن فيها وما فيها كما أنه 
سوف لا يكون مسئولاً عما يجري للأبقار التي حوها. لم يأبه المسيرية العسکرون حول 
(التردة) بالإنذار والذي نفذه الشيخ إبراهيم ناصر صباح يوم الجمعة في عام ۱۹6۲ 





فاحترق من احترق ونجا من فر وبسرعة حضر مفتش الرئاسة بالديرية مكاوي سلیان أكرت 
من الأبيض والناظر منعم من النهود وتم احتواء الوقف وأرسلت المديرية إلى مفتش مركز 
غرب كردفان النهود- والذي يتبعه حمر والمسيرية بخطاب شديد لكي تراعي القبائل احترام 
الحدود والاتفاقيات. في عام ۱۸۹۸ وفي عهد حكومة الصادق الهدي جرت محاولة لضم 
(آبوزبد) إلى المسيرية وكادت تقع معركة إذ تأهب هذه المرة (الشرتاي) حسن أحمد عديل في 
غياب الشيخ إبراهيم ناصر لو لا أن قامت ثورة الإنقاذ الوطني في ۳۰ يوليو ۱۹۸۹ فكانت 
إنقاذاً لأبوزبد. ولكن هل توقفت الأطیاع؟ جاء إلى منصب السكرتير الصحفي للرئيس عمر 
حسن أحمد البشير الأستاذ يوسف سعيد الذي شغل والده منصب محاسب/ صراف في مدينة 
آبوزید ممثلا لقبيلة المسيرية لجمع ضريبة (القطعان عند ورودهم إلى (تردة) آبوزبد ثم 
استجاب مجلس ريفي دار حمر في النهود لطلب المسيرية بأن يشغل الوظيفة (مساعد إداري) 
حتى تكون له سلطة في جمع الضريبة فأصبح کمن له وجود رسمي في أبوزبد يخيل إلى من لا 
يعرفه أن المدينة ستصبح إن لم تكن قد أصبحت بالفعل تابعة لقبيلة المسيرية. شجع ذلك 
الوضع السكرتير الصحفي للرئيس بأن يشجع بدوره قيادات في المسيرية وأن يتابع هو من 


مركز محمد عمر بشير 
الخرطوم قيام رئيس الجمهورية بزيارة غرب كردفان وأن يبدأ زيارته من أبوزيد حيث يعلن 
تبعيتها إلى (الفولة) حاضرة المسيرية. وصلنا الخبر في الخرطوم ورأينا أن نتحرك بطريقة 
(قانونية) اتصلنا بديوان الحكم الاتحادي الذي تتبعه الولايات وأفادنا المسئول عنه السيد أحمد 








شيخ ادرب يس مناع أن لدم ملفاً سر ۳ پاسم 6 Abozabad‏ يرجع إلى عشرينات 
القرن العشرين منذ أن نشأت حرب حمر مع الحوازمة ثم مشكلة تردة أبوزبد. وأكد لنا أن 
تبعية أبوزبد لقبيلة حمر ليس عليها خلاف. كا أكد لنا أن هناك توجيهاً صادر في حكم 
القانون بعدم تعديل (حدود) أي منطقة أو تعديل تبعيتها إلى منطقة إلا بعد توصية من ديوان 
الحكم الاتحادي- وزارة الحكومة المحلية فيا مضى- وطمأننا أن محاولات السكرتير 
الصحفي لن تنجح واستجاب لرجائنا بأن يستبق الزيارة ويرسل مذكرة لرئاسة الجمهورية 
حتى لا تقع في خطأ قانوني» وقد فعل. | تحرك المساعد الإداري لمنطقة غرب كردفان (مركز 
النهود السابق) السيد حسن عبدالله عبدالحي وحضر إلى الخرطوم منبهاً الذين یضعون 
برنامج الرئيس أن (التقليد) هو أن تبدأ الزيارة من عاصمة المنطقة- أي من النهود- وليس 
من أحد فروعها أبوزيد كا تم التخطيط له. وفي النهود سمع الرئيس عمر حسن أحمد البشير 
تحذيراً (علنياً) من الخطباء وآخر سرياً من عبدالقادر منعم ومن الأجهزة أن يدع (الفتنة) 
نائمة وأن لا تكون زيارته هذه أو غيرها لخلق مشاكل جديدة بدلاً من حل مشاكل موجودة. 
ونامت (الفتنة) ونخشی أن يظهر من (لعن) الله ليوقظها. 


..... وجاء دار حمر الرخاء مع الاسنقرار: 
هذه هي دار حمر التي ما أن استقرت غالبية أهلها البادية حتى أصبحت أكبر منتج 


في العالم للصمغ العربي ولنوع فريد من الضأن الصحراوي عرف باسم الضأن الحمري 


۱۰۸ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
وب البطيخ. وفاكهة البطيخ مخزن للاء في أوقات الحاجة وغذاء للإنسان في اللب 
وللحيوان في القشر ودواء لأمراض ال حيوان الجلدية عند تقطير اب فيصير سائلاً أسود 
اللون يعرف باسم (القطران) وفوق ذلك فالقبيلة عاصمتها الحضرية (النهود) كانت أكبر 
سوق في السودان للإبل وللأبقار ومن بعد للفول السوداني وللدخن وكانت بها أكبر جالية 
من (الشام- سوريا ولبنان) ومن اليونان وتأسس بها (نادي) عام ۱۹۱۷م عرف باسم (نادي 
السلام) زاره العديد من الشخصيات والرحالة العالميين ومن بينهم الرحالة المصري (أحمد 





حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق والذي يروى أنه تزوج أم الملك نازلي 
بعد قصة حب عقبت وفاة والده الملك فؤاد الأول) وكانت النهود بحق مدينة سلام 
وعاصمة فروة النمر إذ لم يسجل تاريخها خلافات بين الريف والحضر ولا بين الجنسيات 
العديدة المكونة للحضر. وتعتير النهود حاضرة لأكبر (مركز في السودان) وهو ما يسمى 
(مركز غرب كردفان) ويضم حمر بكل مكوناتها والمسيرية والدينكا. وكان به ثلاثة مفتشون 
بريطانيون: واحد لحمر وواحد لكل من المسيرية والدينكا والثالث ويسمى الفتش الأول 
يرأس الائنین وما من سكرتير إداري جلس على الكرسي في الخرطوم إلا كان وقد شغل يوما 
ما منص ب(مفتش غرب كردفان) ابتداء من السير مفي إلى نيوبولد إلى جيمس روبرتسون. 
تباشير نهاية الحكم الثنائي ١-۱۸۹۸‏ ١۱۹م‏ واحتالات الاستقلال: 

بعد أن اتضحت معالم انتهاء الحكم الثنائي أقام الشيخ منعم منصور حفل شاي 
وداعاً لفتش المركز المستر بيتر هوق 11088 26165 ک| هي العادة وني أثناء ا حفل - منتصف 
۶6 - سأل مستر هوق: تفتکر يا شيخ منعم تقدروا تحكموا نفسكم إذا أصبح السودان 
مستقلاً ؟ كيف ما نقدر ابش حاكمين نفسهم ولا موسليني هاجمهم قوة دفاع السودان هي 


۱۰۹ 





مركز محمد عمر بشير 
التي حررت الحبشة. تمام لكن إنتو ما زي الحبش. أنتو ناس (حاسدين). دا رأيكم فينا يا 
مستر هوق بعد السنين دي كلها ؟ دا موش رأينا دي تصرفاتكم إنتو. أديك مثل يا شيخ 
منعم» نحن الخواجات إذا وجد الواحد منا شجرة فيها ثمر ينادي على أخوانه. وعندما 
يجتمعون يكلفون أخفهم وزناً بأن يمتطي ظهورهم ويتسلق الشجرة. ويقوم بجمع الشار 
الناضجة ويملاً بها جيوبه ويرمي بغير الناضجة إلى الأرض. آما إذا وجد فيكم يا حمر ويا 


سودانيين شجرة فيها ارا فإنه لا ينادي على أحد ويسير متخفياً ويتسلق بمشقة وفجأة يفتقده 





إخوانه فيقتفون أثره وعندما يتأكدون أنه في أعلى الشجرة يأتون بعدة فؤوس وبسرعة فائقة 
يقطعون الشجرة فيقع الأخ ویتناثر الثمر متقطعاً أشلاء بجانب أشلاء أخيهم. تعجب الشيخ 
منعم من المثل والطريقة الدرامية التي حكاها به مستر هوق الذي أردف: يبدو أنك غير 
مصدق ولكن بعد رحيلنا سيرى أولادكم العجب في (الفايلات السرية) من الشكاوي 
الكيدية والمختلفة التي تقدم لكل مفتش جديد وتسير حتى معالي الحاكم ثم تعود للمركز ثم 
صارت تقف عند سعادة مدير المديرية ثم أصبحت لا تتعدى مكتب المفتش الأول. وبالفعل 
وجد- حامد منعم منصور- الذي كان في خدمة المركز إلى أن تمت تصفيته بتحويله إلى جلس 
ريفي وجد العجب مما لا يحكى حفاظاً على علاقات لا ذنب للأبناء والأحفاد في نبشها. 
ومسألة (الحسد) ليست وقفاً على قبيلة حمر ولكن - كما ذكر العلامة عبد الله الطیب- هي 
صفة اتسمت بها كثير من القبائل العربية- الأصل وزاد على ذلك أن بجزيرة العرب عشر 
قبائل اشتهرت بالحسد هاجرت منها تسع الى السودان ونحن جميعاً آبناژها. 

جاء إلى مركز النهود مفتش سوداني- لا داعي لذكر اسمه- يبدو أن لديه آراء مسبقة 
عن علاقة المفتش بناظر القبيلة وفي فترة لا تكاد تذكر حاول خلق مشاكل ۸ يجد الشيخ منعم 


١١ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
بدا من أن يتجه رأساً إلى مكتب السكرتير الاداري مستر جيمس روبرتسون والذي كان 
مفتش أول غرب كرفان وينقل له صعوبة إن لم يكن استحالة التعاون مع ذلك المفتش فا كان 
من السكرتير الإداري إلا أن سأله من يريد من كبار رجال السكرتارية يخلفه. اختار الشيخ 
منعم أحمد مكي عبده من القسم السياسي. وما هي إلا أيام إلا وقد حضر مفتش جديد للنهود 
هو أحمد مكي عبده على متن طائرة (دف 19076) وقد كانت لدى الخطوط الجوية السودانية 
ثلاث طائرات منها وثقل الطائرة ستة إلى ثانية ركاب. سأل فؤاد ابن السيد أحمد مكي عبده 
والده بعد سنوات وهو بالمعاش إذا كان بوسع ناظر قبيلة أن ينقل مفتش مركز فكان رد والده 
وعلى الفور: ينقل أبوه. حتى وإن كان إنجليزي ولعل البعض يذكر أن شيخ العرب أبو سن 
نقل أحد مفتشي المركز بجملة لطيفة حوت (تقريراً) عندما قال لمدير المديرية (زولكم كويس 
لکن جیبوله آولاده ای زوجته) بخلاف الناظر الذي قال عن مفتش آخر أنه (كويس لكن 
طول أي بقی معنا لاکثر من اللازم) رغم أنه لم یکمل الدة التعارفة بثلاث سنوات. ولعل ما 
دار من آمثلة یشکل في جوهره آهمية التعاون التام بين ناظر القبيلة ومفتش الرکز وحتمية 
الثقة بینها من حیث آخلاقیات التعاون والعمل. إذ إن ناظر القبيلة كان يتم تعیینه بعد اختیار 
أهله له من قبل (الحاكم العام) أي رس الدولة الذي كان یمثل حكومتي بریطانیا ومصر 
و(براءة) تعيين الشیخ منعم منصور ناظر عموم مر كانت بتوقیع من اخاکم العام وبتهنثه من 
رئيس الدیوان الملكي في القاهرة باسم اللك فؤاد ومن آحد آمراء الأسرة الحاكمة في مصر هو 
الأمير عمر طمسون. ومن الفارقات أن وصل إلى الحاكم العسكري في الابیض آثناء حكومة 
الفریق عبود ۱۷ نوفمبر۲۱-۱۹۵۸ اکتوبر ۱۹۹6 (بلاغ من أحد عناصر الامن أن الشیخ 


منعم يخزن في منزله "أسلحة" یغلب الظن أا سوف تستخدم ضدم النظام لأن حمر أنصار) 








مركز محمد عمر بشير 
وضد الحكومة وطلب أن يعطي مفة مفتش ا حكومة المحلية (أي مفتش المركز) الاذن بتفتيش المنزل فا كان 
من المفتش وهو إداري تم تغيير لقبه إلا أن لفت نظر الحاكم العسكري بالحصول على إذن من رئيس 
المجلس العسكري العالي الفريق إبراهيم عبود حسب القانون. فانتهی الأمر. ذلك أن الذي عين الناظر 
هو رأس الدولة ولايتم تفتيش منزله إلا باذن من رأس الدولة. 

كان الشيخ منعم منصور يسوس دار حمر کا سطر السير جيمس روبرتسون بالحكمة 
والحلم وعدم العنف کا حافظ على علاقات القبيلة مع القبائل الجاورة والوافدة خلال 
المواسم تشق طريقها في الدار باتفاقيات وأعراف وتفاهمات أغلبها إن لم تكن كلها غير 
مكتوبة- لكنها محفوظة لدى الكبار والشيوخ من القبيلة من الدار غير أنها مكتوبة لدى 
الحكام في (الفايلات بالمركز) وبعضها آرسل إلى عاصمة المديرية- الأبيض - وإلى الخرطوم. 
وكان يشرك (نظار الأقسام والشراتي ورؤساء البيوت الكبيرة) في شئون الدار وكنا صغاراً ثم 
كباراً نشهد من وقت لآخر (مجمع الشراتي) كما كان يحرص أن تعقد لقاءات مرة أو أكثر في 
السنة مع رصفائه من قادة القبائل لحسم اي خلافات تنشأ بحكم التلاحم والترحال بين 
الأفراد وما يتبعها من صلح وتعويضات و(ديات) فيتصاف الجميع قبل أن تعيش الضغائن في 
الصدور ثم تشعلها شرارة صغيرة ناراً تحصد الأرواح وتقضي على الممتلكات وتخلق بذرة 
لعداوات. وكان مفتشو المركز من البريطانيين ومن خلفهم من السودانيين بمختلف الالقاب 
الجديدة يحضرون- كل على جانب قبيلته- وكانوا يشتركون بحاس في النقاش وعندما تتم 
الاتفاقات يعملون على متابعة القرارات. ورغم ما كان يبدو من حماس فقد اتضح فيا بعد - 
أي بعد رحيلهم- آنهم كانوا يتبادلون الرسائل المعنونة (سري للغاية) ويتناقشون فيها بكل 
موضوعية ویصلون إلى ما هو قريب من القرارات تاركين مساحة لزعماء القبائل. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 


خريطة )١(‏ منطقة دار مرف کردفان 


2 اله لاية الشسمالية 0 
3 3 کے بے هت ختصوم سه جا نم TEESE‏ ان 


و 
يمان 
ربا 








۸ ۱ لودو 


3 وزبارز 
رالد یرنه 
o‏ 


اسر 


FEE 





۱۹ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول حت 
ماذا قال الناظر منعم منصور للرئيس نميري بشأن الحل؟ 
- هل صدر قرار من ثورة مايو بحل الإدارة الأهلية؟ وإذا م يصدر كيف كان الحل؟ 
ظل موضوع الإدارة الأهلية محل نقاش بين رافض لوجودها باعتبارها إرثاً رجعياً في 
الحكم رعته حكومة الحكم الثنائي لتخضع به البلاد عن طريق متعاونين معها من أهلهاء 
وبين مؤيديها باعتبارها الوضع الامثل لحكم بلاد واسعة تتربع فيها (القبيلة) ويتم فيها 
توارث الحكم في بيت الزعامة الذي يؤهل مولوداً منذ صغره وشبابه ليكون الحاكم. وعن 
طريقها يحفظ الأمن وتحسم المنازعات عرفاً بين القبيلة والقبائل الأخرى والأهم من ذلك ني 
نظر البعض جع الضرائب في مواقيتها وانخفاض تكلفة الجباية وهما أحد أهم ركائز 
(الضريبة) في علم المالية الحديث. 
الثقفون في السودان- عموماً- كانوا ضدها ما عدا قلة ظلت تدافع عنها في استحياء 
إلى أن علا صوتها بعد أن تم (حل الادارة الأهلية) وظهرت الإشكالات التي جاءت بعد 
ذلك. في ثورة أكتوبر ١955‏ بدأ للناس أن (جبهة الحيئات) المكونة من المثقفين والنقابات 
أساساً مع مشاركة اسمية من الأحزاب هي التي بشرت بحل الإدارة الأهلية ودفعت بالشعار 
ضمن شعارات ثورية أخرى إلى الواجهة. وبعد أكثر من أربعين عاماً وني ندوة عن آثار امحل 
أكد أمين عام جبهة الحيئات الدكتور جعفر كرار بل وتحدى أن يكون شعار حل الإدارة 
الأهلية ضمن مواثيق وأدبيات جبهة الميئات وقال أن الشعار نادى به (الشارع) في إشارة لم 
تخف على الحضور أن (الشارع) وقد كان تحت قيادة الحزب الشيوعي السوداني الذي برز 
سافراً هو وراء ذلك. تلك كانت التباشير وخلخلة أركان الإدارة الأهلية وهز سلطاتها بين 


المواطنين وآنبا عن قریب وقریب هد زائلة. وجاءت ورة مایو ١919‏ وصمت آذانبا عن 








مركز محمد عمر بشير 
هتافات حل الإدارة الأهلية رغم أنه لم يصدر أي قرار رسمي في بداياتها بحلها. ذكر لي 
والدي وهو على رأس الإدارة الأهلية بلقب ناظر عموم دار حمر أنه في أول زيارة للرئيس 
نميري في عام ۱۹۷۰ لمديرية كردفان في (حملة مكافحة العطش) أن قابلته بعض المظاهرات 
تبتف ضد الادارة الأهلية وتجاوب مع بعضها بأنهم سوف یقومون بحل الادارة الاهلية 
استقبله الناظر منعم منصور عند حدود دار حمر ورحب به وأخبره أنه اتی لاستقباله بسیارته 
الخاصة وسيارة الحكومة تتبعه. وأنه ینصحه بألا يقول (آنبم سوف یقومون بحل الادارة 
الأهلية) لأن مثل هذا الحديث سوف يجعل المواطنين لا يحترمون الإدارة الأهلية ويتجاوزون 
العرف الأهلي وسبل حفظ الأمن الأهلي وجمع الضرائب دون أن يكون هناك جهاز حكومي 
يملا الفراغ بعد إعلان (الرغبة) في حل الإدارة الاهلية وبين (إعلان قيام جهاز بديل) يمثل 
الحكومة. النصيحة هي إما أن يعلن قرار بحل الإدارة الأهلية ويعلن معه البديل- أو أن 
يقول أن الحكومة لا تود حل الادارة الأهلية. كلا القرارين أفضل من ترك الأمر مبهماأ وطلب 
منه أن يخيره بالقرار حتى يعود على متن سيارته أو سيارة الحكومة. وعده الرئيس بأن يوقف 
الإمهام وبالتالي الحتافات ضد الإدارة الأهلية والمطالبة بحلها. كان ذلك في عام ۰۱۹۷۰ 

تم حل الإدارة الأهلية بعد ذلك خلال نفس السنة ثم سمح بعودتها بعد ذلك بحوالي 
ثلاثة عشر عاماً في عام ۱۹۸۳ خلال ثورة مايو. وتم تجاهلها بعد الانتفاضة عام ۱۹۸۵ وطوال 
فترة الديمقراطية ۱۹۸۹-۱۹۸۵ . وظلت بين التهميش والاستغلال والاستقلال طوال ربع القرن 
من حکم الجبهة القومية الاسلامية رغم آنها آنشأت لرجال الادارة الأهلية جهازا تحت مسمی 
(اتحاد الحكم الاهلی) يرأسه ابن الناظر منعم منصور» عبد القادر الذي تولى (مارة) حمر كا 


أصبحت تسمى (النظارة) بعد وفاة والده ووفاة أخيه منصور الذي خلفه. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وبهذه المناسبة فإن ما يقوله ويظل يكرره بعض المثقفين- بل وبعض المفكرين- بأن 
الإدارة الأهلية جهاز(أنشأه) الاستععار ليحكم عن طريقه حديث غير صحيح ولا أقول 
كاذباً: ذلك أن السكان المحليين في هذه الرقعة وقبل الفتح التركي المصري ثم البريطاني كانت 
لهم كيانات يقودها زعماؤهم وجاءت الهجرة العربية بقبائل يتقدمها زعماؤها: آولئك وهؤلاء 
هم الإدارة الأهلية. تعاونهم مع الحكم الوافد من المستعمرين هو تعاون المهزوم وشمل كل 
كيانات البلاد من رجال الدين و(السوق) وقيادات كل الكيانات بل أن ثورات بعض القبائل 
من غير ذات الأصول العربية وثورات القبائل ذات الأصول العربية ضد (المستعمر) سبقت 
انتفاضات وئورات الحركات الوطنية. 

ولكن ما هي الأسباب التي جعلت نميري يحل الإدارة بعد أن وعد قبل شهور بعدم 
حلها. تحدث لي الوزير منصور محجوب الذي كان مدير وزارة التجارة والصناعة والتموين 
التي كنت آعمل فیها(قبل انتقالي إلى البنك الزراعي السوداني عام )١95١‏ والذي خلفته 
وزيراً للاقتصاد والتجارة الخارجية عام “1977 قال لي السيد منصور محجوب أن الرئیس 
جعفر نميري كان في زيارة إلى منطقة النيل الأبيض أراد أن يختمها بالجزيرة أبا حيث كان يقيم 
الإمام امادي منذ قيام ثورة مايو ۱۹۹۹ حتى تاريخ الزيارة التي لم تتم في منتصف ۱۹۷۰ 
قابلت قافلة الرئيس مظاهرات ومواكب من مؤيدي الإمام امادي المهدي تعارض زيارته 
للجزيرة أبا وكانت (تحمل أسلحة الأنصار البيضاء التقليدية) كالحراب والسيوف الأمر 
الذي جعل الرئيس نميري يعود إلى الخرطوم حتى لا يحصل صدام الأنصار والحكومة ذات 
الأسلحة الجديدة تتقدمها الدروع والمركبات المصفحة. عقد اجتماع لمجلس الوزراء لناقشة 


الأمر وتحدث منصور محجوب بأن الامام ال هادي يستقوي بآل هباني رجال الإدارة الأهلية في 








مركز محمد عمر بشير 
النیل الأبيض وأنه إذا ما قامت الحكومة بحل الإدارة الأهلية في (النيل الأبيض) سيفقد آل 
هباني نفوذهم على المواطنين هناك وبالتالي سيفقد الإمام ال هادي أكبر مصدر لقوته. وعليه 
أقترح منصور بأن يصدر قرار من مجلس الوزراء بحل الإدارة الأهلية في منطقة (النيل 
الأبيض) فقط وليس في كل السودان. قال منصور محجوب أن القرار الذي صدر مكتوباً في 
سجلات مجلس الوزراء والذي قرأه بعد عودته من رحلة الاستشفاء في لندن لعاحة عينيه 
كان بحل الإدارة الأهلية دون الإشارة إلى منطقة (النيل الأبيض) فشمل القرار (كل 
السودان) لم يلتفت أحد لتصحيح الخطأ: بعضهم لاقی القرار هوى في نفسه- آخرون ل 
ينتبهوا للخطأ- وربا بعض لم يقرأوا القرارات عندما وصلتهم لأخهم جميعاً انشغلوا بالانتشار 
في كل أنحاء القطر للدعاية لانتخاب الرئيس نميري بعد فشل ثورة التصحيح بقيادة الرائد 
هاشم العطا. منصور حجوب نفسه لم يعد وزيراً للخزانة لمرضه ولم يعد عضواً في مجلس الوزراء 
رغم أنه عاد لعضوية المجلس في عام ۱۹۷۲ بعد أن تم تعبينه مدير لمؤسسة الدولة التجارية التي 
ضمت شركات ومؤسسات الحكومة التي آلت إليها بالتأميم والمصادرة. 

ثم بدأ الجميع يشعرون بالفراغ الذي خلفه غياب الإدارة الأهلية من الساحة الوطنية: في الأمن- في 
القضاء- وجمع الضرائب في الريف السوداني- في فض النزاعات بين المواطنين والقبائل - في حفظ 
التراث- في تماسك الدولة ووحدتها وبالطبع أقبل بعضهم على البعض یتلاومون وينكرون. أقر 
الرئيس نميري بشجاعة بالخطأ وفوض حكام الأقاليم بأن يعيدوا الإدارة الأهلية- إذا أرادوا- كل 
في إقليمه وبالطريقة التي يراها. من الفارقات في أمر الإدارة الأهلية أن (أكبر شخصية) في الإدارة 
الأهلية كانت تنسج حوضا القصص ل تكن إطلاقاً إدارة أهلية في ذلك الوقت: ۸ يكن عمدة ولا 
ناظراً ولا شيخاً. كان موظفاً تابعاً للقضاء هو الزبير حمد الملك في دنقلا. كانت وظيفته 


١” ٠ 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
الرسمية(مساعد رئيس تسجيلات الأراضى منطقة دنقلا وما حوها). ولكن قوة شخصيته في 





المنطقة وثقافته واحترام الإدارة الثنائية أيام الاستعمار له ومن بعدها الحكومات الوطنية هيأت 
للكثيرين أنه (عمدة) أو إدارة أهلية وتعجبوا جميعاً أن قرار حل الادارة الأهلية لم يشمله لأنه لا 
علاقة له بها وظل جالساً في مكتبه یشرف على التسجيلات والرهونات. 


......وماذا عن المحاكم والقضاء الأهلى ؟ 
بعد الحل أنشئت (محاكم أهلية) يتداول رئاستها أعضاؤها. فكانت مكان تندر 


المتقاضين فهجروها وذهبوا إلى رؤساء المحاكم السابقين والذين جلسوا ما أمام بيوتهم أو 
تحت ظل أشجار التبلدي أو النيم التي اعتادوها كالعادة. وما يكاد المجلس ينعقد حتى يبدأ 
شاك وخصم آنا يرتضيان حكم الرئيس السابق. ولا يفلح في اقناعه| أن سلطته قد انتهت 
وأنه الآن (عداوي- أي مواطن عادي) مثلهها وأن القضاة الجدد في المحكمة المعتادة ويجىئ 
الرد من کلیهیا: ديل شعبيين ساكت لا يعرفون كيف يحكمون حتى أن الواحد منهم يسر 
إليك بأن تحتكم إليه الأسبوع المقبل الذي يأتيه فيه (الدور) في رئاسة المحكمة. وبعد أخذ 
ورد وتدخل من الحضور الذي اعتاد زيارة الرئیس السابق كل صباح لإلقاء تحية اليوم له 
وتناول الإفطار يرتضي الشاكي والتهم أن يقوم الرئيس السابق بالصلح بینها والرضى 
بحكمه. وهو أمر کثبرا ما أثار حفيظة قضاة الشعب لأنه حكم يرتضيه الجميع دون استئناف 
ويعتبر- عملياً- امتداداً لدور الإدارة الأهلية كا أنه وهذا هو المهم حكم ليس فيه (غرامة) 
فالغرامة لا تذهب لخزينة الحكومة. 

وني خلاف شهير في السبعينات من القرن العشرين بين قبيلتي المسيرية والدینکا (نقوق- 
أببى) رفض الطرفان تحكيم ضباط المجالس وكذلك الوفد القادم من الخرطوم (من الحكام الأفندية) 


كما وصفوهم وطالبوا بمحكمين من زعیاء عشائر كردفان (شيخ منعم منصور أو عمه محمد عبيد الله 


۱۳۱ 








مركز محمد عمر بشير 
رئيس محكمة غبيش السابق) ومن دارفور الرزيقات (محمود موسى مادبو - والد الدكتور آدم مادبو) 
وبرروا طلبهم بأن ضباط المجالس ووزراء الخرطوم سوف يتم نقلهم بعد حين أو خروجهم في 
تعديل وزاري. أما زعماء العشائر فهم أهلهم والباقون معهم إن لم يكن هم بأشخاصهم فأولادهم 
الذين يحضرون معهم مثل هذه الجالس للصلح. وقد كان لهم ما أرادوا وجلس حکام الثورة 
متفرجين في آبلغ درس لن يعتبر. 

غير أن دور الإدارة الأهلية في حفظ الأمن جاء سرده في أكثر من موقع في هذه 
الذكريات- المذكرات: في تعرف رئيس محكمة صقع الحمل منصور منعم وهو شاب حدث 
على اللص الذي سطا على سوق البلدة وني قصاص الأثر ودوره في تتبع الجناة وفي العرف 
عند (الفزع) وفي مكانة (سفیه) الحلة وفي (النفير: للزراعة والباني والحفائر وحتى الشوارع) 
وغير ذلك وبالطبع فان دورها في (الجودية والتوفیق) بين أفراد وبطون القبيلة الواحدة 
والقبائل الأخرى المجاورة أو التي تلجأ لحكمة زعمائها لم يتبين أهميتها (أفندية الخرطوم) إلا 
بعد أن اشتعلت أطراف السودان ناراً وكان أكثر حكام الخرطوم اعترافاً بدور الإدارة الأهلية 
والاستفادة من خبرة رجاها- وتوقيرهم- الفريق الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس 
الجمهورية آنذاك وكان يحمل معه- نقدأ- ما يتوقعه من مساهمة الحكومة في التعويضات وفي 
(الديات) فيطفئ النيران ويثبت وجود هيبة الدولة رغم ما أصابها من اهتزاز- ولا قضى- 
عليه کا تقول بعض الروايات- خلف من بعده من أصابتهم (مفاجأة) الزعامة بل صرح 
بعضهم بأنه لا يريد لمجالس الحكم عندهم أن يجلس فيها زعماء العشائر ولكن عندما يقف 
كبرياؤهم عن مواجهة العقل يلجأون إلى زعماء العشائر ولعل أكبر قضية جنائية أوصلوها 


۱۳۲ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
دون الاستماع إلى صوت العقل إلى المحكمة الدستورية ثم (لراجعة) ول يجدوا بدا من قبول 





حكم القانون (المجرد) في إعدام أكثر من عشرين من قبيلة الشكرية في ولاية كسلا مقابل 
ابامهم بقتل ثلاثة أفراد من قبيلة قليلة العدد تسكن دار الشكرية وفي كنفهم اسمها 
(العقليين) وقد شعروا وقتها أنهم لابد أن يبحثوا عن الحكمة عند أهلها. رفض أهل المجني 
عليهم الدية التي عرضتها عليهم المحكمة وبعض أقرباء الخصوم. نصح البعض رئيس 
الجمهورية عمر حسن أحمد البشير أنه إذا طبق حكم الشرع والقانون فعليه أن يتوقع أن يقوم 
الشكرية بإزالة هذه القبيلة العزيزة النفس القليلة العدد من الوجود تلفت الرئيس فلم يجد 
قریباً منه إلا نائب رئيس اتحاد زعماء العشائر الشيخ عبدالله محمد أحمد أبوسن ولكنه من قبيلة 
الشكرية فأرسل إلى كردفان داعياً رئيس الاتحاد عبد القادر منعم منصور الذي ذهب إلى 
القبيلة بوفد من زعامات القبائل ومكثوا ثلاثة أسابيع أقنعوا فيها القبيلة بقبول (الدية) بعد 
لأي. ثم بقبول (العفو) عن الجناة: أيضاً بعد لأي. ولكن ما هو المقابل (شرعاً) إذ إن 
الأمهات لا يطقن أن يرين القتلة يتجولون بينهن في الأسواق وفي الناسبات وفي المراعي. 
المقابل الشرعي هو (التغریب) أي أن يترك الجناة ليس فقط منطقة سكنهم وسكن أهل 
الضحايا بل أن يغادروا (ولاية كسلا) بأكملها: جنوباً وغرباً حتى (الحواتة) وشالاً وشرقاً 
حتى(محمد قول وسوق تمبول) ولمدة عشرين عاماً وإذا وجد أي واحد منهم خلال هذه 
الفترة في (ولاية كسلا) يلغى الاتفاق ويطبق حكم الإعدام فيهم جميعاً. قبل الجميع بالاتفاق 


وطويت القضية وتصا حت القبائل. وبدأ منظرو (الشريعة) في البحث عن صحة الحل ثم 








مركز محمد عمر بشير 
وجدوا أن صبياً (مليحاً) اسمه (ذؤيب) فتن فتيات الدينة وحار الخليفة عمر بن الخطاب في 
أمره. ورغم أنه لم يرتكب جرماً كما أنه ليس له يد في (ملاحته) التي حباها له الله. استدعى 
عمر سيدنا علي بن أبي طالب باب العلم وسأله الرأي. وتقول كتب السيرة أنه اقترح عليه 
(تغریب) الشاب إلى بلد غير المدينة لم تعرف فتياتها عنه شيئاً. ثم داعبه علي الكرار(عجباً 
آآنت ذؤيبهن فكيف إذا كنت (ذثباً) . وتم تغريب الشاب المليح. ثم نسى الحميع آمر 
(الإدارة الأهلية) بل وسعوا إلى (إذلالها) إذا صح التعبیر- إذ إنه وصف لتصرفهم- وأرادوا 
إصدار قانون ينهي وجودها الفعلي ىا رويت في مكان آخر من هذه المسيرة. 
..... وماذا يشفل علماء السودان كما أسموا أنفسهم؟ 

لم ييتدوا لما يحقن دماء البشر ويشيع الأمان والسلام بين الخلق وانشغلوا بمتابعة فتاة 
اب ا وین یبن 
وآنا أكتب هذا أقرأ في الصفحة الأول من صحيفة الأهرام الصرية حديثاً للاستاذ الدکتور 
(سعد الكتتاني) أمين عام حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسي لجاعة الأخوان السلمین) 
عدد ١١٠/7١1/١١١1م‏ يقول فيه ضمن إفادات أخرى (لن نفرض الحجاب أو نمنع الخمور 
في المنازل والفنادق). وفي (النازل) وهو ما كل ما يتعاطاه سكان غرب السودان وسکان 
شال السودان. وفسر دكتور الكتتاني حديثه بان احتساء الخمور في المنازل حرية شخصية كأ 
أن (الفنادق أماكن خاصة وبالتالي فان هذا يدخل ضمن الحرية الشخصية). وفي تصريحه عن 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
الشريعة الإسلامية ولن نفرض الحجاب على | لمسيحيات ولا حتى على المسللات فالفرض يتم 





بقوانين وتشريعات وهذا غير وارد أو مقبول) وعن رئيس مصر المقبل قال سيادته(نريد لمصر 
أن يحكمها رئيس مدني وسندعم من يختاره الشعب حتى ولو كان قبطياً أو سيدة) لاحظ أنه 
حتى اليوم (۲۰۱۱/۱۲/۱۳م) رفض الأخوان السلمون ترشيح رئيس منهم لصر. ولكن 
ولدهشة كل مصر وكل العالم الغربي- رشح الأخوان المسلمون يوم ۲۰۱۲/4/۳ محمد 
مرسي لمنصب الرئيس وجلس الكتتاني رئيساً لمجلس الشعب. ول يفرضوا الحجاب ول 


يقفلوا البارات ول يمنعوا شرب الخمر في الفنادق والمطاعم.. إلى أن زالت دولتهم. 





۱۳۸ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الچرء الأول 

ولا جاء دورنا إساعيل وأناء في الذهاب إلى المدرسة الوسطى وهذه المرة إلى الدويم 
الريفية الوسطى التابعة فنياً لعهد التربية في بخت الرضا بالدويم لم نكن مؤهلين لا حجاً ولا 
سنا للزواج. لم تكن هناك , عام 457١م‏ » مدارس وسطى من الجنينة غرباً في دارفور مروراً 
بالفاشر ثم النهود. كانت في الأبيض وكذلك شرق وشمال كردفان وجنوبهاء ونحن في غربها. 

ثم أقام مؤتمر الخريجين مدرسة بجانب أخرى كانت تسمى مدرسة (النهضة) 
منهجها أقرب إلى المناهج في مصر ويؤمها في الغالب أبناء الجالية المصرية والاقباط في الأبيض 
والذين غالبا ما يكملون تعليمهم الثانوي إما في مدرسة الأقباط في الخرطوم أو في مدارس 
القطر المصري كما كان يسمى- قبل أن تقوم مدرسة الملك فاروق الثانوية- والتي أصبحت 
جامعة القاهرة فرع الخرطوم ثم استولت عليها ثورة الإنقاذ وأصبحت جامعة النيلين لذلك» 
رؤى والرؤية للإدارة البريطانية في المديرية أن نذهب ومعنا أبناء دارفور إلى بخت الرضا 





بالدويم حيث نؤدي امتحاناً يشترك فيه تلاميذ من كل أنحاء السودان حتى جنوبه في ذلك 
الوقت» ويتم اختيار أربعين تلميذاً للالتحاق بمدرسة الدويم (الريفية) الوسطى وستين أو 
أكثر بمعهد التربية في بخت الرضا لكي يتخرجوا معلمين في المدارس الأولية. 

ذهبنا من النهود ونحن ثلاثة: إسماعيل منعم ومكي المرضي إمام ابن شرتاي أرمل في 
دار حمر وشخصي. ولا كنا صغاراً وم نغادر من قبل إلى الأبيض ناهيك عن الدويم فقد قرر 
والدي أن يصحبنا أحد أبناء خؤولته(الجد حمودة محمد) وذلك رغم تأكيد الفتش البريطاني له 
بأننا بمجرد وصولنا إلى الأبيض سوف يستقبلنا مفتش تعليم المديرية محمد الحسن دياب 
والذي يشرف على ركوبنا القطار حتى كوستي حيث يتسلمنا مأمور المركز يوسف سعد 


۱۳۹ 





مركز محمد عمر بشير 





وعندما سمع والدي اسم يوسف سعد إطمأن وأبلغ الفتش أن حمودة سوف يركب 
معنا القطار إلى أن يسلمنا إلى المأمور يوسف سعد ثم یعود وقد كان. 

وبالفعل فإن الشيخ دياب كما كان ينادي كان واقفاً في رصيف محطة سكة حديد 
الأبيض ويقوم بالتام على طلبة كل منطقة ویطلب منهم الصعود بنظام داخل عربة السكة 
الحديد التي كتب عليها بخط واضح (محجوزة للطلبة) وبعد أن تأكد من دخولنا جميعاً وقف 
على الرصيف إلى أن تحرك القطار صوب كوستي فالخرطوم. 

م نتبين آننا بالقطار في واحدة من عدد من العربات وأن هناك جس) أسود اللون 
يتصاعد منه البخار ثم صفارة مدوية مخيفة الا عندما وصلنا محطة الرهد والتي يقف فيها 
القطار حمس عشرة دقيقة. 

الجد حمودة كان يوجهناء نحن وزملاءنا من المناطق الأخرى ويطلب منا أن نحفظ 
أسماء المحطات وترتيبها حتى يمكننا الإجابة الصحيحة إذا كانت جزء من الامتحان في 
بخت الرضا. 

وعندما تحرك القطار من محطة الرهد حوالي الساعة التاسعة صباحاً آخرج لنا من 
(قفة الزوادة) لوازم وجبة الإفطار من الجبن والطحنية والدجاج الحمر ودعا زملاءنا 
للمشاركة خاصة آولئك الذین حضروا من دارفور والذین لا شك قد نفد زادهم بعد رحلة 
ثلاثة أيام على متن (اللواري) وتکرر الأمر عند الغداء ونحن نجاوز محطة (تندلتي) أولى 
الحطات الكبيرة في مديرية (النیل الأبیض) قبل أن نصل إلى كوستي في الرابعة عصرا. 

كانت مدیریات السودان ثمانية عشر مديرية ثم رأت الحكومة ترشيداً للانفاق دمج 
بعضها ني بعض عام ۱۹۲۹م فصارت تسم مدیریات أكبرها حجرأ بعد دارفور مديرية النيل 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
الأزرق التي ضمت النيل الأبيض والجزيرة ومناطق الفونج التي تعرف حالياً بمنطقة 
النيل الأزرق. 

وعند نزولنا من القطار وجدنا المأمور يوسف سعد واقفاً بزيه الرسمي رداء قصير 
وقميص من الكاكي وقبعة ومعه عسكري بوليس وعربة فورد نسميها (آب أربعة) عرفنا في 
بعد أن الأربعة تشير إلى عدد (البساتم) في ماكينة السيارة إذ جاءت بعدها سيارة فورد ذات 
ثمانية بساتم. طلب جناب المأمور منا أن نضع أمتعتنا على السيارة ونمشي خلفه إلى أن وصلنا 
مبنى مدرسة كوستي الأولية التي كانت في إجازة نصف السنة ففتح لنا ناظر المدرسة أحد 
الفصول ووجهنا إلى استخدام (الكنبات) أسرة للنوم. 

كان لكل منا دون استثناء (لحاف) خفيف من القطن وشنطة صغيرة من (الصفيح) 
كما كان لمجموعتنا (قفة) كبيرة مها بقية زاد تناولنا به عشاءنا. 

وفي الصباح جاءنا عسكري البوليس وطلب منا أن نتبعه إلى منزل جناب المأمور 
حيث استقبلنا بكل ترحاب وطلب منا بعد الإفطار في داره أن نتوجه ويأخذ كل منا أغراضه 
إلى شاطئ النيل بقرب المدرسة حيث مرسى الباخرة التي ستقلنا إلى الدويم. 

دار المأمور فسيحة وبها (نجيلة) خضراء وأشجار ظليلة جلسنا على بساط تحتها إلى 
أن وصلتنا صينية كبيرة بها (صحن باشري) كبير ملوء بإدام أصفر اللون يعلوه سمن وقليل 
من بصل محمر (قدحة) ويحف به رغيف من الحجم الكبير. تذوقنا الإدام ولم يعرفه أحد رغم 
استساغتنا له إلى أن حضر العم يوسف سعد وفاجأنا قائلاً (العدس) عجبکم؟ وعرفنا أنه 








مركز محمد عمر بشير 

وإذا كنا جميعاً قد تفاجأنا بالعدس لأول مرة حتى ظن بعضنا من فرط لونه 
آنه(کمبوء وهو أدام من اللوبيا ومنقوع رماد قصب الدخن) کیا ظنه آخرون أنه(مرس) وهو 
أدام عنصره الرئیسی شحم الإبل وكاد السجال بين الإثنين أن يتحول إلى رهان لولا أنهم 
بمجرد أن تذوقوه ضحكنا وخسرت الجموعتان الرهان قبل أن یبدا 

طرفا الرهان الآن من قادة العمل الوطني أحدهما من كردفان والثاني من دارفور 
بكري أحمد عديل وأحمد إبراهيم دريج وقد حضرا بعدنا بعام في نفس الرحلة إلى 
كوستي فالدويم. 

آما الرغيف فرآيته لأول مرة في صقع الجمل عام 978١م‏ عندما حضرت مجموعة 
من طلبة كلية غردون في رحلة جغرافيا مع الأستاذ عبد الحليم علي طه على ما أذكر. بعض 
آخر رآه وتذوقه أول مرة عند فتح الجد حمودة قفة الزوادة في محطة الرهد ونحن متجهون 
للامتحان في بخت الرضا في ديسمير ١457‏ م. 

تأخر (وابور البحر) وقام المأمور باستئجار عربة كانت متجهة للدويم وركبنا عليها 
بعد أن شدد على سائقها أن يواصل رحلته ليصل الدويم ليلا ويأخذنا إلى منزل أحد الأساتذة 
وهو محجوب آبشر ويخيره أن يتصل بإدارة معهد بخت الرضا لترسل لنا عربة المعهد لتنقلنا 
إلى هناك. 

ودعنا الجد حمودة بعد أن إطمأن على سفرنا ىا ودعنا العم المأمور يوسف سعد 
والذي كان يصر دائ على استضافتنا كلما وصلنا كوستي في رحلتي الذهاب والإياب إلى أن 
تم نقله. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

لم نلحظ اهتامه بأمرنا وقتها ولا سرعة اتخاذ قرار استئجار العربة والتعلييات 
المشددة للسائق ولكني قارنت الآن موقفه بالمسئولين اليوم ممن هو في مركزه أو حتى 
أعلى منه. 

وصلت عربة بخت الرضا وهي (بوكس) عادي من النوع الذي يستخدمه مفتش 
النهود. واستقبلنا السائق البشوش (منصور الدسوقي) ونقلنا إلى العهد حيث استقبلنا أحد 
الأساتذة وتم توزيعنا على عدد من الداخليات والتي كانت خالية إلا من الطلبة الذين ۸ 
يتمكنوا من الذهاب إلى ذویهم في إجازة نصف السنة. 

ووجدنا آنفسنا من غرب كردفان: النهود ومن جبال النوبة: كادوقلي والدلنج 


ورشاد» ويشرف علينا (عبد الرمن محمد زين) وهو من المجلد وعرفت أنه بالصدفة الحميدة 





شقيق أستاذي التجاني محمد زين. 

كما تعرفت لأول مرة على عمي» ابن عم والدي» أحمد ناصر محمد الشيخ الذي جاء 
من أبوذيد ول نتعارف طوال الرحلة من الابیض إذ كانت تموعته تضم الذين درسوا في 
الدرسة الاولية وکلهم من جبال النوبة: لقاوة. آخذنا الطالب عبد الرهن محمد زین في جولة 
داخل بخت الرضا وطفنا بالعدید من مباني الداخلیات ثم مباني الاساتذة والفصول والکتبة 
التي شرح لنا معناها ثم السرح. 

ولم نفاجاً هذه الرة بالعدس الذي شکل افطاراً دائ)ً. وکان الیوم التالي هو یوم 
الامتحان للقبول بمدرسة الدویم الريفية الوسطی كا كانت تسمی. وللقبول بمعهد التربية 
في بخت الرضا. وکان كرما منه أن طمأننا بعدم (الخوف) من الامتحان وأن نقراً سورة 


الفاتحة ونحن نبدأ في الاجابة. 


۱۳۳ 


مركز محمد عمر بسير 








وقد تم تصحيح الامتحان بسرعة وبعد يومين دعينا لإعلان النتيجة. وسررنا نحن 
الثلاثة: إسماعيل ومكي وشخصي بالقبول في المدرسة الوسطى ومعنا عمي أحمد ناصر. 
وبنفس السرعة التي تم بها استقبالنا تم ترحيل من قبلوا بالمدرسة الوسطى إلى داخلياتها في 
الدويم. ومن لم يقبلوا في المدرسة الوسطى أو معهد بخت الرضا إلى مناطقهم عائدين وبقيت 
المجموعة التي تم قبوها طلبة في المعهد ليتخرجوا بعد ست سنوات من الدراسة معلمين في 
المدارس الأولية (الأساس) أما نحن فمن المقرر أن نجلس بعد أربع سنوات لإمتحان 
الدخول للمدارس الثانوية (العالی). 

كانت مدرسة الدويم الريفية الوسطى تضم أربعة فصول وني كل فصل أربعون 
طالبا؛ عشرة منهم من مدينة الدويم وعشرة من ضواحيها: جنوباً حتى قرب كوستي وشالا 
حتى مدينة القطينة» أما العشرون الآخرون فهم من جميع مديريات السودان الأخرى عدا 
بحر الغزال لا أدري لاذا ؟. 

إذ كان معنا من الاستوائية عبد الحفيظ علي» وهو من التجار والأعيان الآن ومن 
أعالي النيل محمد على الأسيوطي وهو أخ خبير الجلود المهندس عبد ال رحمن الأسيوطي. وكان 
هناك أربعة من دارفور: إثنان من الفاشر وما موسى عوض بلال وعبد الله زكريا إدريس 
وواحد من زالنجي هو هارون علي والرابع من كتم هو آدم أسحق. 

وتعي الذاكرة الشيخ التجاني من مدينة مقرات ومحمد أحمد سيدون: من سيدون 
وعبدالله محمد أحمد أبوسن. 

ومن أبرز أبناء الدويم حسن التاج وحامد محمد حامد الأنصاري وسيد عثان الذي 


كان يشاركني في (درج الجلوس) وبخيت حامد (ود الريس) ثم انضم إلينا في الفصل الثاني 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
من الدراسة حسن حمزة هيبة- بعد أن خلا مقعد لابناء الدويم بسبب المرض - ومحمد حسن 
أبو ضلع خبير المساحة. 

كانت الداخليات ثانية» ست منها على شال وجنوب المدرسة وبالقرب منهاء 
وواحدة في أقصى الجنوب تفصلها مسافة عن بقية الداخليات الجنوبية وقد أطلق عليها من 
الطلبة اسم(النفی) عل بأن الداخليات الأخرى كانت تعرف باسم رؤسائها في كل عام من 
طلبة السنة الرابعة. 

أما الداخلية الثامنة فتقع على أقصى الشمال بالقرب من مباني حدود مدينة الدويم 
وبالقرب من (البئر) الوحيدة التي كانت تسقي كل المدينة» وأطلق الطلبة على هذه الداخلية- 
والتي كنت أحد ساكنيها- اسم العراء. 

كانت كل داخلية تتكون من غرفتين يسكن في كل غرفة أربعة من الطلاب أما 
ی (النفی) وفي (العراء) فالداخلية تتكون من (دردرين) بكل دردر آربعة طلبة. وفي جميع 
الحالات بالداخلية طالبان من كل فصل» ورئيس الداخلية ونائبه من طلبة السنة الرابعة. 

ولكل داخلية (حوش) وبه مطبخ وحام» وإثنين من المراحيض. ويتسع فناء 
الداخلية للنوم ليلا في حالات الصیف. وللسمر ولغسيل الملابس ونشرها أيام الجمع. يبدأ 
الواجب في ليلة يوم النبطشية» او النوبتجية ما يقال ها باللغة العربية» ولا أرى فرقاً بينها 





فيقوم النوبتجي باستلام حصة الداخلية من اللبن الذي نستقى منه للعشاء ونشرب منه شاي 
الصباح فيقوم بدخول المطبخ ويوقد نار حطب الحريق ليغلي اللبن الذي يقدم لكل زميل منه 
كوباً للعشاء ويترك قدرا لشرب الشاي صبحا. 





۰ 5 
مرکر محمد عمر بسير 
وني الصباح یقوم یتنظیف وکنس أرضية العنبر ثم یقوم بالذهاب إلى (الکنتین) وهو 
دکان صغير يديره أحد الطلبة ویتسلم حصة السکر والشاي ویعد النوبتجي الشاي ویقدمه 


لز ملائه وتکون الساعة قد قاربت السابعة صباحاً فنتجه حميعاً إلى المدرسة. 





لكل داخلية (طباخة) تقوم في الیوم السابق باستلام احتیاجات الافطار والغداء من 
الکنتین. ویقوم النوبتجي بإحضار (صینیة) الافطار والذي كان یتکون من طبق العدس 
والرغیف ویوماً من (ملاح شرموط آخضر) مع (الکسرة). آما الغداء فغالبا ما یکون من 
طبق خضار الوسم: قرع ملوخية» طیاطم آسود والذي كنا من شدة کراهیتنا له ربا لسوء 
إعداده نسمیه (ملاح براطیش) أي قدامی أحذية الجلد. 

غير أنه نسبة لا كانت تتمتع به الدویم من خيرات فان الافطار والغداء لا يخلوان من 
سلطة خضراء: طاطم وعجور و جرجیر. 

وفي الساء بعد أن یقدم لنا النوبتجي كوب اللبن ویقوم بغسل الاکواب یتسلم منه 
نوبتجي الیوم اللاحق آدوات الطبخ. 

هذه يومية الطالب النوبتجي بمدرسة الدویم الريفية الوسطی وتدور عليه مرة 
کل آسبوع. 

تقع مدينة الدویم على الشاطی الغربي للنیل الأبيض بين آم درمان وكوستي. وکانت 
حتی بدایات القرن العشرین الیناء البري الذي يربط الجنوب وکردفان بأم درمان إذ تأتیها 
الحاصیل والأخشاب برا وبالراکب الشراعية الكبيرة من الجنوب وتغذي میناء مدينة أم 
درمان في (الوردة) بكل الخيرات التي ترد إليها كا كانت تقوم في ذلك الوقت بتموين 


المديريات الجنوبية بمعظم احتياجاتها الواردة من أم درمان بدرجة أكبر من مدينة كوستي. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

ويسكن الدويم عدد مقدر من (الجعافرة) الذي استقروا فيها من صعيد مصر 
واشتغل غالبيتهم بالزراعة وقليل منهم بالتجارة وانتشرت في كل أنحاء السودان. 

وباختيار قرية بخت الرضا التي تبعد بحوالي أربعة كيلومترات من مدينة الدويم 
وازدحامها برجالات العلم وطلبته ازدهرت فيها الحياة التجارية بل والصناعية. 

وكان الزمن عند حضورنا في آواخر عام ۳٤۱۹م‏ (زمن الحرب) فالحرب العالمية 
الثانية انتهت رسمياً في مارس 455 ١م‏ واستمرت آثارها في ندرة السلع وتوزيع الضروريات 
ببطاقات التموين مع تزايد في الأسعار. 

لكن الوضع العام في الدويم كان أفضل من جميع هذه النواحي بالمقارنة مع غرب 
كردفان وغرب السودان عموماً. هذا بالإضافة إلى وفرة كبيرة في كل أنواع الخضروات والتي 
قلا تعرف في مناطقنا. 

وكانت الدرست. كعادة كل مدارس السودان على أيامناء تقوم بإعداد زيارات في 
حصة الجغرافيا لمعالم البلدة. وكنا في النهود نزور دكان (سر تجار البلد) والمستشفى 
و(الدونكي) شبه المتوقف والبوسته وأحد أفران الرغيف. 

آما في الدويم فقد كانت تضم أماكن لم نعهدها بل ولم نسمع بباء شملت هذه 
الأماكن: معمل (ابنة) وكلمة (معمل) هي السائدة بديلاً لكلمة (مصنع) التي لم 
تكن متداولة. 

ولعلنا جميعاً نعرف ونتوق إلى جبنة الدويم البيضاء والتي تصنع من ألبان أبقار 
المنطقة» ثم معمل الصلصة لكثرة الطیاطم بدرجة تكاد تكون غير موسمية» ومعمل الصابون 
لإنتاج صابون شعبي لغسيل الملابس ومعمل الزيوت من بذرة القطن. 








مركز محمد عمر بشير 

أما زیت السمسم والفول فقد كان إنتاجه) في ذلك الوقت يتم في (العصارة) التي 
يديرها الجمل» ويعتبر الزيت الناتج منها أزكى رائحة وأفضل مذاقاً من زیت بذرة القطن 
والذي لم يكن يعالج في ذلك الوقت المبكر بالکیی‌اویات واهايدروجين. 

ويدير معمل الجبنة رجل يوناني لعله (خواجه كوستي) سليل الاسرة اليونانية التي 
افتتح أحد أفرادها حانوتاً عند بناء كوبري على النيل الأبيض لإمداد العاملين باحتياجاتهم 
فقامت مدينة كبيرة وطغى على اسم القرية الأصلية(مديسيس) وأصبح اسمها حتى 
اليوم كو ستي . 

كان خواجة كوستي متحفظاً على الدوام» كا علمنا من طلبة سابقين» في شرح كيفية 
عمل الحبنة والمكونات التي تضاف للألبان ومقاديرها وعند عودة الطلبة إلى الفصل يكمل 
الشرح الأستاذ (أحمد محمد سعد أو الطاهر شبيكة على أيامنا). 

ومع ذلك فإننا بعد الذهاب إلى فناء الدرسة وحضور (التام) اليومي مع مغيب 
الشمس نعود إلى الداخليات للمذاكرة» وأحياناً لاستقبال بعضنا البعض في زيارات تفقدية 
أخوية بعيداً عن جو الدراسة ويعود كل منا إلى داخليته ليقوم رئيس كل داخلية بالتمام الثاني 
على رعيته لننام جميعاً في التاسعة مساء. 

بالقرب من المدرسة منزل يباع فيه(الفول المصري) في وجبة الإفطار لمن يستطيع إليه 
سبيلاء الطبق ومعه رغيف كبير ومعلقة زیت سمسم ويعلوه(شمار) بقرشين أو (فريني) كما 


كنا نسمبه. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وكان غاية المنى أن نحصل ولو مرة في الأسبوع على هذا الطبق بديلاً لملاح 
الشرموط بالكسرة. وفي یوم سمعنا أن طلبة مدرسة رفاعة أضربوا عن الطعام لرداءة الفول 
الذي يقدم إليهم. وتعجبنا. 

وكان ناظر المدرسة يومها محمد أحمد عبد القادر والد زين العابدين محمد أحمد 
عبد القادر (زينكو) فاستبق الأمر وخطب فينا في الطابور الصباحي اليومي أن ما حدث من 
طلبة رفاعة لا يشبه الخلق السوداني الذي لا يشكو من الطعام وأنه اتفق مع (مصلحة 
العارف) أن يتم تغيير ملاح الشرموط والكسرة إلى فول ورغيف وعليه لا يتوقع أن نرفض 
الفول الذي نوفر من جله القرشين ولا يتوقع أن يسمع همسا بعد ذلك في موضوع الأكل. 

كانت الدراسة في المدرسة جديدة علينا تماماً. كنت في مدرسة الصقع ۸ أقابل عقابا 


سواء بالجلد أو الجلد من شيخ التجاني كا أسلفت سواء لي أو لغيري على عكس ما كان 


وعلى عكس ما قابلنا في المدرسة الأولية بالنهود إذ كان الجلد فيها كل صباح في 
الطابور اليومي أمراً عادياًء وبالمثل داخل الفصل بالكف. 

وفي إحدى السنتين وصلنا ناظر من رفاعة هو الشيخ يوسف أبو تركي لم يكن 
يستخدم صوت العنج وإن) كان يستخدم رأفة بنا (الطرق) وهو فرع من الشجر الذي 
يستخدم في سقوف الباني» وكان يسميه (الفلکابة) وحتى نستوعب الاسم تکسرت على 


الرؤوس عشرات المطارق. 








مركز محمد عمر پشبر 

أما في مدرسة الدويم الريفية الوسطى والتي كانت تتبع فنياً لعهد (التربية) في بخت 
الرضا فقد كان الضرب أو العقاب البدني منوعا: لا بالكف ولا بالرجل ولا بالسوط ولا 
(بالفلكابة) طبعاً. فقط التربية بالتوجيه والنصح. 

وكان الطالب بعد أن يقبل في الدراسة لا يفصل تحت أي ظوف ومهما ارتكب من 
مخالفة أو جرم فقد كان الشعار الذي رفعه نائب مدير معهد التربية عبد الرحمن علي طه هو أن 
بخت الرضا والمدارس التي تتبعها لا تقوم بتخريج مجرمين إلى المجتمع وعليها تقويمهم متى 
قبلتهم حتى يتخرجوا مواطنين صالحين» بل في حالة المعلمين» تربويين» أما قبل الدخول في 
قائمة الطلبة فإن بخت الرضا لا تضم إليها الصعاليك عديمي التربية. 

وأذكر في هذا الصدد حالتين: الأولى عندما كان الأستاذ ينادي بأساء الطلبة 
المقبولين يردون عند ذكر الاسم بكلمة نعم أو فندي» ولكن أحد المقبولين صاح» وهو من 
کردفان» حبيبي آنا يالبيبي» والبيبي هو نطق للحرفين الإنجليزيين 88 وكانت شعار العربات 
التي يمتلكها في ذلك الوقت باسيلي بشارة 88 صاحب شركة النقل الوطنية التي تم تأميمها 
في مايو 191٠١‏ م. 

فها كان من الأستاذ إلا أن أعلن عن شطب اسمه وأبلغه بعدم القبول وأن المعهد لا 
يدخله الصعاليك من مساعدي سائقي اللواري. 

أما الحادثة الثانية فقد أقدم طالب على (طعن) زميل له بعظم خروف أثناء اشتباك في 
إحدى الرحلات. اختلف الأساتذة في بخت الرضا في (عقاب) الطالب إذ رأى بعضهم أن 
يفصل فهذه سابقة كبرى. غير أن الأستاذ عبد الرحمن علي طه نائب مدير المعهد (المستر 
قريفس) اختلف معهم وأيده في ذلك المدير ذلك أن الطالب كان في السنة الخامسة (قبل 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
النهائية) وقد مكث في بخت الرضا خمس سنوات وفصله يعني فشل معهد التربية في تربيته 
طوال خمسة أعوام ولا يمكن لبخت الرضا أن يتم على یدیا تخريج (مجرم) إلى الشارع وعليها 
مراجعته وتوبيخه وتقويمه. وبالفعل تمت مراجعته ورعايته وطلب منه أن يتصل بأستاذه من 
وقت لآخر في ما يقابله من مشاكل خاصة من زملائه. وقد تخرج وتدرج في وظائف التربية 
إلى أن أصبح (مفتش) تعليم مديرية» أقصى ما يصله في ذلك الزمان. 

كانت على أيامنا تتبع معهد بخت الرضا ثلاث مدارس: مدرسة أولية في قرية شال 
شرق المعهد تسمى مبروكة يدرس فيها بعض طلبة الدويم وآخرون من ضواحيها ويتدرب 
فيها طلبة المعهد ممن هم في السنة السادست والأخيرة» قبل أن يتخرجوا معلمين 
للمدارس الأولية. 

وفي المدرسة الثانية التي نحن فيها يأتينا الخريجون الجدد من المدارس العليا(كلية 
غردون) قسم المعلمين ویقومون. كل في حصة منفصلة بالتدريس على نفس المنهج الذي يتم 
بمعهد التربية في بخت الرضا. 

ولا كان أكثرهم إن لم يكن جميعهم لم يواجهوا طلبة من قبل وفي نفس الوقت ۸ 
يكونوا قد رأوا أستاذاً من المعهد يمسك بكراسة وقلم يرصد كل تصرف منهم أو رد فعل من 
الطلبة وكيفية مواجهته له فان المتدرب كثيراً ما يرتبك وبعضهم يتلعثم ويتصبب العرق منه. 

وقام أكثر من واحد بمسح العرق من وجهه (بالبشاورة) وهي قطعة القماش التي 
تمسح بها السبورة بين ضحك الطلبة وحيرة زملائه والمراقب. ومع ذلك فبعد مضي حوالي 
الشهر وأكثر أصبح الجميع يواجهون الموقف بشجاعة. 


مركز محمد عمر بشير 
أما المدرسة الثالثة فقد كانت تسمى (الدرسة الثانوية الصغری) وكان يقبل فيها 








طلبة لم يحالفهم الحظ للدخول في المدرسة الثانوية الوحيدة التي أنشئت باسم مدرسة 
أم درمان الثانوية قبل أن تنقسم في عام 955١م‏ إلى مدرستين: مدرسة وادي سيدنا الثانوية 
شهال أم درمان ومدرسة حتتوب الثانوية على الشاطئ الآخر من مدينة واد مدني. 

كانت المدرسة الثانوية الصغرى تضم أقساماً عديدة من التخصصات العملية: قسم 
المحاسبة» هندسة ميكانيكية للسيارات» هندسة للجرارات » قسم للزراعة» قسم للبيطرة. 
قسم الطباعة والسكرتارية» قسم للنجارة والسمكرة وغير ذلك. وكان بعض الطلبة یدخحل 
أكثر من قسم. 

ناظر المدرسة كان المستر (لويس براون) الشهير الذي أصبح فی| بعد ناظر حنتوب. 
للأسف لم تستمر المدرسة الثانوية الصغرى أكثر من عامين وتعرضت هجوم عنيف من 
رجالات المؤتمر والحركة الوطنية إذ رأوا فيها قتلاً للطموح سببه فشل الحكم الثنائي في توفير 
فرص للتقدم في التعليم الثانوي. 

ومع قفل المدرسة الثانوية الصغرى تم نقل وتطوير قسم المحاسبة ومعه السكرتارية 
والطباعة إلى ما عرفت باسم مدرسة التجارة الثانوية بأم درمان ونقل قسم الزراعة وهندسة 
الجرارات إلى قسم آخر صغير تطور فيا بعد إلى معهد شمبات الزراعي. 

الوصول إلى الدويم بالنسبة لنا أبناء دارفور وكردفان يكون في فصل الشتاء أو 
الجفاف من كوستي بالسيارات. أما في فصل الأمطار فان القطار يسير بنا متجاوزاً كوستي 


وعمنا يوسف سعد إلى الخرطوم. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وني محطة السكة حديد الخرطوم يقابلنا أحد أستاذة بخت الرضا ليس فقط ليوجهنا 
في الذهاب من المحطة إلى (الأسكلة) بل وليرافقنا في رحلة نيلية على باخرة من (الأسكلة) إلى 
الدويم. فبعضنا يصيبه الرعب من كلمة البحر والخوف من الغرق رغم أن بعضناً أيضاً تعلم 
العوم في حفائر القرى. 

(الأسكلة) لمن لم يسمع بها أو سمع بها في الأغنية الشهيرة من (الأسكلا وحلاً) هي 
الميناء النهري الذي تبحر منه البواخر النيلية إلى الدويم»كوستي» الكوة وإلى آخر المحطات 
التي رصلتها الأغنية. وتقع أمام ما كان يعرف بمخازن السكر وهي الآن متحف 
السودان القومي. 

الوصول إلى الأسكلة وبقيادة أستاذ المعهد يتم على مراحل: من حطة السكة الحديد 
بالخرطوم إلى المدرسة الأولية: مكان برج البركة الحالي حيث نضع أمتعتنا ا مكونة من شنطة 
حديد صغيرة للملابس ولحاف خفيف من القطن لمن استطاع إليه سبیلا وكذلك سبت 
أو(قفة) بها زاد السفر الذي أسلفت الإشارة إليه. 

ونجد في انتظارنا رغيفاً حشواً بجبنة وطحنية معا مجلس الطلبة معا في سطح الباخرة 
أو الوابور النهري صفوفاً متراصة حسب الناطق التي أتوا منها. وعند مواعيد الوجبات 
تخرج کل جموعة زادها وتلتف حوله في دا . 

ولسوء حظ آحد آبناء کردفان فان زاده قد نفد ونسی أن حتاط هو وجموعته وفي 
لحظة حيرة لمح مجموعة من ثلاثة» عرفنا فیما بعد أنهم من شندي لدیپم (دجاجة) فذهب 
طالباً أن یقسموا لهم منها وهم قلة يكفيهم نصفها ولکنهم تجاهلوا طلبه فی) كان منه إلا أن 


۱:۳ 





۰ ھ 
مرکر محمد عمر بسير 
الأستاذ في الوقت الناسب. واستلم الدجاجة. 





سأل الخاطف عن اسمه ووجهته فآخبره أنه ذاهب للامتحان في بخت الرضا 
ليتخرج عل وسال زعیم آیناء شندي فأخيره بأنه ذاهب أيضاً للامتحان لیتخرج معلاً. هنا 
صفق الأستاذ يديه فأنصت الجميع: وقال إن شاء الله بعد كم سنة سوف تتخرجون معلمين 
وتتفرقون في أنحاء السودان الختلفة ثم يقابل بعضكم بعضاً وقد تنسون الأسیاء فيسأل 
سائل ويرد عليه زميل قائلاً: نسيت فلان يا أخي دا الخطف الدجاجة في الوابور» وقد يكون 
التساؤل بالعكس فيرد آخر: يا أخي دا شيخ الجاعة البخيلين بتاعين الدجاجة. يا أبنائي 
تعلموا من الآن كيف يجود بعضكم على بعض والزاد القليل يكفي الجميع. وبارك الله في 
طعام كثرت فيه الأيادي. من الآن أجمعوا كل قفف الزوادة عندي ووقت الوجبات 
تتقاسمون طعامکم جميعأء دي رحلة واحدة والزمن طويل هكذا أساتذة معهد التربية في 
بخت الرضا. 

ونعود إلى مدرسة الدویم الريفية الوسطی والتي كانت بجانب تدریب المدرسين 
فیها كان يتم فیها كما آسلفت اختیار الناهج الجديدة. بعض المدرسين استمروا معنا في 
الدرسة بعد التدریب بالاضافة إلى الذين کانوا معنا وآذکر دون حصر الاساتذة رحمة الله 
عبدالله» محمد عبدالّه نور» أحمد محمد سعد» محمد توفیق آمد»حسن عباس» محمد خوجلی 
محمد جبارة العورضء إبراهيم محمد علي نمر» حسن أحمد امحاج» شريف خاطرء المستر بيتر 
هولت وقد كان يدرسنا تاريخ الإنسان الأول باللغة العربية الفصحى ويصاح أخطاءنا في 


سسحت المريرة مذکرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
الذين فصلوا من الخدمة العسكرية دون أن يسجن واستقر في بلدته الدويم معلا ويدير 
مشروعاً زراعياً ناجحاً. 

كان (ضابط المدرسة) طوال سنواتنا الاربع عبد الرحمن أحمدعيسى (آول ناظر 
لمدرسة القولد الأهلية الوسطى) بینا نقل الناظر الشيخ مصطفی الذي اشتهر باسم شيخ 
الشیخ» وجاء بعده محمد أحمد عبد القادر بعد وصولنا بقليل. 

ومن الأساتذة الذين استقروا في ذاكرتنا لفترة طويلة محمد عبدالله نور أستاذ 
العلوم(الطبيعية) الذي ذكر أن (عصا موسى) ربا كانت نوعاً من ثعبان (الكوبرا) والمعروفة 
عندنا في كردفان باسم (النوامة) لأنها تنام فترات يظنها الإنسان ميتة فإذا أفاقت من نومها 
تكون في حالة من الجوع تلقف ما حوها. 

ولم يؤد حديث الأستاذ محمد عبدالله نور إلى إثارة أو تكفير وسطنا بقدر ما تقبلناه 
كنوع من أحاديث التاريخ لا الطبيعة أو الدين. ثم سرعان ما نسيناه بعد أن سافر في بعثة 
إلى بريطانيا. 

والأستاذ الثاني هو أحمد محمد سعد الذي كان يشرف على داخلية (المنفى) التي ورد 
ذكرها ويسكن في غرفة تبعد نسبياً عن الداخليات. وكان عازفاً ماهراً على آلة (الكمان) وكنا 
نذهب مع بعض طلبة المنفى والديرية الشمالية للاستاع ولتابعة نقاشنا في حصة الطبيعة التي 
يدرسها لنا في أن الماء البارد والثلج ليست لما درجة (برودة) وإنما درجة (حرارة) ويظل 
يشرح ونجادل وهو يبتسم إلى أن كبرنا وعلمنا أن درجة الحرارة تعكس في أدنى 


مستواها (برودة). 








مركز محمد عمر بشير 

ثم غادرنا مع محمد عبدالله نور إلى بعثة في بريطانيا غير أنه حكى لناء وهو يودعنا في 
EE‏ مایق لبان ات میا میا تا انا 
على مدى آسبوع کامل یدعوه وزملاءه السافرین في البعثة إلى منزله للعشاء معه ویشرح هم 
عادات الا کل في بريطانياء وكيفية وضع الشوكة والسکین واللعقة في تربيزة السفرة ثم كيفية 
استخدام السکین بالید الیمنی والأكل بالشوكة بالید الیسری وشرب الشوربة باللعقة دون 


احداث صوت. 
آما الشاي فیتم صب الشاي آولاً ثم اللبن» ونفس الشیء بالنسبة للقهوة قهوة 
باللبن» نعم هکذا في بریطانیا. 


كما آوضح لهم أن الحديث وكذلك الضحك في بريطانيا على قدر ما یسمع الشخص 
المخاطب. أن كل شيء بالطابور لا يتخطى أي شخص دوره في أي مكان. 

كما أن الشخص يدفع حسابه في المطعم أو المقهى إلا إذا كان هناك اتفاق قبل ذلك أو 
دعوة» ولا مكان لأن يحلف واحد على دفع حساب آخر. 

وني العادة فان أي إنسان يخدم نفسه بنفسه وقلا يوجد (خدام) آو(خدامة) إلا لدى 
الطبقة الأرستقراطية التي يشاهدونها في الأفلام السينائية» ولا ينسى أي منكم كلمة شکرا 
كلما قدمت له خدمة أو كلمة آسف إذا أخطأء وآهم شيء المواعيد بالدقيقة. 

وبعد أن تأكد مستر(قريفث) أن أبناءه وزملاءه قد أتقنوا عادات المائدة والبلاد 
ودعهم بأطيب التمنيات ذاكراً لهم أنه لا يريد أن يقال أن معلمين حضروا من السودان وهم 
يجهلون أبسط قواعد الأكل والسلوك فيكونون مكان سخرية. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

ومعلم آخر كان دائاً يبهجنا بحديثه ونكاته هو محمد توفيق أحمد إذ : أنه يدرس 
منهجاً جديداً في اللغة الإنجليزية رأت بخت الرضا بعد انتقاد المعلمين له أن تلغيه وتسحب 
الكتب من مکتبتنا. 

يسمى المنهج (تعلم الإنجليزية بالتحدث to speak by speaking‏ «مندع.1) دون 
استخدام قواعد اللغة الإنجليزية العروفة باسم 6153232125©. 

ويظل محمد توفيق يشرح بأن تكون لكل منا أذن تميز الجملة الصحيحة وترفض 
الخطأً. وبعد جهد منه ومنا تعلمنا أن نتحدث الإنجليزية ونکتب موضوعات الإنشاء دون أن 
نتعلم القواعد ونادراً ما كنا نخطی. وقد ساعدتنا على ذلك قراءة مستمرة في كتب مبسطة من 
مكتبة الدرسة بمعدل كتابين كل أسبوع. 

ولم نشعر بأننا فقدنا شيئاً إلى أن جاء امتحان الشهادة السودانية إذ كان هناك سؤال 
عن القواعد ومع أنه كان إختيارياً من بين ثلائة أسئلة وكان علينا أن نجيب على سؤالين إلا 
أننا وجدنا أنفسنا مع سؤالين إجباريين. 

وبسرعة تدارك الناظر محمد أحمد عبد القادر الموقف ولفت نظر مراقب الامتحانات 
الذي أرسله مكتب بخت الرضا وكان نصر الحاج علي وطلب منه أن يبرق مصلحة المعارف 
لتراعي وضع دفعتنا عند تصحیح ورقة اللغة ال نجليزية. ۱ 

حمل توفيق كان أيضاً (آبو الفصل ۷۵506۲ 0۳) وکانت هناك حصة في الأسبوع 
يتواصل فيها أبو الفصل مع الطلبة في حديث عام ونقاش دون جدول أعمال. وكانت فرصة 
ليحرك مواهب الطلبة ویتعرف عليهم عن قرب لأنه سيكتب تقريراً عن كل واحد نهاية كل 
فصل درامي يرسله إلى ولي أمر الطالب مع تقارير آخری عن أدائه في الواد الدراسية. 


۱:۷ 








مركز محمد عمر بشير 
وني أواخر العام قرأ علينا محمد توفيق تقريره عن كل منا ولما جاء دور موسى عوض بلال: 
وين موسى؟ كتبت عنه: لا تكاد تشعر بوجوده في الفصل. ثم صاح فيه: قيام . جلوس... 
وطلب منه أن يشارك في الحديث والجدل. 

ومن يومها تقمصت موسى عوض بلال حيويته التي عرف بها طوال حياته 
وأعجب به محمد توفيق في العام التالي إلى أن آرادت الأيام أن يتخرج موسى من جامعة 
الخرطوم ويتقدم للخدمة في مصلحة العمل ومديرها محمد توفيق فلم يتردد في اختياره وظلا 
في تفاهم إلى ان أحيل محمد توفيق إلى المعاش بسبب مشاركته في مظاهرة احتجاج ضد قرار 
حكومة الرئيس عبود بالموافقة على نقل سكان وادي حلفا إلى خشم القربة بسبب قيام السد 
العالي بمصر. 

وكان لرحمة الله مكان خاص في المدرسة إذ هو المشرف على كل نشاط الطلاب 
التمثل في(الجمعيات) والکنتین والجمعية العمومية. 

وقد سبقت الإشارة إلى الكنتين وبه كل مستلزمات الداخليات من سکره وشاي 
وعدس وفول مصري وزيت وبصل ...إلخ وهو تحت إشراف أحد الأساتذة وقد كان 
رحمه الله عبدالله. ويختار الأستاذ أحد الطلبة ليتولى الإدارة اليومية وأذكر أنه كان الاختيار في 
أيامنا على بدر الدين يوسف هباني: ابن ناظر الحسانية بالنيل الأبيض- الدويم. وكانت 
الدرسة تدار بواسطة (جمعيات) هي: الثقافة وتقوم بتوفير الجلات وتشمل مجلة الطالب 
والثقافة والرسالة (وقد كانتا تصدران في مصر حتى عهد عبد الناصر) والمختار من ريدرس 


دايجست والمصور والتي كان الاشتراك فيها يثير جدلاً كل عام باعتبار كثرة ما تحتويه من 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
(صور) غير أن الغلبة تكون في النهاية لصا حها باعتبار أن الصور هي من صميم العلومات 
التي تحتويها وتجعلنا نطلع على ما لا نراه في الحديث الکتوب. 

وجمعية الصحة العامة كانت تشرف على قيام النوبتجية بنظافة الداخليات ثم تكليف 
البعض بنظافة فناء المدرسة ورش مبيد على مياه جدول صغير يمر بالمدرسة يسقى ماؤه بعض 
الزهور والأشجار. 

أما جمعية المحاضرات والناظرات فتقوم مرة كل أسبوعين بتقديم محاضرة أو 
مناظرة» المحاضرة تكون مكتوبة أما المناظرة غير مكتوبة مما يجعل المتناظرين يقومون: 
بالإعداد الجيد لما يقدمون من حجج. 

وني نباية المناظرة يتم التصويت على الموضوعين المطروحين. ومرة كل شهر تعقد 
(ليلة قبعة 21812 :132) فتوضع قبعة وما كان أكثر استعمالها وسط المعلمين وموظفي ال حكومة 
وبداخلها أوراق كتب عليها رؤوس موضوعات. 

ويقوم سكرتير الجمعية باختيار طلبة من كل الفصول الأربعة بحيث يكون من 
نصيب كل طالب أن يدخل يده في القبعة ويختار موضوعاً يتحدث عنه ارتجالاً لدة ثلاث إلى 
حمس دقائق وباللغة العربية الفصحى: والحديث باللغة العربية الفصحى يكسر حاجز 
اللهجات المحلية التي نأتي بها من كل أنحاء السودان. 

وتثير ليلة القبعة الكثير من المرح ولكنها كانت ضرورية لكسر رهبة مواجهة جمهور 
الطلبة والتحدث في الا جتاعات ومواجهة المجتمع العريض في) بعد. 


مركز محمد عمر بسير 








وهناك جمعية الداخليات وهي تعني بالمرور على كل داخلية للتأكد أن الأدوات 
النزلية المستخدمة في الأكل والشرب كاملة العدد وفي حالة طيبة وكذلك الأسرة والدواليب 
كا تتلقى الشكاوي عن (الطباخات) اللآئي يشرفن على إعداد الأكل كأ وكيفا. 

ويقضي مندوب من الجمعية كل مساء فترة ليتأكد أن متعهد توريد اللبن يصرف 
لكل داخلية الكمية المقررة. 

هذه هي الجمعيات التي يديرها الطلبة إدارة مباشرة غير أن هناك جمعية هامة أخذت 
منها المدرسة اسم (الريفية) وهي نادي صغار المزارعين كا كانت تسمى. وبالرغم من أن 
هذه الجمعية رئيس وسكرتير وأمين مال من الطلبة إلا أن الإشراف العملي والفني عليها من 
أحد موظفي مصلحة الزراعة ولقبه (الخولي) تقوم الجمعية على أساس أن للمدرسة أرضاً 
زراعية تتخللها ترعة رئيسية وجداول ري صغرى ومقسمة إلى حيازات كل منها تسمی 
(أنقاية) ويمنح كل طالب مساحة يزرعها قطن وأخرى ذرة وتترك الثالثة (بوراً) أسوة بها هو 
معمول به في مشروع الجزيرة في ذلك الوقت من دورة زراعية ثلاثية: و(الخولي) زراعي 
بالخبرة يعمل في مصلحة الزراعة ويشرف على إحضار التقاوی ویراقب قيام الطلبة بالزراعة 
وبنظافة الحشائش و(شلخ) القطن. 

ويتسلم الخولي القطن آخر الموسم من كل طالب وكذلك الذرة في سنابلها وتقوم 
الصلحة بعملية حليج القطن ونظافة الذرة وتحفظ حساباً منفصلاً لكل واحد من (صغار 
المزارعين) ويتراوح دخل الواحد منا في الموسم ما بين خمسين قرشأ إلى ثلاث أو أربع جنيهات 
في حالات نادرة حسب إنتاجه ويكون فرحاً وسعيداً يوم وصول الخولي وتسليمه المال 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
والكشف إلى لجنة نادي صغار المزارعين لتتولى الصرف. وقد كان لي شرف تولي منصب (أمين 
الصندوق) وأنا في السنة الرابعة. 





خلال دراستنا كانت تتم انتخابات سكرتيري الجمعيات كل عام بانتظام ويشترك 
فيها كل الطلبة قدامى وجدد ويقوم الأستاذ المشرف على الجمعيات بوضع مواصفات لكل 
سکرتیر غير أن آهم المواصفات التي يضعها لاختيار رئيس الجمعيات أو رئيس الجمعية 
العمومية والذي يدعو لاجتاعات مرتين أو ثلاثة في السنة ليعرض فيها لكل سكرتير أداء 
جمعيته ومناقشته ونقد الأعضاء له. 

وفي إحدى المرات قدم أحد الطلبة وكان أديباً ومتحدثاً اسمه محمد أحمد إدريس وكنا 
رغم وسامته نلقبه (امحاحظ) تقدم باقتراح سحب الثقة من سكرتير جمعية الثقافة (عبد السائر 
محمد عبد السائر) لأنه تأخر في تحويل اشتراكات الجلات خاصة الطالب والتي كانت تحظى 
باهتیام الجميع لما فيها من مسابقات ومجلة المختار لا فيها من موضوعات متنوعة وحية. 

دار النقاش طويلاً وأخيراً تم التصويت وفاز الاقتراح. وبفوزه كان على رئيس 
الجمعية العمومية وأذكر أن اسمه كان عبدالله قش. وكان على الرئيس أن يقبلها ويفتح باب 
الترشيح لسكرتير جديد بعد يومين غير أن عبدالله قش أعلن تضامنه وتضامن جميع 
سكرتيري الجمعيات مع زميلهم وتقدم باستقالته للجمعية العمومية. 

وكان موقفاً صعباً وجديداً علينا وعلى المدرسة كا علمنا إذ إنها المرة الأولى في تاريخ 
المدرسة بل وفي تاريخ معهد بخت الرضا أن سحبت الجمعية العمومية الثقة من سكرتير وأن 
تستقيل كل (الوزارة) وسرعان ما تدخل الأستاذ المشرف على الجمعيات رحمة الله عبد الله 





مركز محمد عمر بشير 
وآفتی» ربا نقاذاً للموقف. أن القرار ينسحب على السكرتير وحده وأن يستمر الرئيس 
وجميع (وزرائه) في العمل. 

وحتى لا يتم إنتخاب محمد أحمد إدريس أو غيره سكرتيراً للثقافة لا ينسجم مع 
المجموعة الموجودة طلب أن يكلف رئيس الجمعية العمومية أحد زملائه بتولي أمر جمعية 


الثقافة حتى نباية الدورة» وقبلنا جميعاً رأي الشرف. 





لقد كان ما حدث درس بليغ في الديمقراطية والمسئولية سواء كانت فردية أو جماعية وفي أول 
حصة ل (آبو الفضل) كان الحديث عن ما حصل في الجمعية العمومية وأن كلا القرارين كان 
صحيحاً ولكن قرار المشرف أيضاً صحيح حفاظاً على الاستقرار في المدرسة. 

وتذكرت ما حدث عندما سقط إقتراح ميزانية الدولة في الشهور الثلاثة الأول 
للحكومة الوطنية التي جاءت بالاستقلال أن تقدم رئيس الوزراء إس|عيل الأزهري رغم أنه 
لم يكن وزير الالية باستقالته للحاكم العام البريطاني والذي كلفه بإعادة تشكيل الوزارة مرة 
أخرى ففاز بثقة البرلمان. فالميزانية هي ميزانية (الحكومة) وليست قرار وزير المالية ولذا فان 
سقوطها هو سقوط سياسة الحكومة المالية ويتوجب على الرئيس في النظام البرلماني الاستقالة. 

وتذکرت نفس الموقف أيضاً عندما رفض لي البرلمان عام 1975م اقتراحاً بإنشاء 
شركة وادي النيل لما وراء البحار فتقدمت باستقالتي من الوزارة وكعادة الرئيس جعفر 
نميري الذي لا يقبل الاستقالات فقد أعلن أنه أعفاني من الوزارة. 

شركة وادي النيل ستكون موضوع فصل خاص إذا إمتد بي العمر لكتابة حقبة 
مايو 1979 م. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وتأكيداً للوضع (الريفي) للمدرسة فان جميع الطلبة خارجيين وداخليين يقومون 
برحلتين كل عام إلى ريفي مدينة الدويم وينقسم الطلبة إلى مجموعتين: الداخليات الجنوبية 
ومعها داخلية المنفى ونصف الطلبة الخارجيين والداخليين والداخليات الشالية ومعها 
داخلية العراء ونصف الطلبة الخارجيين. 

ويشرف على كل مجموعة إثنان من الأساتذة وهما اللذان يختاران موقع الرحلة الذي 
يبعد في العادة وفي فصل الخريف حوالي عشرة كيلومترات من مدينة الدويم يحمل الطلبة على 
ظهورهم الخيام والبطاطين دون اللحفات واحتياجات الأكل من الكنتين كالعدس والفول 
والبصل والزيت والسكر والشاي والشطة والملح وباختصار كل شيء إلا الدقيق. أما في 
الشتاء فيبعد مكان المعسكر أكثر من ذلك. 

وبعد الوصول إلى مكان المعسكر الذي يبعد حوالي كيلومتر عن قرية كبيرة من قرى 
مدينة الدويم مثل عد العود أو عرشكول (وهو اسم جبل) تبدأ السابقة بين الداخليات في 
نظافة أرض المعسكر ثم في نظافة موقع الداخلية الذي تنصب فيه الخيمة. 

ويبدأ الجميع في إعداد وجبة الإفطار كل في داخليته والتي غالبا ما تكون في أول يوم 
من العدس إلى أن يتم (بل) الفول ليسهل نضجه لوجبة أخرى. ثم يرسل الأستاذ المشرف 
إثنين من كبار الطلبة إلى القرية لإحضار الرغيف واللحم. 

تعرف القرى التي يعسكر فيها طلبة الريفية أنهم يحتاجون السلعتين فينشط الجزار 


وبعد الإفطار تبدأ أول مسابقة يقودها الاستاذان وأحد رؤساء الداخليات من 


الطلبة لاختيار أنظف داخلية من حيث الخيمة والوقع والأواني المنزلية» ومن حيث النظام في 


۱۰۳ 





مرکز محمد عمر بسير 
الطريق بين باحة المعسكر والخيمة وغير ذلك من المعايير التي تحكمها طبيعة منطقة العسکر 
كالاستفادة من الأشجار الكبيرة ظلاً لها وهكذا. 





وفي العصر بعد الغداء تكون هناك ألعاب رياضية: كرة قدم على خفيف/ ولعبة 
39 ر(راوندرز) التي لا نارسها إلا في الرحلات وتكون أول ليلة راحة من حيث 
النشاط ولكن تبدأ في الساعة العاشرة مساء (حراسة المعسكر) وحراسة (علم) الداخلية إذ إن 
لكل داخلية (علم) لا نتذكره إلا في المعسكر. 

توقد النار وسط باحة العسکر وينام الطلبة حوها الا من أربعة من الحراس يتبادلون 
الحراسة كل ساعتين بترتيب سابق. وعلى بعد قريب من المعسكر يوجد معسكر للداخليات 
الأخرى يسير بنفس النظام. وني حوالي الساعة الواحدة أو الثانية صباحاً تبدأ عملية ما يعرف 
باسم (سرقة العلم) إذ يتسلل بعض الطلبة من أحد المعسكرين إلى العسکر الآخر في حظة 
يتوقعون فيها إما غفلة الحراس أو غفوتهم فيسرقون العلم الخاص بالداخلية ويعودون به إلى 
معسکرهم. 

فاذا | يلحظ ا حرس الواقعة كانت الهزيمة التي تلاحق العسکر ليومين أو ثلاثة على 
الأقل: إما أن يسترد خلاهم| علمه المسروق ومعه بالطبع علم المعسكر الآخر لاغهیا يكونان 
مرفوعين جنباً إلى جنبء أو يقوم الأستاذ الشرف باسترداد العلم ويكون في توبيخه لكل 
العسکر درس لا ينسى. 

غير أنه في معظم الاحیان يصحو الحرس أو بعض الطلبة بحركة التسلل وتبدأ 


مطاردة المغيرين» ومن يلحقون به يؤخذ أسيراً ولكن المطاردة تركز دائ) على حامل العلم 


١ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
المسروق الذي يرمي به إذا شعر أنه سيقع أسيراء في حالات نادرة يتم اشتباك وتبادل ضربات 
ولکات. 

ويي حالة واحدة وهي التي رویتها بالعقاب البدني الذي تعرض له طالب واحد 
طوال سنوات الدراسة قام الطالب العني بحمل (عظم) سنین طعن به سارق العلم ما آدی 
إلى علاجه ثم العقاب الذي آشرت إليه في الحديث عن بخت الرضا. 

وفی خلال ساعات النهار یکون هناك نشاط أدبي في تحرير مجلة أو اکثر للمعسکر من 
بعض الموهوبين وفي التدريب على آغاني ودوبیت وروایات تکاد تحضر في کل ليلة. 

غير أن أهم ما تشمله الرحلة كل ليلة تقريباً تعريف الطلبة بأنفسهم لبعضهم البعض 
والتعريف بمناطقهم التي أتوا منها.فالرحلة هي الفرصة النادرة التي تجمع الطلبة من 
الداخليات والطلبة من الدويم ببعضهم البعض في جو بعيد عن الرسميات وفي إطار أخوي 
حقيقي إذ إنه حتى بعض طلبة الداخليات لا يلتقون مع بعضهم البعض مثلا يلتقون 
في الرحلات. 

كا سبق القول فان المدرسة كلها تقوم برحلتين أثناء العام الدراسي» واحدة في 
أواخر الشتاء» مارس والثانية في أواساط فصل الأمطارء أغسطس. 

رحلة الشتاء مريحة ونعيش فيها أياماً مليئة بالحركة والنشاط دون مضايقة تذكر من 
الطقس. أما رحلة الخريف فيتخللها الكثير من المعاناة والتي قد تبدأ قبل أن تنصب 
الخيام:عاصفة أو تراباً أو مطرا أو الثلاثة مجتمعة. 

وبقدر ما يتحمل أبناء دارفور وكردفان وأواسط السودان الأمر بقدر من الصبر 
لسابق معايشة بقدر ما يعاني آبناء الشمالية والدويم لأول خبرة. 


۱ ۵ ۵ 





مركز محمد عمر بشير 

ولكن بعد السنة الأولى فإن الجميع يتحملون نفس المشقة والأستاذ المشرف يراقب 
ويكتب الشکوی والتبرم خاصة من الجوع بسبب ابتلال حطب الحريق بالماء بل 
وأحیاناً الكريت: 

وهنا تبرز الخبرة إذ غالبا ما يحتفظ ذووها بقدر من الحطب والكبريت في حرز بعيد 
عن البلل في الخيمة والداخلية التي بها مثل هذا النفر غالباً ما تمنح الجائزة الأولى في خباية 
المعسكر حتى ولو لم يكن أداؤها الثقاني في التمثيليات أو جريدة (الحائط) متفوقاً بدرجة كبيرة 
فالأولوية هنا للاستعداد للحياة الريفية وليس للثقافة رغم أهميتها لأن مكانها الأول هو 





الرس 

وبما أن المدرسة قائمة على (التربية) التي يرعاها معهد التربية في بخت الرضا فان 
الرحلات هي أيضاً مناسبة يرعى فيها الأساتذة المشرفون أبناءهم الطلبة ويوجهونهم 
ويدرسون أحوالهم وظروفهم ويكتبون عنهم التقارير الدورية التي تقرأ داخل كل فصل مع 
نباية كل فترة دراسية» وهما فترتان في العام: نصفه وآخره» وترسل إلى أولياء الأمور. 

فمدرسة الدويم الريفية الوسطى ليس بها نظام امتحانات: لا اختبارات ولا نصف 
سنوية ولا آخر السنة. المدرسة كلها قائمة على علاقة وثيقة بين الأستاذ في كل مادة ويشجع 
الآخرين للمزيد ويكتب عنهم التقارير آخر كل فترة وترسل إلى أولياء الأمور وينقل الطلبة 
آخر العام إلى الفرقة التالية. 

هكذا كان أمرنا: لا توجد امتحانات» تشجيع في الاعتماد على النفس في النهوض بها 
أخلاقياً علمياً بل وني الاعتماد على النفس أيضاً ما أمكن في الحصول على دخل سنوي يصرف 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
مرتين في العام من الزراعة التي يرعاها نادي صغار المزارعين ويشرف عليها (الخولي عبدالله) 
من مصلحة الزراعة. 

هكذا كنا إلى أن جاءنا ناظر المدرسة محمد أحمد عبد القادر ونحن في نباية السنة 
الرابعف نهاية المرحلة الوسطى معلناً أن الإمتحان للمدرسة الثانوية- حنتوب- سوف يكون 
بعد شهرين. 

وبا آننا طوال أربع سنوات لم نتعرض لاي امتحان» ولم نعش جو الامتحان فإنه 
سوف يقوم كل أسبوع بتجربة امتحان في جميع علوم ومواد الشهادة وهي اللغة الإنجليزية 
واللغة العربية والدين الإسلامي والجغرافيا والتاريخ والحساب. 

وأخبرنا أنه سوف يحضر شخص اسمه (المراقب) من خارج أساتذة المدرسة ومعه 
ظرف مقفول به أوراق الامتحان ويفتحه أمامنا بحضور الناظر ويوزع علينا الأسئلة. 

ولكل مادة زمن محدد للإجابة ولا يسمح للطالب بالخروج قبل منتصف الزمن» ثم 
يعلن المراقب أنه بقى من الزمن كذا دقيقة» غالباً نصف ساعة ثم ربع ساعة» ثم حمس دقائق 
ثم توضع الأقلام 0۷ ۳۵5 ولا يسمح بعدها بالكتابة ونقوم بتسليم آوراقنا للمراقب. 

كانت الاسئلة ک| علمنا من أسئلة امتحانات سابقة ولكن وجود أشخاص غريبين 
عنا في كل امتحان كان مصدر رهبة تساوي رهبة الحو الذي خلفته كلمة الامتحان فينا خاصة 
وأن أول مراقب كان مفتش المركز البريطاني بنفسه المستر فيلبس والذي جاءنا بعد حوالي 
أربعين عاماً سفيراً للمملكة المتحدة بالسودان. 

وبعد الأسبوع الثالث زالت الرهبة وتعودنا على الامتحانات وأجوائها وعلى 


الراقبین وأشخاصهم ولم نعرف قدر ما أسداه لنا الناظر محمد أحمد عبد القادر الا بعد أن 


۱5۷ 


مركز محمد عمر بشير 








خضنا تجربة الامتحانات الحقيقية ووقف آمامنا لدة حمس أيام متلاحقة أستاذ سوداني صارم 
كان في بخت الرضا ثم عاد منتدباً من مصلحة المعارف عرفنا فیما بعد أنه نصر الحاج علي 
الذي كان آول مدير سوداني لكلية الخرطوم الجامعية ثم جامعة الخرطوم. 

وفي مناسبة سابقة بقة ذكرت فضلا آخر للناظر محمد أحمد عبد القادر عندما أخطر مدير 
معهد بخت الرضا ومدير مصلحة العارف بالخرطوم أن (دفعتنا) لم تدرس قواعد اللغة 
الإنجليزية 0130285 وأن هذا كان سبب تجربة حديثة في تدريس اللغة الإنجليزية أجر 
ميا ركاب زاس از موی ی یا نی الا 
الذین درسوا قواعد اللغة. 

وقبل أن نغادر الرحلة الوسطی في دیسمبر۱۹6۷م لابد أن آذکر آننا احتفلنا في 
المدرسة صباح یوم بعید النصر إذ آعلنت الانیا النازية آنها قد استسلمت للحلفاء: بریطانیا 
وفرنسا وآمریکا والاتحاد السوفيتي دون قيد أو شرط. كان ذلك في مارس ١9505‏ م. 

وبعد أسابيع كانت مدينة الدویم تموج بحركة غير عادية في نادي الوظفین وأن هناك 
خطباً وقصائد وحدیثاً لم نتفهمه في وقتنا ولكن علمنا أن مؤتمر الخريجين بدأ يذكر حكومة 
بريطانيا بوعدها أن تعطي الاعتبار الكافي 002510658802 6ن« لطالب السودانيين في 
الحرية بعد انتهاء الحرب وفي تقرير المصير. 

ک| علمنا أنه كان هناك لفت نظر من مفتش المركز لكل من الأستاذ محمد توفيق 
والأستاذ محمد جبارة العوض بسبب كلات ألقيت في النادي. كما كان هناك عتاب رقيق 
للناظر محمد أحمد عبد القادر لأنه لم یژاخذ أياً منهیا. محمد توفيق سبقت الإشارة إليه 


ومعروف أكثر في الحياة العامة السودانية إذ آشرف بعد العمل الحكومي على إنشاء وإدارة 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
شركة التأمينات العامة ثم وزيراً للإعلام في حكومة انتفاضة أبريل 986١م‏ وكاتباً لعمود 
باسم: جمرات. آما محمد جبارة العوض فقد كان من أشجع وأنقى شباب الحزب الوطني 
الاتحادي وكان وزيراً في حكومة أكتوبر وتوف مبكراً: عليه الرحمة واشتهر عندما تقدم قطاراً 
حملا بالثوار من كسلا إلى الخرطوم دع) للثورة في أكتوبر ١94715‏ م ضد حكومة ۱۷ نوفمبر. 

محمد أحمد عبد القادر كان يبتم كثيراً بالمواصلة مع الطلبة ويزور الداخليات مرور 
الكرام کا يقولون قبيل صلاة الجمعة كل أسبوع يتحدث ألينا ويحثنا على اللحاق به في 
المسجد وتغاضى يوماً عن (رائحة الخمر) كانت في إحدى الداخليات بطلها إما عبدالله زكريا 
أو مهلب عبد الرحمن علي طه ابن نائب مدير بخت الرضا. 
وفي الحالات التي يجد فيها الفرصة لمخاطبة المدرسة في حالة زيارة شخصية تربوية أو خلافها 
كان يشدد على نبذ القبلية وإعلاء كلمة أنا سوداني. 

وني مرة زار المدرسة معالي هدلستون باشا حاكم عام السودان وقد كان قبل ذلك 
القائد العسكري الذي كان على رأس قوة دفاع السودان وفتح دارفور عام ٩۱۹۱م‏ وضمها 
إلى السودان (السودان الانجليزي المصري) وقتل السلطان علي دينار رمياً بالرصاص وهو في 
مصلاته مستقبلاً القبلة. 

قام هدلستون باشا بالرور على الفصول وعند دخوله یقوم الطلبة احتراماً له ویلقی 
نشید من آحد الفصول. وقد كان هناك طالب في الفصل الذي يسبقنا اسمه (مزمل سلییان 
علي دینار) وهو حفید سلطان دارفور الذي قتله هدلستون باشا. وقد كان یعلم بوجود 
الطالب عند دخوله الفصل ولا جلس الطلبة بعد عملية القیام المعتادة نادی الناظر على مزمل 


بالوقوف فوقف. 


۱۰۹ 








مركز محمد عمر بشير 

تقدم منه الحاكم العام ومد يده إليه قائلا السلام علیکم. لم يرد مزمل السلام وم يمد 
يده نحو الحاكم العام الذي استقبل الحدث بالبرود الإنجليزي المعروف وغادر الفصل وترك 
مزمل واقفاً وعيناه تدمعان. 

بعد أن ودع الناظر الحاكم العام عاد إلى الفصل وقال مخاطباً مزمل: عافی منك راجل 
ود أمير ود سلطان. 

كنا نزور بخت الرضا مرة كل شهرين أو ثلاثة لحضور مناسبات ثقافية منها 
محاضرات قيمة من كوكبة من الاساتذة الذين تزخر بهم أو مناظرات شيقة أو روايات ذات 
مستوى عال. أو مباريات تنظم بين الفرق بالدويم: الوطن والشباب وفرقة بخت الرضا. 
وفي عام 5 945١م‏ كان هناك احتفال غير مسبوق بالعيد العاشر لتأسيس معهد التربية في قرية 
بخت الرضا شمال الدويم إذ كان ذلك في ۱۸ آکتوبر عام 975١م‏ : عام بعد ميلادي كما 
تقول شهادة تقدير عمري بأني من مواليد أول يناير ۱۹۳۳ م. 

وقد دعى لحضور الحفل عدد كبير من خريجي بخت الرضا عن طريق(القرعة) 
ومعهم الأساتذة الذين أسسوا المعهد والذين جاءوا من بعدهم اللهم إلا من لم تمكنه ظروف 
قاهرة من الحضور. 

وقد سرني مقابلة أستاذي بمدرسة النهود الأولية مهيد بانقاء والذي أشرت من قبل 
أنه كان يرتدي (الرداء والقمیص) (تماماً مثل مفتش المركز البريطاني). 

ولم ينس الأستإذ إن يسأل تلميذه عن مشاركته في الأنشطة والمسابقات العديدة التي 
زحمت أيام الاحتفال السبعة» وقد لامني عندما عرف أنني اشتركت فقط في مسابقة واحدة 


هي تقدير خمس دقائق من الزمن» وقام بتوجيهي أن المساهمة في النشاطات الحية والتي تبرز 








السيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
شخصية الطالب تمثل نصف الدراسة في بخت الرضا وأنه علي أن أساهم مستقبلاً في أنشطة 
أكثر حيوية. 

وهكذا لا ينسى المعلم خريج بخت الرضا تلميذه ولو لم يكن في مرحلته الدراسية 
وقد كان هذا بالفعل ديدن كل المعلمين في الماضي إلى أن جار عليهم الزمن. 

وكان أبرز ما لفت نظري التمثيليات التي شارك فيها طلبة المعهد والمعلمون 
والخريجون والأستاذة الكبار أمثال عبد الرعمن على طه نائب مدير العهد. وكانت هناك 
مسابقة في الشعر بين الطلبة» وأذكر أن القصيدة التي فازت كانت للشاعر إدريس جاع 
وكانت عن استرداد مدينة كسلا من احتلال إيطاليا لما خلال الحرب العالية الثانية 


(۱۹۵-۱۹۳۹م): 


جاء البشير مهللا ومكبراً 
كسلا استردت بعد طول عراك 
فسرى السرور على البلاد جميعها 
كالكهرباء سرت بلا أسلاك. 
وک| كانت هناك مسابقات في الشعر كانت أيضاً في النثر وفي الإلقاء شعراً ونثراً وني 
العزف على آلة العود والتي كان فنانها الأول أحمد محمد فضلء المحامي فيا بعد» وعلى 
الصفارة: وهو أخ عباس محمد فضل نائب مدير البوليس وأول مدير سوداني لمصلحة 
السجون- والبروفيسور علي محمد فضل مدير جامعة الخرطوم- وابن خالة عبد الله زكريا. 
غير أن رواية (هاملت) لوليم شكسبير والتي قام بتعريبها الأستاذ أحمد الطيب وكان 
منافساً في العبقرية لعبد الله الطيب لولا أن وافته المنية مبكراً. برز في هذه الرواية طالب في 





مرکز محمد عمر بسير 





السنة الأولى بمعهد التربية في دور (حفار القبور) وواصل تألقه في هذه الرواية للدرجة التي 
جعلت المعهد يرسله في بعثة لدراسة الدراما وفن السرح. والطالب كان الفكي عبدالرمن 
ونافست تمثيلية أخرى في إعجاب الجمهور الذي يتكون من الطلبة» والخريجين وبعض 
مواطني الدويمء والذين هم ثقافة عالية بحكم وجود بخت الرضا معهم لعشر سنوات. 
نافست تمثيلية اسمها (الجريمة) قام بتعريبها والتمثيل فيها عبد الرهن علي طه ومعه الأساتذة 
وخريجو العهد القدامى يتقدمهم الأستاذ عبد الرحمن علي طه نفسه خرجاً وصاحب 
دور رتيسي. 

هذا ما كان من آمر الهرجان الكبير بمناسبة العید العاشر ولکن الناسبة كانت أيضاً 
لقاء لعدة آجیال من العلمین وفرصة لراجعة شاملة لكل الناهج ولاأسالیب تلقي العلم 
ومدی تجاوب التلامیذ مع الواد قدیمها ومستحدئها. 

وقد علمنا فیا بعد أن الهرجان خرح بفكرة تشجیع ورعاية النبوغ بين طلبة العهد 
الذین یفترض فیهم ان یتخر جوا بعد ست سنوات من الدراسة معلمین للمدارس الاولية. 

وکانت آول فرصة لرعاية النبوغ تمثلت في الفكي عبد الرهن وتبعها قرار هو أن 
یدخل فیمن یتوسم فیهم الأساتذة الذکاء والقدرة على مواصلة التعلیم في الرحلة الثانویت 
وربا بعدها في كلية غردون التذكاريةء أن يدخل هؤلاء الطلبة امتحان المرحلة الثانوية وآن 
يمنحوا الفرصة إذا كانت درجاتهم في المستوى المطلوب دخول مدرسة حنتوب الثانوية وما 
بعدها وبشرط هام هو أن يعملوا بمهنة التدريس بعد تخرجهم سواء من المرحلة الثانوية 
أو ما يعادها. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أذكر من هؤلاء النامبين عبد الوهاب موسى الذي وصل حتى المرحلة امحامعية 
وانتهى به الطاف نائباً لمصلحة العملء وهناك محمد خير عثمان ثم عبدالله محمد آدم الذي 





التحق بالقوات المسلحة بعد المرحلة الثانوية ووصل إلى رتبة متقدمة في سلاح الإشارة» كان 
هناك الحلو عبد الله الخبير الزراعي الذي وافته المنية مبكراً وهو في بعثة لنيل الدكتوراه في 
الولايات المتحدة» وسيد أحمد نقد الله الأديب والسياسي والذي حرمه نشاطه السياسي من 
الاستمرار في التعليم الجامعي بالسودان فأكمله في ألمانيا الشرقية (في ذلك الوقت)» والعقيد 
(الجامعي) عبدالله محمد آدم أحد نوابغ سلاح الإشارة بالقوات المسلحة وفصل 
لأسباب سياسية. 

ولعلكم تلاحظون أنه لم يلتحق أي من هؤلاء الناببين بمهنة التدريس إذ تخرجوا 
جميعاً من الرحلة الجامعية أو ما بعد المرحلة الثانوية مع حصول البلاد على الاستقلال 
السياسي في أول يناير 955١م‏ ورؤي» برحيل الموظفين البريطانيين» أن يستفاد منهم في 
مجاللات غير التدريس. 

وبالفعل لم يعد أي من نابغي بخت الرضا إلى معهدهم أو إلى المهنة التي كانت 
اختيارهم الأول وهم في سن الصبا ما عدا محمد خير عثان ثم الفكي عبد الرحمن لفترة ثم 
واصل العلاقة مع التعليم في مجلة الصبيان التي كانت تصدرها مصلحة ثم وزارة المعارف 
وبالطبع ظل المسرح مسرحه في الحياة طوال عمره. 

ذكريات مدرسة الدويم الريفية لا تنتهي فهذه الدرسة شکلت بأنشطتها الختلفة 
وأسلوبها في الحياة شخصية كل من أتى للدراسة فيها. ولكن هل من كان تلميذا فيها قد أتى 


١17 





مركز محمد عمر بسير .سح سس 
باختياره؟ طلبة كردفان ودارفور والجنوب بل وكل المديريات الأخرى جاء معظمهم إن لم 
يكن كلهم بقرارات سياسية أو قل إدارية. 

وإذا كانت أصابع مفتشى المراكز البريطانيين ۸ تكن واضحة في كل الحالات الا أن 
حالة واحدة كشفت الستور ففي الفصل الثاني من المرحلة الدراسية وقد كنا في السنة الثالثة 
افتقدنا أحد زملائنا من طلبة السنة الرابعة ألا وهو سلییان مصطفى أم برو. وکا يدل الاسم 
فهو من قرية أم برو مركز كتم في دارفور» وفي نفس الوقت انضم إلينا في مكانه محمود بشير 
جماع من نفس المركز. 

وقد علمنا أن ناظر المدرسة أرسل إلى مفتش كتم يسأله عما إذا كان يوصي 
(والتوصية أ أو ب أو ج) على التلميذ سلیان أم برو بالمواصلة في الدراسة بمدرسة حنتوب أم 
لاء وإذا كانت التوصية بالإيجاب هل هي أ أم ب أم ج. 

كان رد المفتش أن طالب المدرسة الريفية الوسطى في سجلاته هو محمود بشير جماع 
وليس سليان آم برو وإذا كان هناك خطأ يجب تصحيحه على الفور باحاق محمود بشير جماع 
بالدرسة الريفية لكي يجلس لامتحان المرحلة الثانوية في حنتوب بتوصية من الدرجة (1). 

أما سليهان أم برو فمن الفروض أن يكون من البداية في معهد التربية ببخت الرضا 
وعليه يرسل للالتحاق بالعهد في المكان الذي كان يحتله بشير جماع بالخطأ. 
وهكذا كسبت البلاد معلا وشیخاً ورعاً هو سليان أم برو بتخرجه من بخت الرضا كما 
كسبت مهندس ري مقتدر هو محمود بشير جماع. 

ويروى عن سليان أم برو أنه صفع أحد أمراء المملكة العربية السعودية قبل أن 
يغادرنا إلى بخت الرضا. 





" المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

ولعل في وجود سليمان أم برو في أي مدرسة يرتبط دائاً بحدث ليس له ساب 
مثيل» إذ أعلن طلبة السنة السادسة في بخت الرضا في النصف الثاني والأخير من دراس 
قبيل تخرجهم معلمين أعلنوا (الإضراب»» والكلمة لم تكن متداولة في ذلك الوقت في 
وسط عمال السكة الحديد في عطبرة إذ أعلنوا إضراباً مفتوحاً عام 457١م‏ ما لم يتم الاعتر 
بهيئة عمال السكة الحديد الجسم النقابي الذي لم یسمح هم بقيامه بحجة عدم وجود قانوا 
ذلك الوقت ينظم العمل النقابي. 

ما يهمنا أن سبب اضر اب طلبة سنة سادسة كما كانوا یسمون هو أن تعدل مرتب 
عند التخرج من 4.۵ جنيه في الشهر إلى ستة جنيهات. 

اهتزت كل بخت الرضا: العميد ونائبه وهيئة التدريس ورجالات الدويم ولابا 
الخبر قد هز أيضاً مصلحة المعارف والحكومة في الخرطوم فحضر على الفور وفد عال؛ 
یقولون من المصلحة وانضموا إلى قيادة المعهد ومفتش مركز الدويم والثلاثة الكبار 
أعيان الدويم الخليفة الحسن والد سر الختم الخليفة» وعبدالقادر كريم الدين» ومحمد حمو 
والد صفية زوجة الدكتور خليل عثان. 

وعندما لم تصل الفاوضات إلى حل مقبول بسبب الحالة المالية للحكومة وأن | 
المطالب به ليس له اعتماد في الميزانية» كما أن قبول المطلب سيقود إلى مطالبات من جم 
أخرى على رأسهم كل المعلمين خريجي كلية غردون. 

في نباية المطالب تقدم رجال الدويم الثلائة باقتراح هو أن يقوموا بمقابلة 
المرتبات بين الست جنيهات والاربعة والنصف إلى أن تستطيع الحكومة وضع الاد 
في الميزانية. 








مرکز محمد عمر بشير 

وقد شكر وفد الخرطوم وقيادة العهد أريحية رجال الدويم واعتذروا عن قبول 
العرض لنفس الأسباب التي رفضوا بها قبول المطالب. 

وفي الموكب الحزين الذي ودعت فيه الدويم طلبة سنة سادسة بعد أن تم فصلهم 
خطب فيه نائب العميد عبدال رحمن علي طه أنهم ليسوا طلبة صغاراً لا يعون حجم قرارهم 
ولا حجم مسئوليتهم لأنهم على وشك التخرج ليكونوا قيادات للمجتمعات التي سوف 
يذهبون للتدريس فيها. 

ثم أخطرهم أن المعهد سوف يعلن إلغاء فصلهم بعد شهر أو شهرين وسيطلب 
منهم العودة لاستكمال الدراسة والتخرج بنفس المرتب. 

وهو لا يتوقع أن يعود منهم نفر إذا كانوا فعلاً واعين للقرار الذي اتغذوه» ومن ۸ 
يعد منهم يمكن اعتباره الطالب الثالي الذي حرصت بخت الرضا على تربيته» وقد علمنا فیا 
بعد أن العدد الذي عاد كان قليلاً للغاية. 

كا علمنا بعد فترة أن إثنين من ذلك النفر هاجرا إلى نيجيرياء وهي بعد مستعمرة 
بريطانية كالسودان» وتنظر الإدارة البريطانية فيها بكل احترام إلى ثلاثة تجارب سودانية: 
المساعد الطبي» معهد التربية ببخت الرضا والإدارة الأهلية. 

افتتح الهاجران الإثنان مدرسة أولية بها تجربة لتدريب معلمين لمدارس صغری» 
وتطورت حتی أصبحت قبلة لكل من يريد لابنه: تعليأً وتربیة» وسارت على غرار مناهج 
بخت الرضا. 


۱۹۹ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

أحد المهاجرين الإثنين اسمه الفاضل وكنا ندعوه الفاضل أبو سروال لأنه كان 
يرتدي سروالاً طويلاً مثل (الناس كبار السن) على عكس الطلبة والتلاميذ الذين كانوا 
يرتدون سراويل أقصر. 

وقد أكد لي أحد أعضاء الوفد السوداني الذي زار نيجيريا مهنئاً بالاستقلال أن 
(بخت الرضا لا تزال قبلة الجميع). 

وظلت تجربة معهد التربية في بخت الرضا تجذب اهتمام رجال التربية في أفريقيا وفي 
نيجيرياء وكذلك في الجزيرة العربية کا أسلفت. 

وهناك معلمون في اليمن ومكوناتها السياسية وفي الصومال كانوا حط الأنظار إلى 
وقت قريب. ولعل أكبر الدول التي أثارتها تجربة بخت الرضا التربوية وأن لم تأخذ بها 
لرسوخ النظام الفرنسي بها هي مصر. 

وكان عميد رجال التربية في مصر: محمد عطية الأبراشي یداوم بانتظام على زيارة 
المعهد ويتداول الخبرات مع رجاله. 

وفي يوم أخبرنا الناظر محمد مد عبد القادر أن المدرسة سيزورها غداً وزير المعارف 
في مصر الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا: مارس ۱۹6 (خبير القانون الدستوري) 
استعدت المدرسة وتم اختيار الطالب الشيخ التجاني من جزيرة مقرات ليقرأ درساً من 
كتاب المطالعة. 

ويتميز التجاني بطول فارع وصوت جهوري وخارج واضحة للصوت والكلمة مما 
أهله في] بعد الالتحاق معلا في بخت الرضا. 








مركز محمد عمر بشير 

بعد الزيارة خطب الدكتور سنهوري مهنا بالستوی الرفيع وتبرع لنا بهائة كتاب من 
تأليف كبار أدباء مصر: شعراً ونثراً وروايات فقرأنا لكل من طه حسين وعباس محمود العقاد 
وزكي مبارك وتوفيق الحكيم وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعلی محمود طه وأحمد أمين 
وغيرهم» منهم من لم نفهم ما حوته كتبه إلا بعد أن تخرجنا من المرحلة الثانوية. 

غير أن سنهوري باشا كان من السياسيين المصريين البارزين والحجة في القانون 
الدستوري» وهو من الأحزاب التي عرفت في مصر باسم أحزاب الأقلية التي انشقت من 
حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس باشا وعرفت بأن لديا قيادات على مستوى عال من 
الكفاءة السياسية والوطنية النظيفة التي لم تتهم بالفساد غير أنها أحزاب ليس لديها جماهير 
وتتعاون دوماً مع الملك عندما يختلف مع حزب الأغلبية» حزب الوفد». ويكلفها 
بتشكيل الحكومة. 

وقد نجحت قيادات تلك الأحزاب المتمثلة في إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء 
عام ۷٤۱۹م‏ في انتزاع اعتراف بريطانيا بحق مصر في السيادة على السودان وكان ثمن ذلك 
خروج القوات البريطانية من المدن المصرية وعلى رأسها القاهرة ما كان يعرف بثكنات قصر 
النيل» الکان الحالي لفندق هيلتون النيل في ميدان التحرير والانتشار على شريط قناة السویس 
باعتبار أن هذه القوات لم تعد قوات احتلال وإنما قوات صديقة ولديها مسئولية دولية في 
حماية قناة السويس (من الاتحاد السوفيتي وقتها) وفي تأمين الملاحة في القنال. 

وهذا بالإضافة إلى الموافقة النهائية على رقم المديونية البريطانية لمصر ووضع إطار 
لسدادها. وهي مديونية نشأت خلال سنوات الحرب العالية الثانية. 


صصص ال مريرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

عندما انتهی صدقي باشا من هذه الإنجازات عاد من بريطانيا ولا سألته الصحافة 
عن نتيجة المفاوضات وما جاء به من بريطانيا للشعب المصري قال كلمته الشهيرة(جئتكم 
بالسيادة على السودان) وهي الكلمة التي أطلقت الشرارة في قلب الامام عبدالرهن المهدي 
ولأول مرة عباً الانصار وأخرجهم بقيادة عبدالله عبد الرجن نقدالله في أكبر حشد هتف 
بسقوط مشروع صدقيء بيفن(وبيفن هو وزير الخارجية البريطاني الذي وقع الاتفاق 
بالأحرف الأولى مع صدقي باشا) ويبتف عاش السودان حرا مستقلاً. 

فوجئت الإدارة الحكومية في السودان بكلا الحدثين: مشروع صدقي- بیفن 
والسرعة والقوة التي خرج بها الأنصار وخرج بها الامام عبد الرحمن عن أسلوبه الذي عرف 
به في إبلاغ رأيه للحكومة. 

وبتصاعد الغضب الأنصاري وغضب إدارة الحكم الثنائي للسودان والتي لم تتم 
استشارتها تراجع المفاوض البريطاني ومات المشروع وماتت معه السيادة المصرية إلى الأبد. 

نعود للسنهوري باشا الذي وظف زيارته للتواصل مع قيادات الأحزاب التي كانت 
تدعو لعلاقة مع مصر تتراوح ما بين الكونفدرالية والفدرالية والتعاون والوحدة ذات الأبعاد 
والوحدة الكاملة. 

غير أن أهم ما خرجت به الزيارة هو تنظيم هجرة الطلبة السودانيين للدراسة في 
مصر إذ كان الطلبة آفراداً وجماعات تذهب إلى مصر بمبادرات فردية وأخرى يرعاها علي بك 
البرير من رجالات أسرة البرير السودانية والذي يعمل بالتجارة في مصر والذي أسدى كل 


الخير لكل طالب علم وصل إلى مصر وإلى كل سوداني قصده في عمل أو علاج» وهو والد 


42 ٠ 
مركر محمد عمر بسير‎ 
فاروق البرير قطب حزب الامة وصهر السيد عبد الله الفاضل المهدي في نعمات أصغر‎ 


شقيقات مبارك الفاضل المهدي. 








وقد أطلق على عملية ذهاب الطلبة السودانيين للدراسة بمصر اسم (بعثة الملك 
فاروق) وخصصت للطلبة الوافدين للجامعات ثلاثة منازل عرفت كل منها باسم (بيت 
السودان) كا وضع نظام للدارسين بالمدارس الثانوية تركز أساساً في مدرسة حلوان. 
وبالمثل تم تطوير ومساعدة نظام الدارسين بالأزهر الشريف الذي كان يعتمد أساساً على 
(الأوقاف) التي جاء بها سلاطين الحكم في السودان جرياً على السنة الاسلامية منذ مملكة 
سنار» وسلطنة الفور» وصارت تصرف للدارسين السودانيين مبالغ عالية مقارنة بالمرتبات 
ومستوى المعيشة في مصر. 

ومن المفارقات أن الطالب الجامعي الذي ينجح بدرجة (جيد) فما فوق يمنح إذا كان 
يسكن خارج (بيت السودان) منحة شهرية تساوي أربعة عشر جنيهاً مصرياً في حين أن 
خریج الجامعة من مصر يتقاضى إذا تم تعيينه في وظيفة حكومية إثنى عشر جنيهاً ونصف. 

ومع ذلك كانت المجرة للدراسة في مصر لم تشهد ازدهاراً الا بعد قيام الثورة 
. المصرية في ۲۳یولیو ۱۹۵۲م. وذلك لما كانت تشهده مصر من نشاط سياسي استقطب الطلبة 
السودانيين بالذات من كلا اليمين(الأخوان المسلمين) واليسار (الحر كات الشيوعية المتعددة) 
وملاحقة البوليس السياسي› الأمن لاحقاًء للمنضمين أو الشتبه بانضامهم أحياناً إلى 
ا لحر كات السياسية اليسارية أو إلى حاعة الإخوان المسلمين بعد خصامهم مع الملك ومحاولة 


اغتياله الفاشلة فقام أعو انهک| شاع وقتهاء باغتيال إمام الجماعة الشيخ حسن البنا ثم الرد 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
العنيف من جانب الإخوان المسلمين باغتيال القاضي الخازندار الذي حاكم مجموعة من 
الأخوان المسلمين ومتابعة اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء ثم النقراشي باشا و... و... 

وقد ذاع في بعد أن أحد المشاركين في الاغتيالت الیوزباشی النقيب» محمد أنور 
السادات وحسين توفيق ابن أحد الباشوات والذي روى قصة مشاركته في تلك الأحداث 
إحسان عبد القدوس في رائعته (في بيتنا رجل) والتي أصبحت فيلا سينائياً قام فيه بدور 
حسين توفيق الممثل عمر الشريف وقام والد إحسان الممثل المخضرم محمد عبد القدوس 
بدوره هو في الحياة. 
نعود إلى مدرستنا : 

عند الوصول إلى السنة الرابعة في مدرسة الدويم الريفية الوسطى يستعد الطلبة 
لرحلة بورت سودان وهي رحلة يقوم بها طلبة السنة الرابعة في إجازة نصف السنة ويقومون 
بالتدريب لتمثيل رواية كل عام أمام مواطني بورتسودان برعاية الدرسة الوسطى هناك. 

ونظل نحسب الأيام حتى اليوم المشهود للسفر بالباخرة إلى الخرطوم ومنها بالقطار 
إلى بورتسودان يصحبها ثلاثة أساتذة أجلاء هم عبد العزيز عبدالله أو(دبل عين ع . ع) كما 
كان يوقع ونسميه وهو أستاذ اللغة العربية والدين ومن سكان مدينة الدويم وكان كما 
أسلفت أحد الضباط في ثورة 475١م‏ وكان عقابه الفصل من الخدمة. 

والأستاذ إبراهيم محمد علي نمر» محافظ بنك السودان فیما بعد» والأستاذ حسن 
عباس» ويتقدمهم الناظر محمد أحمد عبد القادر. 

كانت الرحلة تجربة غزيرة بالعلومات رأينا فيها لأول مرة ما كنا نسمع عنه من 
البواخر التجارية وحديقة الشعب المرجانية والطار الذي حطت فيه طائرة للخطوط الجوية 





مركز محمد عمر بسير 





السودانية عند إنشائها عام /19151م. وسوق بورتسودان الذي كان فيه ما لا عين رأت في 
سوق الدويم أو الأبيض علا بأننا لم نتجول في سوق الخرطوم أكثر من المحطة الوسطى 
وحلواني اسمه 0.0.0 City Cream Center‏ يبيع الآيسكريم كان في موقع طيران 
الإمارات حالياً. 

كانت رحلة منبع المياه في ضاحية (أربعات) خاتمة لأيام سعيدة عشنا فيها يوماً كاملاً 
مع زملائنا من طلبة السنة الرابعة في مدرسة بورت سودان الوسطى والذين التقينا ببعضهم 
فيم بعد في حنتوب منهم محمد محمد الأمين باكاش وعبدالرمن عبده» القاضي الذي حاكم 
عمر محمد الطيب في قضية الفلاشا. 

وقد تعرفنا على الشاعر حسين بازرعة ولم تكن شاعريته الغنائية والفنية قد ذاعت. 
وفي فترة الاستراحة في التمثيلية التي قدمناها وهي (علي بك الكبير) للشاعر أحمد شوقي 
وباللغة العربية الفصحى قدم طلبة بورت سودان (منلوج) وعزفاً على العود أسوةً بها حدث 
في ليالي بخت الرضا. 

غير أن المفاجأة هي أننا في آخر ليلة دعانا أستاذنا (دبل عين) على حسابه ومعنا بعض 
زملائنا من مدرسة بورت سودان إلى مشاهدة فيلم اسمه (النائب العام) في سينا بورت 
سودان بطولة زكي رستم وإساعيل يس. 

ولا يمكن وصف سعادتنا إذ إن بعضنا شاهد السين| لأول مرة وظل بعضنا يقلد 
إسماعيل يس في المنلوج الذي ألقاه آثناء الفيلم وسكتنا جميعاً ونحن في بداية سن المراهقة عن 
إعجابنا الخفي بالراقصة التي هزت وسطها وأوساطنا في الفيلم. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وكانت هذه التجربة بداية لواصلة لنا في دخول سین كردفان بالأبيض كلا أسعدنا 
احظ وقضينا ليلة في تلك المدينة في طريق ذهابنا أو عودتنا من الدويم ثم حنتوب فيما 
بعد.كانت مصلحة المعارف تى دوماً رحلات للطلبة في كل مرحلة أو نهايتها ليس فقط 
للتعرف على البلاد بل وعلى ساكنيها والطلبة كزملاء لبعضهم إن لم يكن اليوم ففي المستقبل. 

وهو أمر أحوج ما يكون السودان له اليوم وخاصة بعد أن عادت الجهوية والقبلية 
للحياة العامة واللتان اجتهد مؤتمر الخريجين وجاهد في القضاء عليههما أو على الأقل في جعله 
أمراً بغیضاً لا یتشر ف بذکره السودانیون. 

جلسنا لامتحان الدخول للثانوية في دیسمیر ۱۹6۷ اثناء فترة الا جازة بالنسبة لبقية 
الطلبة وم يكن في الداخلیات العشر سوی طلبة السنة الرابعة. 

وفي آسبوع انتهینا من الامتحان التحريري ودخلنا واحداً بعد الآخر في الامتحان 
الشفوي وکانت الاسئلة تبداً بالنطقة التي جاء منها الطالب وأفضل ما وجده في الدرست 
وفي الدويم» ثم رأيه في أي امتحان كان أصعب وأخيراً ماذا سیفعل إذا لم یقبل في مدرسة 
حنتوب الثانوية: وقد كانت الأسئلة والإجابة باللغة الإنجليزية إلا لمن يعجز. 

وقد نبهنا الناظر محمد أحمد عبد القادر إلى أن الإجابة على السؤال الأخير تكون 
بطلب «(الإعادة) والإصرار على مواصلة التعليم بالرغم من أن بعضنا فضل الالتحاق 


بمدرسة الدويم الثانوية الصغری» أو بخت الرضا حتى يتخرج بمهنة. 








سس المييرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

جاءت حنتوب. ووادي سيدنا نتاجاً لتقسيم المدرسة الثانوية الوحيدة في السودان» 
مدرسة أم درمان الثانوية عام 955١م‏ إلى مدرستين ثم أضيفت مدرسة ثالثة في خور طقت 
بكردفان عام ١9154‏ م. 

قامت حنتوب في الشاطئ الشالي لمدينة واد مدني على أرض تبرع بها الشيخ أحمد 
أبوزيد. ليس ذلك فحسب بل كان بالأرض بستان مثمر على حوالي عشرين فداناً عرف 
باسم (جنينة ود أبوزيد) وقد استوعبت الأرض مباني فصول المدرسة العشرين ثم غرفة 
للمكتبة وأخرى للتاريخ وثالثة للعلوم ورابعة للفنون بالإضافة إلى قاعة اجتماعات آمامها 
(مصطبة) تستخدم كمسرح عند اللزوم يليه ميدان فسيح مزروع بالنجيلة يجلس عليه الطلبة 
كل يوم دراسة قبيل الإفطار في الاجتماع اليومي مع ناظر ومعلمي المدرسة للاستماع إلى ما 
يستجد كل يوم عن برامج رياضية واجتاعية» وأوامر مدرسية. 
وفي شرق المدرسة ومباني الداخليات منازل لكل معلمي الدرسة ونادي يرتادونه مساء. ألا 
رحم الله حاج أحمد أبوزيد الذي لا يذكره أحد عند الحديث عن التعليم وعن حنتوب. ابنه 
رجل القانون (محمد) رئيس جهاز المظالم (١١١٠7م).‏ 
دخلنا حنتوب. نحن أبناء الدويم الريفية» أكثر نضجاً من كثير من زملائنا من المدارس 
الأخرى الذين لم تكن لهم تجربة في حياة الداخلية في البيئة الريفية بل وجدنا آخرين شبه 
تائهين خلال الشهور الأولى لأنهم لم يغادروا منازهم إلا إلى المدرسة ثم العودة للمنازل. لم 
يختلطوا بطلبة خارج الفصول ول يسافروا من مناطقهم إلى أماكن أخرى: لا باللواري أو 
القطار أو (وابور البحر). 


مركز محمد عمر بشير 


نظام الدراسة في حنتوب يقوم على الانضباط الدقيق في المواعيد لكل منشط. دفعتنا التي 








بدأت الدراسة يوم ۲ يناير ۸٤۱۹م‏ وانتهت يوم ۲۱ ديسمبر ۱۹۵۱م بعد أن أدت امتحان 
(شهادة جامعة كيمبردج) مكونة من ۱۵۰ طالباً موزعين على خمسة فصول بأسماء مشاهير. 
في السنة الأولى كانت الأساء: نيوتن» ابن سيناء شكسبير» سقراط وكولومبس. وطلبة 
الفصل لا يزيدون عن ثلاثين طالباً. ومن وعت الذاكرة أسماءهم وأحياناً أسماءهم و 
(ألقامهم) ألا رحم الله الأموات والأحياء وهم: 
حنتوب: پنایر ۸٤۱۹م‏ - دیسمیر ۱۹۵۱: 

-١‏ عبدالله الطاهر بكر 

۲- صالح محمد عبدالله (كرناف) 

۳- فؤادالتوم 

4 - مهلب عبدالرهن علي طه 

۵- مصطفى محمد سعيد (مخازن) 


5- عباس مكى مدني 


4 عبدالله حسن (أتكل) 
۰ عابدین حسن عابدین 
-١‏ عبدالر حن لطفي 


۲- عبدالّه محمد حیدوب 


۱۷۸ 





EDE 


E 


- ۵ 


SN 


~۷ 


55ت 


TY 


۳ 


ATR 


-۲ ۵ 


1 


۷ 


۸ 


۹ 


586 


29 


المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أحمد خليل (قلبها) 

أحمد عشان بلال 

الریح عشان موسی 

عامر محمد صالح 

إبراهيم منعم منصور 

بكري حسن أبو 

أحمد علي الطيب (قندران) 

أحمد عبدالحليم محمد (فصل لأسباب سياسية وم يكمل معنا) 
عمر حسن جحا 

عشان عبدالرحيم (القائد الفعلي للإضراب ١9460١م)‏ 
بدرالدين إبراهيم أحمد 

محمد عثان أبو زيد 

الشيخ محمد أحمد أبوعصايا 

مکي الرخي (مام 

إبراهيم أحمد بابکر (قردین) 

شریف الدشوني 

بخاري عبداله الخضر 

أحمد ناصر محمد الشیخ 


عبدالّه زکریا 


۱۷۹ 








مركز محمد عمر بشير 
۲- أحمد أيوب القدال 

۳- عثان صالح أحمد 

4- مالك حيدوب 

0 مأمون یوسف 

1 حسن خليفة 

2¥ عبدالر من سام 

۸- محمد أحمد حسن عبدالجليل (توني) 
4- حسين محمد علي 

۰- حميدة محمد اهادي (أبو عشر) 

١‏ - نصر الدین المبارك 

7- إبراهيم حسن أبو حسنين 

۳- محمد بشار أحمد 

5 - آدم عبدالله 


05- إبراهيم أحمد يوسف علقم 
5 - عثان محمد عبدالنور 


7 - الشيخ أحمد الشيخ 
۸- جعفر البار 
4- زکریا واني 

۰- سبیل آبکر 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول ص 
۱- عبدالرحمن حامد خليل (شارلس ديكنز) 

۲- محمد أحمد عبدالرهن 

۳- عمار محمد عمار (لم يكمل لأسباب أسرية) 

4- ميرغني عبدالرحمن شيبون (/ يكمل لأسباب أسرية) 
00- يوسف سليان أحمد 

1 ابراهیم صالح عل 

۷- مبارك حسن آزرق 

۸- كودي الدومة 

4- حسن ابراهيم حسين (حسن التاج) 

۰- شوقي حسب الله ملاسي 

۱- بخیت حامد (ود الریس) 

۲- بابکر محمد أحمد الخواض 

۳- مبارك عثمان (الخالقها) 

-٤‏ عبدالله دفع الله 

6- الطاهر العبيد أحمد 

7- محجوب بابکر سوار الدهب 

۷- محمد محمد الأمين باکاش 

۸ عمر بشير 





و ¥ 


-- 


VT 


¥ 


۷ 


-۷ ۵ 


- 1 


¥ 


- 


۷۹ 


- ۰ 


-۱ 


~A 


-7 


At 


— Ao 


- 1 


-۷ 


-۸ 


مرکز محمد عمر بشير 
حسن عبدالله الترابي (امتحن من السنة الثالثة للجامعة) 

موسی عوض بلال 

محمد عبدالله رمضان (جنقوز) 

عبدالباسط بحيري 

کال الدین عباس (ود العجوة) 

محمد أبولكيلك 

موسى محمد صالح (موسى الطویل) 

عبدالوهاب سلیان (ثلاجة) (فصل لأسباب سياسية) 

[براهیم حامد 

حسن حمزة هيبة 

بابكر عيسى (شنكل) 

صلاح توفيق 

موسی هد بر 

بشير یوسف العجب 

جعفر علي (جاسبر) 

عبدالرحمن عبده (القاضي الذي حاکم عمر محمد الطیب في قضية الفلاشا) 
عوض إدريس 

أحمد علي محمد خير 


مد عبدال رحمن (۸ يكمل لاسباب أسرية) وقد كان من أذكى أبناء الدفعة) 


۱۸۲ 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 

4 المهدي الفحل سنة أولى فقط وانتقل إلى وادي سيدنا) 

5- محمد حسن أبو ضلع 

۹۱- عبد الله علي صالح (السنجك) 

۲- بابكر عبدالرازق 

1ه الحاج حسين 

4- عباس عبدالسلام البوشي (بعبوشی) لقبه به الأستاذ عبدا حليم على طه 

۹0 - إسماعيل منعم منصور(ترکنا بعد السنة الثانية مساعداً إدارياً لوالده) 

5- محمد أحمد الحاج (ود الحاج) 

۷- سيد عثان 

- إبراهيم جاد الله 

بادر الإخوة بكري حسن آبو وعبدالله الطاهر بكر وعبدالرمن لطفي بالدعوة إلى 
لقاء كل ثلاثة شهور استضافه لأول مرة عبدال رحمن لطفي بداره العامرة ثم رؤي أن نلتقي في 
مزرعتي جنوب الخرطوم ولا زلنا نواصل اللقاء في مودة وصفاء. 
وقد انضم إلينا بعد فترة أحمد عبدالرازق على طه من الدفعة التي سبقتنا وتخرج في ديسمبر 
۰ وقد كانت هذه الدفعة تلتقي بانتظام شهرياً في مزرعة عثمان أبو كشوة في ضاحية 
(بتري) ويلتقي معهم ابن دفعتنا الذي سبقنا ليلتحق بكلية الحقوق حسن الترابي. وكان 
واسطة العقد بينهم الطيب سيف الدين إذ كان بمثابة السكرتير: يذكر بموعد اللقاء ويجمع 
الاشتراكات» وبوفاته ثم توعك عثان أبو كشوة تواصل معنا أحمد عبدالرازق ثم (العم) 
الدرديري إبراهيم. لم يفكر الترابي في اللقاء معنا ک| ‏ نفكر نحن في دعوته - بالعکس رأينا 





مركز محمد عمر بشير ‏ کک 
أن ندعو إثنين من أول دفعة تخرجت من حنتوب عام 7 ۱۹م وهما: محجوب محمد صالح - 
ودكتور أبو حسن أبو ثم أحمد علي بقادي - وكذلك عمر إمام الذي تخرج بعدنا في 
ديسمبر 1967م. 
عبدالرحمن لطفي كان يقوم بأعمال السكرتارية في تحديد مواعيد اللقاء وجمع الاشتراكات 
ونشر النعي لمن يفارقوننا إلى رحاب الّه» وبسفره للعلاج عدة مرات تولى الهمة الشاقة 
باقتدار وطول بال عبدالله حيدوب. 

وعند دخولنا حنتوب في أول يناير 454١م‏ كان عدد الداخليات ستة: آبو عنجة. 
النجومي» ود ضيف الله دقنة» الك نمر وفي العام التالي تم زيادة الداخليات إلى ثانية بإضافة 
أبو لكيلك وعلي دينار وذلك لاستيعاب الطلبة المقبولين بالمدرسة الثانوية الثالثة التي أنشئت 
في كردفان وعرفت باسم خورطقت والتي لم تكتمل مبانيها بعد. وغادرونا بعد سنة وازداد 
عددنا بحوالي الثانين طالباً جدیدا. 
بدأت في سنة أولى (نيوتن) وكنت زميلاً لكل من يوسف سليان أحمد. جعفر علي» الشيخ 
محمد أحمد أبو عصاياء بخيت حامد (ود الريس)» عبدالباسط بحيريء عبدالله على صالح» 
عبدالرهن حامد خليل (لقبناه باسم 101601605 0887165). المهدي الفحل وقد غادرنا في 
منتصف العام إلى مدرسة وادي سيدنا رغم أنه (ألفة الفصل) آدم عبدالله» شريف الدشونی» 
إبراهيم صالح علي محمد عبدالله رمضان وكنا نلقبه (-110805) على شخصية في كتاب مارك 
توين 52۷6۲ 1083. وزميل اسمه حمد وقد كان في غاية الذكاء غير أن وفاة والده الفجائية 


أجبرته على ترك الدراسة من السنة الثانية والالتحاق بمصلحة البريد والبرق» وقد أسفنا 


١م‎ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
جميعاً على فراقه الذي ۸ نكتشفه إلا في منتصف العام الثاني. وبالمثل أفقدنا اليتم الفاجیی 
زميلا آخر هو عبار محمد عمار. 

هذا ما كان من أمر الفصل. آما آبناء الدفعة وتجد آساءهم في بداية هذا الفصل فأذكر منهم 
ميرغني عبدالرهن شیبون أخ الشاعر محمد والذي ترك المدرسة بعد وفاة أخيه الشاعر 
والتحق بمصلحة الاقتصاد والتجارة والتي قابلته فيها بعد تخرجي من الجامعة في يونيو 
7م وكان خير عون لي إذ كان باشكاتب قسم ثم دارت الأيام وكان سكرتير الوزير 
إبراهيم منعم منصور ۱ ۱۹۷. 

ومن أبناء الدفعة البارزين عبدالله زكريا إدريس إذ كان الأول في النقل من أولى إلى ثانية 
حنتوب وحسن عبدالله الترابي الذي كان أول السودان في امتحان الشهادة الوسطى ثم تقدم 
وهو في نهاية السنة الثالثة بحنتوب للامتحان لشهادة كيمبردج وحصل على الدرجة الأولى 
التي أهلته لدخول كلية القانون والتي كان القبول فيها سنة بعد سنة تجنباً لخريجين لا تحتاج 
إليهم البلاد» ونصر الدين البارك وعبدالله حیدوب. وعبدالله الطاهر بكر الذي التحق فيا 
بعد بالكلية الحربية والذي ما أن استقرت ثلاث (دبورات) على كتفه حتى دفعته روح القيادة 
إلى المشاركة في انقلاب (البكباشي علي حامد) وكاد أن يطاح برأسه لولا العناية التي منحنه 
ثلاث سنوات سجنا؛ سنة عن کل دبورة. 

كا ذکرت في موضع آخر فان مصلحة العارف كانت تضع الرحلات للطلبة آحد سس 
التعلیم والعرفة والتعارف بين الطلبة آنفسهم في جو خارج جدران الفصول وبينهم وبين 
آهلهم السودانیین في مجتمعاتهم الحياتية وهو آمر لا یتسنی بالقراءة والتدریس و حدهما. 





مركز محمد عمر بشير 
سنة أولى في حنتوب كانت تخرج أثناء الفصل الدراسي في رحلة إلى مشروع الجزيرة» 
وإلى مدينة سنار حيث الخزان الذي يعتمد عليه الشروع في الري. 
وحتى تعم الفائدة فان طلبة السنة الأولى يقسمون إلى مجموعتين كل مجموعة مؤلفة من 
فصلين ونصف الفصل الخامس» كان حظنا أن نكون الفصل الخامس الذي انقسم 
بين المجموعتين. 
وعاد نصفنا ليواجه الامتحان الأسبوعي كل مساء أربعاء ذلك أن نظام الدراسة كان 





يقسم اليوم بين الحصص صباحاً ثم الألعاب الرياضية عصراًء ثم المذاكرة مساء بين السادسة 
والثامنة مساء في كل يوم ما عدا يوم الأربعاء حيث تستبدل المذاكرة المسائية بامتحان في أحد 
العلوم أما الخميس مساء فيمنح إجازة على أن تستأنف المذاكرة مساء الجمعة. 
تقسيم فصلناء سنة آول نيوتن» إلى قسمين ثم الجلوس لامتحان الاربعاء آثار بعضنا مدّعين 
أننا لم نمنح فرصة كافية للمذاكرة والاستعداد للامتحان كغيرنا من فصول السنة الأولى 
الأخرى ودعا ذلك البعض إلى (الاضراب) عن الإمتحان» وكلمة إضراب كانت دائاً تلهب 
الحماس وتحرك روح التحدي والشجاعة. 
فاتفقنا جميعاً للحضور للفصل واستلام أوراق الإمتحان والإجابة على أن يكتب كل منا 
اسمه فقط دون إجابة أي سؤال ونسلم الأوراق بيضاء للمراقب. 

وبعد خروجنا من الفصل وقبل أن ننقل الخبر ونتباهى بالتحدي الكبير فوجئنا 
بالستر براون ناظر المدرسة يستدعينا إلى مكتبه مستبقاً انتشار الحدث ويجلد كلاً منا همس 
جلدات مطالباً الاعتذار ثم إعادة الجلوس لأداء الامتحان في اليوم التالي: الخميس 
يوم الوجازة. 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
بالنسبة لي كانت أول مرة أتعرض فيها للجلد منذ السنة الثالثة في كتاب النهود إذ إن 
مدرسة الدويم الريفية الوسطى لا تمارس العقوبة البدنية» وعلی عكس ذلك فإن زملاء 
الفصل من المدارس الوسطى الأخرى تلقوا السياط الخمسة كأمر عادي لأن سياط المستر 
براون لم تكن في حدة بعض المعلمين ومدارسهم أو قسوة بعض الفراشين في الجلد عندهم. 
كانت الدراسة شيقة بسبب نوعية المعلمين وتنوع الطلبة» وقد كان هناك السوداني 
اطرح والحترم والمهاب معاً مثل عبدالحليم علي طه. 
كان الأستاذ عبدالحليم علي طه ذا قدرات متنوعة وبجانب طریقته الشيقة في تدريس 





الجغرافيا حتى لتكاد تشعر أنك في رحلات سياحية كان يشترك في كل النشاط الدرسي 
الخاص بالطلاب سواء في الرياضة أو في ليالي الأدب والسمر والتمثيل» وبجانب ذلك فهو 
شاعر مطبوع. 

وقد نظم في زملاته الأساتذة قصيدة جمعت المعرفة والفكاهة (والمطاعنات) التي تيز 
بها ضد دعاة الوحدة مع مصر والتي عرفت عنه في مساجلاته مع الأستاذ محمود الفكي 
رصيفه في أشهر الإخوانيات السياسية في السودان. وتقول قصيدته على لسان الطالب والتي يبدأ 
كل بيتين منها بعبارة (أبواتي الكبار) إشارة إلى الأساتذة في كل شعبة من شعب العرفة في الدراسة: 
أبواتي الكبار 
أبواتي الكبار أهل الذكر والراية الناس في السمر هم کبسونا قراية 

(إشارة إلى كل أساتذة حنتوب) 


ساكنين الشروق نارين تبق ضواية خلواتن تطن كل شيخ يدرس تاية 


۱۸۷ 





مركز محمد عمر بشير 
(موقع سكن الأساتذة شرق المدرسة) 
لفوها الأمور بضمة فوقالضاد وكسرواالعين قاع انلو الرصاد 
(أساتذة اللغة العربية) 
الجاني استتر ماليهو ثاني قعاد ونوب و لي عمرطبيز رضاوانقاد 
(نائب فاعل) 
أبواتي الكبار في لعبهم ما بجلو مظلومين دوام من سبعة قط ما بجلو 
(وصف مباراة كرة القدم بين الأساتذة والطلبة) 
محيي الدين جرا وفنجط وقع في محلو فيهم ود أبوي يوت البضربو يشالو 
(محي الدين دياب أستاذ رياضي) 
أبواتي الكبار ما شفتهم يوم جالو يوم سبق الشيوخ ورونا واقعة جالو 
(واقعة جالو: واقعة شهيرة في الحرب الثانية) 
الوقف انقبض والجانا ناسي نعالو والوقع إنكسر أدو المحصص لبدالو 


(أحدهم كسر ذراعه بالفعل) 
أبواتي الكبار اللي البلد جِيّارة زادن جوهرة وعزية والمختارة 


(أساتذة الدين الإسلامى واللغة العربية)(كتب تدريس الدين واللغة) 


زيد ضارب عمرو لامن وقف زمبارة دون سبة وسبب طلعت قضيته خسارة 
(إشارة إلى عبارة النحو: ضرب زيد عمرو) 

أبواتي الكبار أهل البناية أم طوب ساكنين غربنا وقبلة وصباح حنتوب 

حامض سرهم منه الحجارة تدوب وان خلتوا القزاز الزول يقع کرتوب 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
(إشارة إلى أساتذة العلوم والأحماض أي خلطوا ماني الزجاج من کییاویات) 


أبواتي الكبار السرهم سرياني أي (أنا) أنت (يو) وي (نحن) قالوا معاني 
(أساتذة اللغة الإنجليزية» والسرياني لغة الأسرار في اليهودية) 
يا أبوهاشم تقيف تلحقني يا الجيلاني حت ود ضيف هرب للم خامو وجاني 
(إشارة إلى أولياء الله إشارة إلى الأستاذ هاشم ضيف الله) 
أبواتي الكبار إن شاءالله لي في العون وفي لمحة بصر حالا يلفواالكون 


(أساتذة الجغراقياء والشاعر منهم) 
أهل الخطوة هم كل ساعة قالبين لون مرن في الفرات مرن يخوضوا الرون 
(إشارة إلى آلوان المناطق الجغرافية ونهر الرون في أوربا) 
أبواتي الكبار أهل المزاج عافين والذوق أصلو فن والفن جمال الدين 
(إشارة إلى أساتذة الفنون, جال الدين مبارك أستاذ الرسم) 

والفن بالرتب وانتو العتب طالعين وني أصل الكيان آدم خلق من طين 
(إشارة إلى راتب صديق مصري أستاذ الرسم. والأستاذ عتباني أستاذ الفخار والطين وهو 
غمز له لأنه (إتحادي) والشاعر استقلالي) 

أبواتي الكبار في الحضرة ليلن أمسى مغلوبين في (واي) يحل والخمسة 

(إشارة إلى أساتذة الرياضيات, وأي إشارة إلى احرف 3 في الجبر) 
(زد) في القيد تناتل ما بتخلي الطمسة قيمتها بالالوف حلالها ميت فلسة 








مركز محمد عمر بشير 
(زد) إشارة إلى الحرف (2) في اب ما يعادل س و ص في ابر باللغة العربية وهنا 
تورية للأستاذ أمين (زيدان) أستاذ الرياضيات الذي عرف وقتهاء بأنه دائ) مفلس وقد كان 
قبل حنتوب سكرتير عام مؤتمر الخريجين) 

أبواتي الكبارالذنبهم مرفوع والكضب الصحيح في مذهبهم مرفوع 

(إشارة إلى أساتذة التاريخ) 
كم قسموا البطون إنقسمت لفروع وكم جابو الغلا وكتلوا الخلق بالجوع 
(أي بطون القبائل» أصوهاء إلى فروع» وبالتالي الدول) 


يومالخبر ما احتاروا نی إسنادوا بين نا قالوا فلا وفیا غا د 


(إسناد) إشارة دكية إلى أستاذ التاریخ عرص الکریم سنادخ) 


الواحد منهم يوم عرسي يوم ميلادو يحكي عن الرشيد عن ثروتو وأولادو 
(كان بالصدفة يوم زواج الشاعر يوم ميلاد عوض الكريم سنادة) 
يالتحت البرج من متك بنقيس حيرانك كتار رف أمورك سيس 


(البرج برج مدرسة حنتوب. ويقع نحته مكتب الناظر المستر براون) 


(لويس: الاسم الأول للمستر "لويس براون" - النصري هو نائب الناظر المربي 


تحصلت على هذه القصيدة من زميل الدفعة الهندس آدم عبدالله (واد مدني) والتي 
ألقيت أول مرة في يوم الآباء ١459‏ بعد دخولي مدرسة حنتوب. ثم ألقاها أستاذنا الجليل 


عبدالحليم علي طه في مناسبة أخرى بالمدرسة قبل تخرج دفعتنا في ۳۱ ديسمير ۰۱۹۵۱ 


۱۹ 











المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

ومن الأساتذة كان هناك البشوش القريب إلى النفوس مثل عوض الكريم سنادة 
والأمين محمد الأمين (الشهير بلقب الأمين فاروق - على الملك فاروق) - ومن المصريين 
أحمد أبوبكر الذي يرتدي البدلة الكاملة في كل مواسم العام مع الطربوش - وقد أسميناه 
نحن الطلبة _ أبوطربوش وقد علمنا فيا بعد أنه أحد أعلام التدريس في مصر وأحد مؤلفي 
كتب اللغة العربية للمدارس الثانوية وكان معه أبوالنجا أستاذ الرياضيات والذي كان من 
أبرع معلميها الذين يتفهم الطلبة المادة منه وباللغة الإنجليزية طبعأء لغة التدريس تماماً 
كالمستر هوبسن. وفي الفنون كان هناك الثلائي: راتب صدیق» مصري والسودانيان جمال 
الدين المبارك وعبدالرجن عتباني. 

وقد حبب إلينا مادة العلوم كل من المستر فوكسلي (وقد سميت في فترة عليه) 
والأستاذ السوداني السني عباس ونائب الناظر النصري حمزة. 

وقد كان هناك قمم في اللغة الإنجليزية لم نعرف قدرهم الا في سنواتنا الأخيرة 
كالمستر بارات» والمستر وتفيلد. والستر قوردون والمستر جونز ثم الستر جون لويس جونز 
الذي كان له فضل تغيير مساري التعليمي بعد حنتوب إلى دراسة الاقتصاد في مصر. 

ورغم عدم قناعتي بعلم الجغرافيا والذي يحبه وتخصص فيه أخي عبدالله زكريا الا 
أن الأستاذ ماكبين كان من ألطف وأحب المعلمين إلى الطلبة لأسلوبه الساحر الفكه. 

أما المستر وود 77000 أستاذ الرياضيات فقد كسب احترام المدرسة كلها بعد أول 
إضراب دخلنا فيه بمناسبة رفض ا حركة السياسية السودانية للجمعية التشريعية التي أعلنتها 





۰ 44 
مرکر محمد عمر بسیر 
الستر وود من آیرلندا وکان يكره الانجلیز الستعمرین ومجاهر بذلك وکم آعجبنا به 


وهو يردد: لا تتعاونوا معهم (أي الإنجليز) وإذا أردتم جلاءهم من بلادکم حاربوهم 





.Fight them 

كان طلبة الفصول المتقدمة خاصة الثالثة والرابعة أكثر متابعة منا لما يحدث في 
الساحة السياسية. 

وقد دعينا في أحد أيام امیس وهو نصف يوم إذ ينتهي اليوم الدراسي في الساعة 
الثانية عشرة ويسمح لنصف المدرسة من الطلاب بالذهاب عبر النيل الأزرق بالمراكب أو 
البنطون المخصص للأساتذة وبعض طلبة السنة الرابعة إلى واد مدني. 

في ذلك اليوم اجتمعت غالبية الدرسة واستمعت إلى خطباء من الطلبة ودعوة إلى 
الذهاب نهار اليوم التالي» الجمعة إلى واد مدني والقيام بمظاهرة عصراً ضد (الاستعمار) لبينا 
النداء وتمت المظاهرة وكانت غالبيتها منا طلبة حنتوب وتفرقت بسلام بعد نصح 
وإنذار من الشرطة. 

وني يوم السبت وني الاجتماع اليومي وقف فينا الستر براون خطيباً بلغة عاطفية بأن 
نلتفت لدروسنا وأنهم كأساتذة يقدرون موقفنا لكن المهم هو أن نتعلم لفائدة وطننا وأسرنا 
وأنفسنا ونترك للكبار عمل السياسة وبلغ من شدة حديثة العاطفي أن أجهش بالبكاء الأمر 
الذي جعل بعضنا يتعاطف معه لولا أن صاح فينا وفيه محمد عبدال رحمن شیبون: لغة الدمع لم 
تعد منطق اليوم فكفكف دموعك الباقيات. ثم هتف يسقط يسقط الاستعمار... فتبعناه 


هاتفین نحو السفرة للافطار. 


نسح المييرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

اتجهنا بعد الإفطار وحضور الاجتاع اليومي راا ءءء إلى شجرة ظليلة جنوب 
المدرسة بدل الدخول في الفصل. 

وهناك تبارى أيضاً بعض خطباء الطلبة وتم إعلان (الإضراب) عن الدراسة حتى 
(جلاء المستعمر). أذكر شخصين حضراء دون المشاركة في الحديث» وظلا يحضران كل تجمع 
وكان لحضورهما وقع طيب على الدوام بين الطلبة وهما: الريس عبده سائق البنطون 
والحلاق حمودة العركي الذي انتقل بعد تخرجنا بعدة سنوات من حلاق رؤوس في مستوى 
الثانوي إلى حلاق طلبة جامعة الخرطوم ورحل من بلدته واد مدني وسكن العاصمة وظلت 
علاقته بالخريجين والطلبة والأساتذة في أطيب مستوى إلى أن انتقل إلى رحمة مولاه. 

حمودة له نوادر وتعبيرات وتشبيهات في منتهى الروعة وذات انتشار واسع لیس 
هذا مكانبا. 

وكان في مدرسة حنتوب شخصيات وسط العاملين ظلت محفورة في وجداننا منهم: 
مصطفی (جرس) وهو العامل الذي يضرب جرس المدرسة منذ السابعة موعد بدء احصة 
الأولى وعند انتهاء كل حصة وبدء الأخرى وبالمثل في الأمسيات في حصص المذاكرة. 
مصطفى جرس ك) سیاه من قبلنا وتابعنا التسمية شخص هادئ في صرامة قلا يتحدث إلى 
أحد أو ينفعل إلى حدث. 

وهناك الشاويش ثم (الصول) محمد وهو مسئول التدريب العسكري للطلبة الذين 
يختارون التدريب العسكري كأحد المناشط التربوية ومع ذلك فهو متواجد وسط الجميع 
حتى غير طلبة (الكاديت)» ىا كنا نسمي التدريب العسكري» وقد علمت بحكم صداقتي 


مع العزيز موسى عوض بلال أنه أحد أقربائه. 





مركز محمد عمر بسير 
أما عبدالرهن فهو كبير أو رئيس عمال المدرسة والمشرف على المطبخ الذي يعد 
الوجبات للطلبة وتراه لابساً على الدوام (مريلة) بيضاء في أوقات الوجبات حتى تخاله أحد 





الأطباء لبياضها ونظافتها. 
وقد كان من درجات الوفاء النقي من خريجي حنتوب أن قاموا بتكريم بعض 
الأساتذة وبعض الخريجين من الزملاء وبعض العاملين في احتفال سنوي منذ عام ۲۰۱۳م 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
داخلية أبوعنجة اختيار ام صدفة 
يقال إنه خصص فا الطلبة المرزون في الدراسة عند دخوهم المدرسة. رباء ولكن 





هناك طلبة مبرزون أيضاً في داخليات آخری» ومع ذلك فقد جمعت في عهدنا من صبح قيادة 
ذات شأن. قبل وصولنا سمعنا عن هارون العوض: أول من (سودن) وظيفة مدير مصلحة 
الموازين والمكاييل والمقاييس (المواصفات) ثم وكيل ووزير التجارة. وعن حسنين حسن 
حسنين عبقري الرياضيات وعلم الفيزياء الذي انتهت به نشاطاته اليسارية إلى السجن في 
مصر ثم النشاط السياسي في الحزب الشيوعي بمدينة الأبيض وكنا شهوداً على (عوض محمد 
أحمد: عوض القون الطبيب البارع وأبرع من شغل وظيفة حارس المرمي: القون) وعلي 
محمد فضل بروفيسور الصحة والخبير العا لمي - جعفر محمد نميري ومحمد إبراهيم نقد وبرير 
حامد الأنصاري وعبدالله زكريا وحسن الترابي وعشان عبدالرحيم (القائد الفعلي لإضراب 
مدرسة حنتوب عام ۱۹۵۱) وفؤاد التوم سكرتير المريخ وعميد مدارس بيت الامانة 
والجزولي دفع الله رئيس وزراء الانتفاضية في أبريل ۵ وكذلك ولسنة دراسية كاملة 
قبل أن ينتقل إلى مدرسة خورطقت صديق محمد أحمد (شکوکو) ک| كنا نلقبه لبراعة تقمصه 
لشخصية المنولوجست الصري محمود شكوكو هذا ما كان في عهدنا. وربا ما جاء بعدنا من 
هو أشهر وأفضل ... وأذكى. 

كان الاستاذ المشرف 1۷2566۲ 1101156 إبراهيم مصطفى شرف الدين ومهدي 
الفراش السئول عن نظافة كل العنابر الأربعة وغرفة الأستاذ الشرف المقيم والغرفة العامة 
Common 2‏ والتي توجد بها بعض الصحف والمجلات وتعتبر مكان ملتقى للطلبة 
للتعارف والمؤانسة وكان مهدي - هو الأخ الأصغر لعبد الرحمن رئيس العمال في منتهى 
اللطف والرقة. 





مركز محمد عمر بشير 





وفی داخلية أبوعنجة على أيامنا عدد طلبة الداخلية لسبب ما يزيد عن العدد المحدد 
فتقرر أن يسكن العدد الزائد في الغرفة العامة. 

وسواء بالصدفة أو التدبير فقد كان يسكن لمدة عامين من أيامنا كل من: محمد 
إبراهيم نقد وبرير حامد الأنصاري وبشير أحمد يوسف (الاخ الأكبر للفريق يوسف أحمد 
يوسف وكنا نسميه أبوظريفة على أحد أصحاب المراكب التي تعمل بين واد مدني وقرية 
حنتوب) وجعفر محمد نميري وکانوا جميعاً بالسنة الثالثة ثم طالب في السنة الأولى دفعتنا هو 
إبراهيم صالح علي. 

وحسب النظام المتبع فان الأنوار في كل العنابر وفي الغرفة العامة تطفاً مساءً في 
الساعة العاشرة ليلاً يسبقها إنذار في العاشرة الا حمس دقائق. 

ومن التوقع بعدها أن يكون الطلبة قد انتهوا من قراءتهم الدراسية أو العامة وأن 
یخلدوا للنوم إلى أن تعود الأنوار في السادسة من صباح اليوم التالي. 

غير أن هناك منشطين یمارسان فقط في داخلية أبوعنجة بعد العاشرة ليلا بقليل 
أحدهما (علني) والآخر (سري) أما العلني فهو بعض النقاش والقفشات والمرح الذي يتبعه 
غناء في الغرفة العامة والذي غالباً ما يقوده الفنان محمد إبراهيم نقد مع (كورس) من زملائه. 
وهو أمر تضرر منه زمیلنا إبراهيم صالح علي ثم ما لبث أن انضم إلى المجموعة عندما وجد 
أن دمائة خلق الأستاذ المشرف في الداخلية إبراهيم مصطفى شرف الدين ۸ تردع الفرقة 
الغنائية المرحة. 

أما المنشط السري فقد كان يتم مرة في الأسبوع. غالبا ليلة الخميس» وهو تسلل 


مجموعة تضم أحمد ناصر محمد الشيخ (وهو عمي وتوفي إلى رحمة مولاه في حادث سير أثناء 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
دراسة الطب في مصر في مايو ۱۹۵۷) وعبدالله زكريا إدريس ومهلب عبدالرهن علي طه 
(كان أبوه وقتها وزيراً للمعارف) بالإضافة إلى شخصي الضعيف. كانت المجموعة تجتهد في 
أن توفر كل خميس مبلغ خمسة قروش وتذهب إلى (إنداية) قرية حنتوب والتي تكون قد 
خلت من روادها منذ مغيب الشمس فتجلس على (البنابر) وتطلب من (كوكو) واحد جردل 
(مريسة). وقد علمنا فی| بعد أنه كان يزورها بعد مغادرة الرواد وحضور تلاميذه أستاذ اللغة 
العربية (عوض عقارب). 

وبعد بضعة زيارات حدث تعارف جهوي بين أحمد ناصر (من أبوزبد) وكوكو (من 
لقاوة) وأصبحنا نحظى بعناية خاصة من حيث الكمية ومن حيث درجة التركيز للمشروب 
الأمر الذي أدى إلى تفشي الخبر فجذب إلى المجموعة أفراداً غير مداومين على رأسهم أحمد 
أيوب القدال وهو ليس من داخلية أبوعنجة مثل بقية المجموعة. كما أن درجة تحمّله أخرجته 
من الاسترسال. 

وفي إحدى الليالي لاحظنا أن شخصاً يتبعنا بعد تسللنا واحداً واحداً من العنابر وبا 
أن الطريق إلى الحانة به بعض الأشجار قمنا بعمل (كمين) لذلك الشخص إذ ظننا أنه الفراش 
مهدي فيقوم بإبلاغ السلطات أو أحد رؤساء الداخلية الثلاثة. 

كانت المفاجأة الأولى أن الشخص هو زميل العنبر فؤاد التوم» سكرتير المريخ فيع 
بعد وقد انضم فؤاد إلى حنتوب قادماً من مدرسة أم درمان الثانوية الأهلية. 

وكانت المفاجأة الثانية أنه كان يحمل كتباً وكراريس إذ كان يظن أننا نتسلل لكي 
نذاكر في الحمامات التي كانت أنوارها لا تطفاً بعد العاشرة مساء. 


۱۹۷ 








أما المفاجأة الثالثة فهي عندما علم بوجهتنا ولم يصدق خاصة وأن بیننا ابن الوزير 
مهلب. فكان أن تم بیننا (رهان) وهو أن وصلنا إلى وجهتنا وجلسنا ودار الكأس مرتين لابن 
الوزير عليه أن يدفع ۲۵ قرشا وإذا جلس ابن الوزير مجاملاً وم یشرب دفعنا له نفس البلغ. 

ولدهشته فان جميع الندماء ظلوا يتناوبون كؤوسهم بانتظام ليس فقط لدورتين بل 
حتى انتهاء محتويات الجردل. وشملت الدورة حتى عبدالله زكريا عندما يكون فمه ملآن 
(بسفة تمباك) فننتظره حتى يفرغ من كلا الخبيئين ويسلمنا الكأس فارغة لتدور على الآخرين. 

مبلغ الرهان» ۲۵ قرشأء أكسبنا وضعاً مميزاً لدى (كوكو) إذ سلمناه كل البلغ 
وضمن الجميع س جلسات ثم تبرع كوكو بجلسة سادسة من عنده تقديراً للدفع المقدم. 

وظللنا في مأمن من أمرنا وفجأة في الجلسة الرابعة أو الخامسة فاجأنا النديم الأكبر 
عبدالله زكريا بأنه جاء ليودعنا كندماء ولكن علاقته معنا ستستمر كأصدقاء وذلك لأنه انضم 
لتنظيم (الأخوان المسلمين) وعليه فسوف لا يتعاطى الخمر بعد اليوم وأسفنا أنه لم يبلغنا 
مقدماً لنعد له حفلة وداع تليق بتاريخه معنا خاصة وأننا جميعاً كنا معه منذ الدويم الريفية 
الوسطى. كا تعجب بعضنا لوصفه (المريسة) بأنها (خمر). 

داعبه البعض بأننا سوف لا ننساه وندلق (كأس الغائب) كل جلسة ونعتبره نصيبه 
في مبلغ الرهان. 

وقد علمنا فیما بعد أن عبدالله زكريا وبابكر كرار وميرغني وإبراهيم النصري وفتح 
الرحمن البشير وآخرين (ليس من بينهم حسن الترابي) كانوا العمد الذي قامت عليه الحركة 
في حنتوب وعلمنا أن الحركة شيء مختلف عن الجمعية الدينية التي كان يظهر بعض أعضائها 
في الموكب السنوي لعيد المدرسة بالزي السوداني وفي يد كل منهم مصحف. 


۱۹۸ 





سك السپرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وظلت العلاقات الودية نامية ومتعاظمة حتى اليوم رغم اختلاف التوجهات 
وسأعود إلى عبدالله زكريا في موضع آخر. 

ولكن كيف تعرفنا على موقع الإنداية» بجانب المناشط الرياضية المعروفة مثل كرة 
القدم وكرة السلة. كان هناك منشطان كل عام وهما مسابقة الداخليات في السباحة على النيل 
الأزرق الذي يقع على الجنوب الغربي من المدرسة ومسابقة اختراق الضاحية 07055 
6 0011213) والضاحية هنا هي ضاحية قرية حنتوب. 

ويبدأ السباق لكل المدرسة من الجانب الشرقي ويلف شالا حتى مسجد المدرسة ثم 
يتجه غرباً نحو قرية حنتوب ولكنه لا يخترقها بل يمر آمامها شرقاً. 

وني هذا المنعطف كا يقولون توجد قطية صغيرة أمامها کرنك وأمامها شجرة 
صغيرة أطلق عليها ناظر المدرسة المستر براون اسم شجرة المريسة 1766 ۷127192 ومن الاسم 
تعرفنا حتى نحن طلبة السنة الأولى أنه (إنداية) وبمجرد انتهاء سباق اختراق الضاحية 
والذي كان آول المتسابقين فيه طوال دراستنا عبدالرحمن أحمد الصومالي الجنسية والذي 
أصبح فيا بعد سفيراً للصومال قبل تفكيكها بالسودان» ثم الرئيس الأول حتى وفاته 
لجمهورية (بلاد الصومال). وهو الصومال الشالي للدولة التي لم يعترف بها أحد حتى الآن 
)0 ) وهي غير صومال النزاعات. 

بمجرد انتهاء السباق بدأت الكتيبة في وضع خطة غزو الموقع وتم الاتفاق على أن 
آنسب وقت هو مساء امیس خاصة وأننا نيعا لا نستفید من تسهیلات قضاء اة 


الأسبوع في واد مدني لأن آهلنا جميعاً من غير المدينة. 


۱۹۹ 








مركز محمد عمر بشير 

أما مسابقة السباحة فقد كنا ارسها إرضاء لرئيس الداخلية في الحصول على (نقطة) 
تفید في التصنيف الرياضي للداخلية وتدعم مركز الفائز الأول الدائم» على أيامناء في قطع 
المسافة من وإلى شاطی واد مدني دون توقف جعفر محمد نميري وينافسه صديقه عبدالله البنا 
من داخلية (ود ضيف الله) وقد كان معلوماً وسط الطلبة من أبوعنجة وود ضيف الله أن 
الصديقين كانا يقضيان عطلة نهاية الأسبوع في واد مدني حضور حفلات الأعراس التي ينقل 
النهر صداها إلى حنتوب. 

وفي الوقت الذي كانت فيه مجموعتنا تتجه سيراً إلى الحانة يتجه الصديقان سباحة. 
وعلى رس كل منهم| ملابسه» إلى الشاطی الآخر ويعودان مع انتهاء الحفلات. 

لابد من كلمة وفاء في حى فؤاد التوم ووالدته الأم العظيمة التي فتحت لنا دارها في 
أي وقت خاصة أيام عطلة الأسبوع أو قبل وبعد انتهاء الفصل الدراسي وني طريقنا إلى 
حنتوب أو في رحلة العودة إلى أهلنا بقطار الأبيض. 

عندما انضم إلينا فؤاد التوم في عنبرنا بداخلية أبوعنجة كان يعود من مدني عصر 
الجمعة ومعه ثيرموس أو إثنان ب شاي أحدهما بالقرنفل» كوب الشاي في قهوة عم محمد 
بنصف قرش بدون حليب وكنا ننعم بالشاي السادة المجاني سواء للمتعة أو للمساعدة في 
الاستذكار. 

أما أيام الجمعة والتي لا يشملها قرار الذهاب إلى أهله في واد مدني فإنه يطلب من 
(محمد) الشاب الذي يدور على الداخليات حاملاً صينية (الباسطة) والقطعة بقرش ونصف 
القرش» يطلب منه أن تكون نهاية مطافه في داخلية أبوعنجة وفي عنبرنا بالذات فنتقاسم باقي 
الصينية على حسابه. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

أما منزله في واد مدني كا ذكرت مفتوح وأمه الكريمة الودودة ترحب بكل زملاء 
ابنها سواء كان موجودا أو غائبا: 

صينية الغداء الشاي» المراتب للنوم أرضاً لمن لا تسعهم السرائر الأربعة في الديوان. 

وكعادة السودانيين والسودانيات فإنها لا تظهر علينا الا عندما لا تجد من بحضر 
الصينية أو المراتب وَتَحْرِجْنَا كا هي العادة عن سژاها عن اسمها أو سؤال فوّاد التوم عن اسم 
والدته» ير حمها الله وآنزضا أعلى عليين. 

أما والد فؤاد فقد كان يتاجر بين السودان وأثيوبيا ولم يلتق به إلا القليل من الزملاء. 
عائلة كريمة سخية ودودة لها خير الجزاء من الله. 

الفترة من يناير ۱۹6۸م حتى نهاية عام ١١۹٠م‏ والتي قضيناها في حنتوب كانت 
كلها حراكاً وطنياً في العاصمة الثلثة (الخرطوم» أم درمان» الخرطوم بحري) وفي واد مدني 
وكل المدن الكبرى والصغری في السودان: الأبيض» عطبرة بورت سودان» كسلا ... 

بدأت الدراسة في مدرسة حتتوب الثانوية في يناير 955١م,‏ أول دفعة» بعد أن تم 
تقسيم المدرسة الثانوية الوحيدة في السودان: مدرسة أم درمان الثانوية إلى مدرستين: وادي 
سيدنا شال آم درمان وحنتوب في الضفة الشرقية للنيل الازرق قبالة مدينة واد مدني ومعذرة 
للتكرار فإن الأرض التي قامت عليها المدرسة بكل منشآتها من فصول ومكاتب وداخليات 
للطلبة ومنازل للمعلمين وللعال وللموظفين بل وعدة ملاعب كاملة لكرة القدم وكرة 
السلة ونادي المعلمين ومسجد ومتجر وتقريباً كل ما يخطر على البال. كل الأرض قدمها 
هدية مجانية للعلم المواطن أحمد أبوزيد من أعيان واد مدني. وزاد عليها اجزاء أخرى العركية 


- وعبد الله والكارب من أعيان ود مدني - وإبراهيم مختار من أعيان قرية حنتوب 





مركز محمد عمر بسير 





وإضافة إلى الأرض شملت المهدية حديقة عرفت باسم (جنينة ود أبو زيد) والحاج 
أحمد أبو زيد هو والد القانوني المستشار محمد أحمد أبو زيد يشغل عند كتابة هذه المذكرات 
منصب رئيس ديوان الحسبة والمظالم. قليلون الذين يعرفون هذه الحقيقة التي لم يشهرها 
صاحبها ول تباهى بها أسرته من بعده وهكذا أصلاء السودان - وأعتذر للتكرار - ولكنه 
وفاء لمن يستحق فردا وأسرة. 

كان معلم الرياضيات إسماعيل الأزهري عند تقسيم المدرسة الثانوية يشغل في نفس 
الوقت منصب رئيس موغر الخريجين لتلك الدورة وكان يشغل منصب سكرتير المؤتمر زميله 
معلم الرياضيات أيضاً أمين زيدان. 

وقد تم نقل کلیه| إلى مدرسة حنتوب ليكونا بعيدين عن المركز الساخن للصراع 
الوطني رغم أن کلیهی| معلمان للرياضيات ما يعكس القصد الواضح للإبعاد. 

حكى أستاذنا أمين زيدان بعد فترة من تخرجنا من حنتوب ومن تقاعده بالمعاش في 
لجنة ترأسها لترجمة قوانين السودان إلى اللغة العربية حكى أن زميله الأستاذ إساعيل 
الأزهري رفض النقل الذي رأى فيه إبعاداً عن العاصمة وعن مركز العمل الوطني خاصة 
وأنه الرئيس دون منازع. 

آما هو فقد وافق على النقل باعتبار أن واد مدني في حاجة لامثاله للعمل بجانب 
الأستاذ أحمد خير المحامي (صاحب فكرة مؤتمر الخريجين والذي دعا إليه من واد مدني عام 
م ثم إنتقلت الفكرة إلى أم درمان) وخاصة بعدأن توفي أحد كبار رجال الحركة الوطنية 
المرحوم عثمان شندي في هجوم قادته مجموعة من الأنصار أثناء معارضة الاتحاديين للجمعية 
التشريعية. قبيل اعلانها رسمياً. 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

ذكر أمين زيدان في حسرة أن قبوله النقل إلى حنتوب قوبل بفتور شديد من جانب 
رجالات الحركة الوطنية في كل من أم درمان وواد مدني بل أن واد مدني عاملته بدرجة من 
التشكيك في ولائه وأنه خضع لضغوط الاستعیار وان لم توجه إليه مباشرة تهمة الجبن أو 
سهام العمالة. 

آما رجال الحكومة في واد مدني فقد شددوا عليه الرقابة واحصوا أنفاسه في كل زيارة 
إلى المدينة وعند مقابلته لأي مجموعة من المواطنين. 

وهكذا قضی معظم سنواته في حنتوب محل شك وحذر من كلا الوطن والاستعار 
إلى أن تأكد بعد حين لزملائه في أم درمان وواد مدني أنه ضحية الشكوك التي تلازم دائ 


العاملين سرا أو علناً في الكفاح الوطني. 


مركز محمد عمر بسير 








ece ۰ عم‎ 


9 
بسم الله الرحمن الرحيم 
حنتوب .............الميلة 
كا ذكرنا فقد انقسمت مدرسة أم درمان الثانوية (الوحيدة عام )١955‏ إلى 
مدرستين: وادي سيدنا وحتتوب. ورغم أن حتتوب بعيدة عن العاصمة الخرطوم أصبح ها 
اسم وصيت ابتلع كلا من (أمدرمان الثانوية الأم) ووادي سيدنا الصنو ... ثم خورطقت 
48 بل وجميع الدارس الثانوية التي قامت بعد ذلك: المؤتمر - الاهلية - الأحفاد - 
بورتسودان وجميع المدارس. 
حياها كا حيا وادي سيدنا بالاسم الأستاذ أحمد محمد صالح في قصيدته التي مدح بها أم 
... ومع ذلك ظل اسم وادي سيدنا خافتاً. قال عند انقسامها إلى شطرين 


وادي سيدنا وحنتوب ۱۹۵ - 


درمان الثانوية 


كلية غردون القدیمة 
(مدرسة أم درمان الثانوية ) 
مال میزانبا وحان السروب وانقفی عهدها فليست تؤوب 
شمس علم قد عبرت نصف قرن . وهي کال سیف عزمهام شبوب 
تبعث الدفء والحياة إلى الناس وترعی الشباب وهي تشيب 
ثم حان الفراق وانفرط العقد فريعت لدى الفراق القلوب 
کم صدیق شکافراق صديق وحبيب بکی عليه ا جیسب 
في سبيل الأوطان يستسهل الصعب ويحلو التتشريد والتعسریب 
تجين كالعوية لا تا جا ولاو لت فال هنا اط توت 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 


برزت من فراپا (وادي سيدنا) وانبرت في عرينها (حنتوب) 
يارفيق الصبا ویاعدل نفسي أين منا الشباب وهو قشيب 
يوم كنالا تسل كيف كنا والصبا وارف الظلال خصيب 
تتغنضى طي وره صادحات تلك شحرورة وذاعندل يب 


عبن كبالطيووى غ الل أضاءت وان كواها اللھب 

نقطع الليل بين كلد ودرس وسوانا الملل المحببوب 
وأضاف عبدلله الشيخ الطاهر ابن الكلية:- 

کم آس‌آناوکم فوت وأحسنت فلله منك صدر رحيب 

کرم الاصل کسرم زانه كرم النفس لعورى انت الح تسیب 

وکا حياها الأستاذ - ثم عضو آول مجلس سيادة بعد الاستقلال - أحمد محمد 

صالح - استقبلها الشاعر محمد عوض الکریم القرشي وان كان البعض ینسب القصيدة خطاً 
إلى الشاعر حميدة آبو عشر (شاعر آغنية غضبك جيل زي بسمتك) والذي كان ضمن فریق 
العمل الذي قام ببناء وتشیید مباتي الدرسة بقصيدة صارت ها عنواناً آسياها (حنتوب 
الجميلة) تغنى فنان الجزيرة الخير عثان برائعة القرشی (حنتوب الجميلة) وأصبحت نشید 
الافتتاح بعد وأحياناً الختام قبل آي الذكر الحكيم في كل مناسبات أبناء حنتوب طلبة 
وخريجين - ترتفع الأصوات: الرخيم والوخيم والناعم والأجش وتنشد في حماس يعيد 
للجمیع حیویتهم وشبابهم. 


مركز محمد عمر بسير 








حنتوب الجميلة 
كلمات محمد عوض الكريم القرشي - أداء الفنان الخير عثمان 
في اليوم الرياضي عند افتتاح المدرسة عام ١4151‏ بحضور الناظر المستر لويس براون 
هديك تحياتي وبهبديك وجداني 
الجميلة الجميلة حنتتوب الجميلة 
منظرها البديع ياروعة جلالو تعجب حين تزورو وتجلس في تلالو 
الجميلة الحميلة حنتوب الجميلة 
هنا فيها الآداب وهنا فيها الشباب ... الشباب ... الشباب 
العامل لوطنو وما داير ثواب 
الجميلة الجميلة حنتوب الجميلة 
ليك أعظم رسالة تحطيم الجهالة 
لنشر المعارف وبلدي تنيل منالا 
الجميلة الجميلة حنتوب الجميلة 
للنیل باقية شامة وال هدهد علامه ومنسق نظاما وفي تقدم دواما 
الجميلة الجميلة حنتوب الجميلة 
بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على افتتاحها تداعی خريجوها - وطلبتها - بل 
وأساتذتها الحاضرون والمتقاعدون للاحتفال بعيدها أو يوبيليها الفضي: ۸ يفعل ذلك 
منسوبو وادي سيدنا .... بل ولم يتحرك منهم أحد. رغم أن خريجي مدرسة خورطقت قد 


أدوا واجب الأمومة نحو مدرستهم - هل لأنهم كانوا من نَل وضلّب حنتوب إذ لا يخفى 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أن مباني مدرستهم لم تكتمل فقضوا السنة الأولى في مدرسة حنتوب ثم انتقلوا إليها: 
فتخرجوا سنة أولى من حنتتوب. وقد ظل خريجو حنتوب في تواصل خلاق مع بعضهم في 
شتى المناسبات وأسسوا رابطة تجمع خريجي كل الدفعات واستأجروا ما داراً ثم تابعوها 
لتكون لهم مقراً دائ) ملوکاً هم. 

عند احتفالهم باليوبيل الفضي دعوا آول ناظر ها الستر براون وكل المعلمين 
والعاملين السودانيين الأحياء الذين أثروا العقول والأبدان ... وظلوا يحتفلون ليس فقط مع 
بعضهم بل والعاملين والمعلمين السابقين وبقدامى الخريجين في تواصل فريد. 

وي العيد الخامس والعشرين اعتلى المنصة دكتور حسبو سلییان خريج دفعة ١955‏ 


(عليه واسع الرحمة - ومن زملائه أطال الله أعمارهم: دكتور أبو حسن أبو - محجوب محمد 


صالح) وألقى القصيدة التالية:- 
حنتوب 
(المدرسة الثانوية التي صنعت العظماء) 
فرقتنا مع الزما الدروب ومضيناوماعلينارقهيب 
ثم عدنا وكم غریب يؤوب ليت شعري هل كان فينا غريب 
إيه ماه قد أتي سنا الب اک نحمل الود واللقاء طيسب 
کم لعبناعل الروج وفينا من عبير الروج عطر وطیب 
کم سعدنا على الرمال صغارا وا موم الکب ار فینا تسوت 
وأقمناعل الشواطیء صرحا واستبقنا والضاحیات کفوث 
وصديقي كالصيدٍ یسبق دوماً فهو کالصید كله عرقوب 





الال اا( 
قبضوه مع الرمال فحشوا 
غطسوه في الزير وهو حبيس 
نحن یا درة الدیار ريال 
ااا ا فهسذا 
قدرفعناللعلم كل منار 
اا وات 
کو ا انوت انا 
قدبنيناالسودان في كل قلب 
ج واله مسا خحذلناك وا 


فاذكرينا ورددي حسسن شوق 


مرکز محمد عمر بشیر 


ولا ادا اد با یت 
(بدبیب) "وویلهم لو یصیب 
ثم صاحوا رباه هذادبيبٌ 
دا ات کت تیب 
قاند ملهم وهذا طبي ب 
ما عجزنا وما اعترانا أ وت 
في ظلام الأحقاد تلك الخطوب 
قاهروالموتِ إن دعانا نجيبٌ 
وکتاب السودانِ درس حبيبٌ 
انت اوها المحالي قل وب 


كل ذكرى في عمرنا اوت 





الاسم بالكامل حسب الرسول سلیان رستم (حسبو سليان) 
خريج دفعة "۱۹۶ داخلية أبوعنجة 
كبير استشاريي الطب النفسي 
كتب دكتور حسبو عنواناً لقصيدته عن حنتوب إنها (المدرسة الثانوية التي صنعت 
العظاء) - ک| يقول آخرون آنها قدمت للسودان قيادات وشخصيات لا تنسى من الرعيل 
الأول: جعفر نميري - حسن الترابي - بابكر كرار - عبدالله زكريا - خليل عثمان - حجوب 


)١(‏ شليل: لعبة شعبية سودانية 
(۲) الدبيب: الثعبان بلغة العموم السوداني 








السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
محمد صالح - صلاح أحمد إبراهيم - فتح ال رحمن البشير - محمد إبراهيم نقد - الرشید 
الطاهر ... و... ومن ذخرت بهم الدفعات المتتالية إلى أن تم اغتياها. 

لکن وادي سیدنا ندمت أشا: منصور خالد - عبد المنعم مصطفى - أحمد 
يوسف - صديق محمد أحمد - موسى عبدالله حامد - الفاتح بشارة - کال حمزة وغيرهم من 
الوادي والخور من ذخرت بهم أيضاً الدفعات المتتالية. وعفواً لمن لم يكونوا من الرعيل الأول 

مع ذلك فإن الذي وأد الدراسة فيها وفي كل المدارس (القومية) كان يخشى ولا يزال 
(يخشى) لقاء الشباب السوداني على أساس (قومی) ذلك أن (النقاء) الوطنی في تلك المرحلة 
سيظل هو الرابط الأقوى بين مقومات القومية السودانية مهما تداخلت وتزاحمت حوها 
السودان رانا أو زملاء أو رفقاء وسیر‌فعونه بعودة الوعی تاتا لآ يمينا ولا یسارا. ربا کان 
هذا الذي يرعب الذین تبیبوا الوجود (القومی) للشباب في الدارس (القومیة) وفي 
(داخلیات) تجمعهم دون وصاة أو رقباء. فحاربوها ثم قفلوها وغیروا معالها - وجنت 
الوا خالا ل تسیا لوط راخدا کا فاد وضو او ارو 

وكا استقبل الأستاذ أحمد محمد صالح حنتوب ووادي سيدنا عند انشطار مدرسة أم 
درمان وانضم إلى هيئة التدريس في حنتوب - ودع حنتوب وهو يغادرها إلى رئاسة وزارة 
العارف بالقصيدة التالية:- 





© © 


فا سس فوا 


مرکز محمد عمر بسير 


أحمد محمد صالح 
لقاء إلى وداع ٠۹٤١‏ 


ذكريات لآل حنتوب عندي 


فرکبت البخار مضطرب النفس 


وذكرت الديار والأحبابا 
وأحسست بين أهلي إغترابا 
تستثير المموم والأوصابا 
سريع الخطى أحث الركابا 


او از ااا و وی ا ودر ا 
وبرغم الزم ان تم التلاقي وأقمناالأفراح والترحاببا 
وغفرناللدهر ماکان مه ونسینا عفد اللقناء الغتاب | 
KK FR KE KF‏ 27 242 
رب عيش لنا بحنتوب ضضص كان آنقی من الزلال شرابا 
وليال هي الرييسع إبتساما عبقت بالشذى وفاحت ملابا 
ويننات امسدیل مهن باللعسجق اجا رالا ان غاا 
يوم كنا وكان شملا جميعأا تبر هر عف تاه و اضاتسا 
ذاك عهد مفی فلا تقرع السن لفات تعحول و عا نصا 
KK KKK KK‏ 3 
قال لي عاذلي تنکرت للعهد وأزدمعت فرقة واجتنابا 
وأطلت الشواء بالبلد النازح واخترت عن صحاب صحابا 
كت فقسا حل الوفماء وليه كيف خنت الصديق والاترابا 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 


أتكون العه ود منك بروققاً خلا والوعوو ستاك شیب انس 
أيها اللائمالمعضف مهلا بعض هذا ف| نطقت صوابا 
كيف أنسى صحابة آزروني وكسوني من الفخار يابا 
رفعوا منز وأعلوا مكاي فتاه سا نا تلا الحسجانا 
وتفيأت من نداهم طلالا كانتالخلدأوأعزرحابا 
من كهول أعفة وشيوخ ضربوا الجد بالعراء قبابا 
نخدم العلم لانريد جزاء ونر عل الإياءالشبابا 
وزرعناالوفاءغصنااً یلا فنازرعهوطالوطاببا 
وشباب على الفضيلة شبوا يعشقون الأخلاق والآدابا 
كلهم مرهف الشعور نيل إن ذكرت الصعب خاض الصعابا 
واذا ما دجاواظلم خطسب إنبرى كوك با ولاشهابا 
عند بذل النفوس والأمر جد یکین وانی‌أولا هیّابا 
عدت ان ممت یوم أبآمر وسيوفي إذا آردت الضرابا 
أسروني فا آطیق فكاككاً لا ولا عنه إرتضيت الذهابا 
KEK‏ 
يارفاقي دنا الرحيل وأضحى آمر هذا الفراق حت مجابا 
لكم العهد أن أظل على العهد وإلأ أزداد إلا اقترابا 
فاذكروني |ذا تسبلج فجر واذكروني إذا الأذان أهابا 
واذكروني إذاالحطوب لت واذكروني إذا الرئيس تتیسی 
واذكروا ناص حا أميناً وفيا لم يكن في ودادکم مرتابا 
ا کا + ددع د > 


۲1١ 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 
نهاية الحلم: 
لا كلية طب - لا كلية زراعة- ولا معهد فنى: 


الرحلة إلى مصر 


في فترة قفل المدرسة وقبل عودتنا استضافناء نحن مجموعة من أبناء كردفان ودارفور 
الذين ما كان يمكننا السفر لأهلناء استضافنا زميلنا محمد أحمد حسن عبدالجليل والذي 
أطلقنا عليه لشدة حیائه (توني) البطل في رواية إنجليزية كانت مقررة علينا في السنة الثالثة 
تسمی (00201165) 10 540085 )She‏ ولا يزال اللقب لاصقاً به ويتقبله بابتسامته 
الكريمة والمعهودة. 

ولقد لقينا منه ومن آسرته رعاية كلما نتذكرها نردد مع الفنان (حليل الناس النسونا 
أهلنا) وقد سعدت فيم] بعد بمزاملة وصحبة أخويه الشبلين في ذلك الوقت : إبراهيم حسن 
عبد الجليل وعبد الجليل حسن عبد الجليل: الأول بروفيسور الإدارة بالجامعة والثاني زعيم 
المزارعين والوزير في حكومة مايو. 

بعد انتهاء الامتحانات سجل كل منا الكلية التي يود الالتحاق بها إذا أهلته نتيجته 
لذلك» وقد سجلت كلية الزراعة في الوقت الذي كان الجميع يتوقع أن أسجل كلية الطب. 
ولكن لهذا قصة. 

في أثناء إجازة نصف السنة» حوالي يوليو ۱۹۵۱م حضر إلى النهود مفتش الرئاسة 
في مديرية كردفان ومقره الأبيض ويدعي المستر (ماکوماس). كان بمركز النهود ثلاثة 
مفتشين بريطانيين إذ كان أكبر مركز في السودان وجميع من شغل منصب السكرتير الإداري 
لحكومة السودان بالخرطوم كان يوماً ما الفتش الأول لمركز النهود منذ عام ۱۹۰۲م. 


۳۱6 


مركز محمد عمر بسير 








ويساعد الفتش الاو مستر بيتر هوق 11088 ۳6/6۲ مفتش قبيلة حمر التي أنتمي 
إليها وكان اسمه » هنتر ۰۳100067 والمفتش الثالث اسمه » تبس 11005 ولقبه مساعد الفتش 
لوالا 

كان بالمركز (مأمور) هو السوداني المساعد في شئون الإدارة للمستر هنتر» ويشغل في 
نفس الوقت منصب ضابط مجلس ريفي دار حمر واسمه مصطفى يوسف تكونة» وهناك طرفة 
تحكى عن تكونة أفندي حسب لقبه الرسمي. 

فقد كان له مكتبان: أحدهما في (المركز) حيث المفتشون الثلاثة» ومكتب في المجلس 
الريفي الذي يرأس فيه الجهاز التنفيذي. وقد كان تكونة أفندي يود أن يوضح للمواطنين أن 
عمله في (المركز) الذي يتبع السكرتير الإداري» ووزارة الداخلية فيا بعد. يختلف عن عمله 
في (المجلس) الذي يتبع قسم (الحكومة المحلية) في مكتب السكرتير الإداري. 

هناك أعمال يقع تصريفها من اختصاص المركز مثل الحصول على تصديق المباني في 
المدينة أو رخص السيارات أو القيادة» كما أن هناك أعمالاً من احتصاص الحكومة المحلية مثل 
مكافأة رجال الادارة الأهلية في تحصيل الضرائب أو الرخص التجارية ونحوها. 

فكان إذا حضر مواطن في عمل يخص (الرکز) وهو جالس في مكتبه في (المجلس) 
يطلب منه أن يذهب إلى مأمور المركز الذي هو مصطفى أفندي تكونة. 

وإذا كان الامر خص عمل الحكومة المحلية وهو في المركز يطلب منه أن يذهب إلى 
ضابط المجلس» وعندما يذهب الواطن بعد فترة إلى مكتب الضابط يجد تكونة أفندي هناك. 

وقد ساهم أسلوبه بطريقته الأبوية الصارمة في أن يتعلم المواطنون بسرعة تقسيم 
الاختصاصات. 


515 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

حضر المستر (ماكوماس) وطلب من تكونة أفندي أن يستدعي إبراهيم منعم 
منصور لمقابلته وبحضوره في مكتب مساعد المفتش لدار حمر المستر هنتر. 
سألني المستر ماكوماس عن رغبتي في الدراسة بكلية غردون التذكارية إذا نجحت في امتحان 
شهادة كيمبردج» أجبته على الفور: الطب. رد على الفور: لا. تدخل مدرسة البوليس 
والادارة School of Police & Administration‏ 

كانت المفاجأة أكبر من أن أتحملها فانفعلت فيه أنني أنا الذي أختار ما أدرسه. وفي 
برود إذهلني رد بأننا نحن الذين نختار لك ما تدرسه فأنت ابننا: ابن الشيخ منعم منصور 
ناظر عموم حمر. 

ثم طلب مني أن أصغى إليه جيداً لأنه سيتحدث عن خطة الحكومة لمستقبل 
السودان لفترة عشرين سنة قادمة» أولاً: سوف تحكم البلاد بحكم محل بواسطة مجالس ريفية 
ومجالس بلدية في الدن الكبرى. ثانياً: سوف تلغى (الراکز) تدريجياً ويختفي (مفتش المركز) 
ويحل مكانه (ضابط بلدية) أو (ضابط مجلس ريفي) وتتحول سلطات مفتش الرکز إلى 
المجلس الريفي وإلى قاضي مقيم يتبعه البوليس لحفظ الأمن. 

ثالثاً: سوف يتم اختيار الضباط خاصة ضباط المجالس الريفية من أبناء النظار 
والعمد والأعيان الذين يملكون المؤهلات لأنهم سيكونون أقدر على تفهم أحوال أهلهم في 
الأرياف من أولاد الأفندية والتجار في الدن والذين سوف يشوهون أهداف الحكم في 
الأقاليم ولكن سيكونون من ضباط المجالس البلدية. 

رابعاً: سيتم إلغاء المراكز ووظائف المفتشين وإحلال الضباط تدريجياً با في ذلك 


وظيفة مدير المديرية والذي سيصبح كبير التنفيذيين 8260101176 562105 ويحلول عام 





مركز محمد عمر بشير 
١‏ أي خلال عشرين عاماً سيكون الذين يديرون السودان كلهم من السودانيين 
وسوف لا يوجد من البريطانيين إلا أربعة وهم معالي الحاكم العام» سعادة القائد العام 
سعادة السكرتير المالي» سعادة السكرتير القضائي. وستعم عملية الإحلال كل الوظائف 
الأخرى في جميع المصالح. 

هذه الأسباب ولتحقيق هذه السياسة كان دخولي كلية الطب غير مکن» وعلى أي 


حال سوف يتم إخطار الكلية بعدم قبولك عندما تذهب إلى الإنترفيو. 





في ذلك الوقت كان الدخول لكلية الطب ليس فقط بالتفوق الدراسي بل بالعاينة 
التى يرأس جلساتها مدير المصلحة الطبية (وزارة الصحة) وعميد الكلية ومسئول شئون 
الطلبة ۷۷۵۲۵6۵۲ Students‏ وقد روى المهندس أحمد الطيب بابكر زمیل في عمل المقاولاات 
فیما بعد أن أول دفعتهم الذي أحرز الدرجة الأولى 006 65306 بأرقام ممتازة في معظم العلوم 
تقدم لكلية الطب كالعادة. وعندما سئل ماذا سیفعل إذا لم يقبل في الطب رد على اللجنة: 
ليس هناك من سیب يمنع قبولي فأنا أول الدفعة. كان الرد الباشر من رئيس اللجنة: هذا هو 
السبب الذي يمنع قبولك فأنت مغرور 000001060 أكثر من اللازم وإذا كان هذا هو ردك 
من الطب. 

ولعل من محاسن المعاينة (الإنترفيو) آنها أبعدت مثل هذا الطالب من كلية الطب. 
وكذلك من محاسنها آنها أبعدت عون الشريف قاسم أيضاً من كلية الطب إذ كان يسكن 
ضاحية (حلفاية الملوك) واستقل (البص) قاصداً الخرطوم للمعاينة لدرسة طب کتشنر (كلية 
طب جامعة الخرطوم فیا بعد) تعطل البص الوحيد في الطريق. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وكان عليه أن يسير راجلا حتى مدينة الخرطوم بحري لكي يستقل سبل الواصلات 
الأخرى ليصل إلى مباني الكلية في شارع (فكتورياء القصر الآن) قرب مباني محطة سكك 
حديد الخرطوم بعد فوات الميعاد بساعات. 

لولا المعاينة لخسر السودان العالم والمفكر بروفيسور عون الشريف قاسم. 

أكد لي الستر ماكوماس أنني سوف لا أقبل في كلية الطب وإزاء رفضي القاطع بأنني 
سوف لا آقبل دخول مدرسة البوليس والإدارة فأوصاني بأن أدخل أي كلية لدی سنتين حتى ولو 
لم تكن كلية البوليس والإدارة والتي تتكون الدراسة فيها من سنتين يحصل الخريج على دبلوم إدارة. 

وفي خلال السنتين أقبل أن أتدرب أثناء الإجازة في مجلسين: أحدهما كا سیاه 
Mode! Municipal Counc‏ وهو مجلس بلدي مدينة بورت سودان إذ إن العمل في هذا 
المجلس يشمل التعامل مع البواخر والأجانب الذين تحملهم إلى داخل المدينة ليقضوا فترات 
قد تمتد إلى أيام. كا أن بها الميناء والجمارك ثم احج السنوي والعمرة. آما المجلس الثاني 
Mode! Rural Counc‏ فهو مجلس ريفي أم روابة فقد ذكر فيه تنوع القبائل وتنوع 
المحاصيل وأنه من المجالس التي بدأت فيه تجربة تسليف المزارعين وهي تجربة إذا استمرت 
ونجحت سوف تغير الحياة في البيئة الريفية ويمكن تطبيقها على مناطق أخرى ومنها ريفي 
حمرء ويعتبر كذلك 2011نا00© ۳721 3240061. وحتى يكتمل الترغيب والاغراء فقد أكد لي 
المستر ماكوماس أنني إذا دخلت مدرسة البوليس والإدارة أو قضيت أي سنتين دراسيتين في 


أي كلية وتدريب خلال الإجازات في هذين المجلسين فانه سوف يرقيني بعد سنتين إلى درجة 





.۳ وهي درجة أكبرء كما قال لي » من درجة تكونة أفندي الذي هو في الدرجة أف‎ .DS 


وبسرعة أكد لي تكونة أفندي أن 08 أكبر من درجته وأنه إذا قدر لي أن أحضر لمجلس ريفى 








مركز محمد عمر بشير 
دار حمر فسوف أبدأ عملي فوراً بأعلى من درجته» ورئيساً عليه. في سن الشباب تلك 
والطموحات وما ختزنه العقل الباطن من مقارنة بين ضباط المجلس والدكتور ۸ أقتنع ۶ 
التزم به المستر ماكوماس في حضور مساعد الفتش لدار حمر ومأمور المركز وضابط ريفي 
مجلس دار حمر وطلبت مهلة للتفكير لحين ظهور نتيجة الامتحان. 

وني ختام الجلسة التي استمرت قرابة الأربعين دقيقة ألمح لي المستر ماكوماس أنهم 
أرادوا إقناعي والبدء في تدريبي برضی مني ومن والدي ولا يريدون تكرار ما حدث لنصور 
أخي حيث أدى عدم انضباطه وعدم طاعته لناظر المدرسة الأميرية (الحكومية) الوسطى في 
الأربعينات عام 957١م‏ إلى إخراجه من المدرسة قبل !کال تعليمه الأوسط والحاقه بقوة 
دفاع السودان (القوات السودانية المسلحة في بعد). 

قصة أخي منصور أكبر آبناء الشيخ منعم والذي التحق بمدرسة الأبيض الأميرية 
الوسطى تمهيداً لتعليمه وتنويره ليكون خليفة لوالده وتطبيقاً لسياسة إلحاق أبناء زعماء 
العشائر بالمدارس لخلق جيل من نظار القبائل على درجة من العلم بجانب ما يتلقونه من 
تجارب وهم يلازمون آباءهم في المحاكم وفي مجلس الصلح والحكم. 

تطبيقاً هذه السياسة ألحق حسن ابن السير علي التوم ناظر الكبابيش بنفس المدرسة 
كا ألحق هارون ابن أحمد عمر ناظر الجوامعة وابن عمه الطيب هارون بمدرسة الدويم 
الريفية الوسطى. 

كان مع منصور مجموعة من الأصدقاء الذين يسمر معهم ولا تخلو مجالسهم في 


(فريق أبو خمسة) بالأبيض من تجاوزات وهو حى عرف بذلك. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

وقد كان منصور متزوجاً كا سبق بيانه من ابنة الناظر ناصر محمد الشيخ» جدية 
حتى يذهب إلى المدرسة مستكملاً نص دينه ويشعر بالمسئولية. وفي لحظة دعابة ذهب أحد 
الأصدقاء إلى مكتب البريد وأخذ ورقة تلغراف وكتب عليها برقية (ابننا منصور منعم 
المدرسة الأميرية الوسطى رزقتم بمولودة أسميناها نفيسة مبروك ... والدكم). 

فأصبح اسمه من لحظتها (أبو نفيسة) وقرر الأصدقاء الاحتفال بالمناسبة والتي يبدو 
أا تجاوزت حدود السهر فحضر مع بعض الأصدقاء متأخرا في طابور الصباح قبل 
بدء الدراسة. 

وییدو آن اادثة ‏ نکن الأول فقرر الناظ عمر سلیمان توقیع عقوية 
الجلد علیهم. 

وكما قام بعضهم بتزیین الوضع الجديد له کب حرضوه خفية بعدم الامتثال للجلد 
(وتنر) آنا آبونفيسة فاعتدی على (الاربعة) من الفراشین وکبار الطلبة الذین یرفعون الطالب 
من يديه ورجلیه لیتلقی العقوبه. 

ولا كان الرفض والاعتداء آمام الطلبة في الطابور بحضور الناظر وکل الأساتذة فقد 
قرر الناظر أن یرفع الأمر إلى مدير الديرية في الابیض نسبة لکانة والد الطالب والذي ربا 
كان یتعرض للفصل من الدرسة إذا لم يكن والده ناظر قبيلة. 

استدعی الدیر الطالب بعد أن تأكد على تکرار سوء السلوك الذي بدر منه الامر 
الذي یتطلب تأديبه حتی یکون مطیعاً ومنضبطاً لكي یکون جديراً بمنصب وکیل ناظر عموم 
دار حمر في الستقبل. 


مركز محمد عمر بشير 








كانت الحرب العالمية الثانية (914١م-1450١م)‏ دائرة في ذلك الوقت وقوة دفاع 
السودان تحارب في الحبشة التي اعتدت عليها إيطاليا وهناك (بلوك: كتيبة) تستعد للسفر إلى 
هناك فقام مدير المديرية با حاقه بها وسافر منصور مجنداً إلى الحبشة . 

ولا كان قد دخل المدرسة الوسطى ويعرف قدراً من اللغة الانجليزية فقد عينه 
رئيس الفرقة في درجة (بلوك أمين) أي أمين خازن أو ما شابه دون إعفائه من كافة التدريبات 
العسكرية التي يؤديها الجنود الستجدون حتى يكون في تمام الاستعداد للخدمة. 

وبعدما استقر به المقام جندياً في قوة دفاع السودان أخطر مدير المديرية الشيخ منعم 
بالإجراء التأديبي الذي أتخذه بشأن (إبننا) منصورء وقد وافقه الوالد لعلمه أن ما تم في صالح 
الولد ومستقبل القبيلة. 

جال في خاطري كل ذلك في شريط سريع وبدأت أستعد لمرحلة جديدة في حياتي 
خاصة بعد أن أخطر المستر ماكوماس والدي بأني رفضت كل العروض التي قدمت لي. 

وبعد انتهاء إجازة نصف السنة وأنا أستعد للسفر إلى حنتوب للفصل النهائي في 
المرحلة الثانوية والجلوس لامتحان الشهادة أبلغني والدي بأنه لا يوافق على سفري ولا على 
تكملة المرحلة الثانوية أو الجلوس لامتحان الشهادة ما دمت قد خالفت قرار المستر 
ماکوماس. 

ورغم ما قدمت من شرح وما تطوع به الوسطاء لم يتغير الوقف. ولحسن الحظ فقد 
كان على أيامناء ولا آدري الحال الوم فقد كان یصرف لنا آول العام كل الکتب القررة في 
کل العلوم ونتعهد باعادتها آخر کل سنة دراسية. 


۳۳ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

ولا كانت معي كتبي فقد بدأت مذاكرة يومية جادة لكل المواد ما عدا مادة الجغرافيا 
التي يعشقها عبدالله زكريا ورأيت أن مقررها أطول من أن أستوعبه بدون مساعدة أستاذ في 
فصل فقررت أن أسقطها من المواد التي سوف أجلس ها وبمعنى آخر بلغة الطلبة في زمننا أن 
(أدكها) وقد كان. 

ولا كان الحد الأدنى للعلوم التي تؤهل الطالب للشهادة هو ستة علوم فقد رکزت 
على: اللغة الإنجليزية» الأدب الانجليزي الرياضيات الأولية» التاريخ» اللغة العربیت 
العلوم الاولية والعلوم المتقدمة. 

وقد كان من الممكن أن أضيف عليها علم (الصحة العامة) 6نع(3! وهو علم 
بسيط وسهل ولكن لم يكن لديه كتاب في المقررات فاثرت عدم المغامرة. 

حاول بعض الأهل تقديم عون مالي يمكنني من السفر ودفع القسط الأخير من 
مصروفات المدرسة ولكنهم تهیبوا أن يعرف والدي بالأمر إذ كان التعليم في غالبه (مجاناً) ما 
عدا الطلبة الذين أباؤهم مقتدرون. 

غير أن العم عتمان» زوج خالتي فاطمة» حضر من صقع الجمل واستفرد بي لیلا 
وسلمني (حِجل) من الفضة ثقيل الوزن وحتى لا يحرجني فقد أكد لي أن هذا (الحجل) أحد 
خلفات المصوغات التي تركتها والدتي عند وفاتها منذ حوالي ۱۵ عاماً وظلت خالتي تحتفظ 





به وتذكرته هذه الأيام عندما سمعت بحالتي. 

وطلب مني عدم بيعه إلا بعد عودته بعدة أيام إلى صقع الجمل حتى لا يربط أحد 
بين الزيارة والبیع» ونصحني أن يتم البيع لدى مولانا الصائغ عباس الفكي علي عبدالماجد 
وهو شيخ ورع وفقيه النهود الأول. وهو ابن عم منصور خالد عبدالماجد المشهور بدكتور 





مرکز محمد عمر بشير 
منصور خالد» وخال إدريس الصوييم رائد الحركة الوطنية الأول بمدينة النهود قبل انتقاله 
إلى مدينة نيالا عندما أصبحت الرکز التجاري الأهم في دارفور بعد وصول خط السكة 
الحديد إليها. 

قام أخي محمد الشيخ منعم بعملية البیع وقد اخترته للمهمة لأنه معروف لدى 
مولانا عباس الفكي علي بصفته أحد تلاميذه في معهد النهود العلمي وبصفته. وهذا الأهم. 
الشخص الذي يعهد إليه والدي سنوياً بحمل ما لديه من ذهب وفضة ليذهب بها إلى مولانا 
لوزنها وتحديد (الزكاة). 

ونسبة لحجم وزن (الحجل) فقد كان مبلغه كافياً لمقابلة كل احتياجاتي وساعدني 
بكل التقتير الذي مارسته والمساعدة من أخي منصور لفترة طويلة. 

وبعد ظهور نتيجة الشهادة الثانوية حصلت على الدرجة الأولى التي تؤهلني 
للدخول إلى أي كلية» ولكني كا ذكرت فقد وضعت كلية الزراعة أسبقيتي الأولى امتثالاً 
لحديث أو تحذير المستر ماكوماس للبعد عن كلية الطب واختيار أي كلية أخرى لقضاء 





وقد جاء اختيار كلية الزراعة لأن من المتقدمين ها الصديق منذ مدرسة الدويم 
الريفية الوسطى مهلب عبد الرحمن علي طه ولأنها بعيدة من الخرطوم» في ضاحية شمبات؛ 
ولا أتعرض منها أو هكذا خيل لي إلى المضايقات من المستر ماكوماس وأعوانه. 

ولكن الدراسة لم تبدأ في يناير ۲٥۱۹م‏ كما كان معلوماً لنا إذ تم تغيير التقويم لكي 
تبداً السنة الدراسية الجامعية في أول يوليو من كل عام. وكذلك اليزانية السنوية للحكومة. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وقد شغلت نفسي بالمذاكرة وكذلك بإعطاء دروس في الرياضيات لأبناء عبدالله 
وبشير محمود وهما من (قبيلة البرياب) التي سكنت صقع الجمل في كنف عميدها ولكن من 
أركان حمر أيضاً الشرتاي بخاري على وسأتطرق له في الحديث عن القبيلة» آما عبدالله وبشير 
محمودء ومعه| أخوهما إبراهيم محمود. فقد كانا من كبار تجار صقع الجمل فالنهود في 


بعد.ومن أقرباء الدكتور الدرديري إبراهيم. 





وعند قرب بدء الدراسة توجهت للخرطوم واستضافني عبدال رحمن عمر عبدالله 
آول نائب برلماني لدورتين عن الدائرة الشمالية الشرقية لدار حمر في أول انتخابات حددت 
استقلال السودان. 

قابلني بالخرطوم ثلاثة من أبناء النهود أحدهم محمد البشير مفرح طالب كلية 
البيطرة وخال بشير آدم رحمة ووالد زوجته إسراء وأخبرني أن مسئول الطلبة بالكلية (ابراهیم 
أحمد) يسأل عني. 

وبعد التشاور مع بعض الأصدقاء قررت أن ابتعد عن حيط كلية الخرطوم الجامعية 
ولا أتابع قبولي في كلية الزراعة رغم إلحاح مهلب وتقدمت لوظيفة محاسب في شركة النور 
والقوى الكهربائية (/32م0050) )Sudan Light & Power‏ وكانت بجانب قيامها بتوليد 
الطاقة الحرارية للكهرباء في (بري) تقوم بتسییر خطوط مواصلات ترام كهربائي بين 
الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري» وترام بخار بين الخرطوم بحري وشمبات حتى 
شاطیم النيل. 

هذا بالإضافة إلى احتكار تسيير بصات تربط الخرطوم بأم درمان حتى محطة (ود 


مركز محمد عمر بشبر 








يربط بين أبوروف وشمبات خط نهري (معدية) وبالإضافة إلى كل ذلك فإن الشركة 
مسئولة عن صيانة كبري الخرطوم أم درمان وكبري الخرطوم بحري الخرطوم وتحصل عن 
كل سيارة تاکسي بين الخرطوم وأم درمان مبلغ خمسة قروش في كل رحلة ونصف هذا المبلغ 
ما بين الخرطوم والخرطوم بحري. 

وقد وضح لنا في] بعد أن كلا الجسرين شید على نظام البوت (801) باحتكار لمدة 
ثلاثين عاماً انتهت في ۱۹۵۱م. قابلني مدير الشركة بترحاب كبير ونصحني أن شهادتي 
تؤهلني للدراسة العليا ولكن إذا كانت ظروفي لا تسمح من الأفضل أن أتقدم لمعهد عال 
أسس حديثاً ویتبع لصلحة الأشغال العمومية ويقوم بتدريس علوم ال هندسة المختلفة: مدنية 
وكهربائية وميكانيكية كا آنه» وهذا مهم في حالتي» يعتبر الطلاب المقبولون موظفين 
بالصلحة في درجة (1) الحكومية وتستوعبهم الأشغال العمومية في خدمتها بمجرد تخرجهم 
كما أن فيه فرصاً لبعثات في بريطانيا. 
شكرته وراقت لي الفكرة وعند مناقشتها مع بعض أبناء الدفعة علمت منهم أنهم تقدموا 
للمعهد الفني الجديد وتم استيعابهم في خدمة الأشغال وستبدأ الدراسة في نفس التاريخ مع 
كلية الخرطوم الجامعية. 

وأننا سنكون الدفعة الثانية في المعهد لآن المعهد بدأ الدراسة قبل سنة التحق به من 
أبناء حنتوب بابكر علي التوم. 

وقد كانت لبابكر شهرة لدينا لانه أحد أركان البطولة المحبوبة في مسرحية (الرجل 
والسلاح) للكاتب الأيرلندي الشهير بيرنادشو (2420 156 4هة 5تصة) انخرطت مع 


الأخوة حميدة محمد افادي أحمد خليل» بدر الدين إبراهيم وغيرهم. 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وقبل أن اصرف مرتب شهر يوليو ۱۹۵۲م وكان ۱۸ جنيهاً مصرياً إذ كانت العملة 
القانونية هي الجنيه الصري إذ نحن تحت الحكم الثنائي البريطاني المصري. قبل الصرف 
بأسبوع أذاع الیوزباشی محمد أنور السادات البلاغ رقم )١(‏ بقيام ثورة ۲۳یولیو في مصر 
بقيادة اللواء أركان حرب محمد نجيب. 

في هذه الأثناء ظل البحث عني جارياً إلى أن تقدمنا في المعهد الفني بعريضة بأن 
يكون مرتب الخريج في الدرجة أتش (11) وليس (1/11) وحضرت للمعهد لحنة برئاسة 
الهندس ومسئول شئون الطلبة في كلية الخرطوم الجامعية (إبراهيم أحمد/ وزير المالية في 
الديمقراطية الأولى ومدير البنك التجاري السوداني عند قيامه عام ١971١‏ م). 

وعند مرور اللجنة على الفصول والورش لمحني إبراهيم أحمد وبفراسة غير عادية 
قارن الشبه بيني وبين والدي ولكنه تريث إلى أن ذهب وطلب من محمد البشير مفرح أن 
يتأكد آنني في العهد الفني أم أن من رآه جرد شبه. 

ولا رأيت الرسول اختفيت منه ونبهت زملائي بان ینکروا وجودي وسطهم. 
وفجأة سمعت في الإذاعة المصرية وقرأت في الصحف السودانية أن قائد الثورة اللواء محمد 
نجيب والذي ينسب»بحق» إلى أصول سودانية قد أعلن أن أي طالب (ناجح) في الشهادة 
بصرف النظر عن درجاته ويريد الالتحاق بالجامعات المصرية سوف تجد له الثورة مکانا. 

وم يثر الاعلان في نفسي شعوراً غير عادي إلا عند عطلة نهاية الأسبوع إذ قابلت في 
(المحطة الوسطى) بالخرطوم وهو ملتقى الترام القادم من أم درمان والخرطوم بحري والذي 
يربط بطريقة دائرية بعض أجزاء الخرطوم عن طريق شارع السيد عبدالرحمن الحالي ویسمی 


(ترماي الدوران) قابلت أحد أساتذتي البريطانيين في حنتوب ويدعي جون لويس 





مركز محمد عمر بسير 





جونز(10265 اسع[ «طه[) وكان يدرس مادة الأدب الإنجليزي والتاريخ والتربية 
الو طنیة(1۷169)). 

سألني في أي كلية درس فسردت له باختصار ما حدث مع الستر ماکوماس حتی 
لحظة مقابلته وأني ربا سافرت إلى مصر لدراسة الطب بادرني بسرعة 007٤‏ 

بعد قیام الانقلاب الصري وأحاديث السياسة سوف تحدث تغیبرات في الوضع 
بالسودان وسواء حدثت أو لم تحدث فان مستقبل السودان یتطلب أن يتجه الطلبة البرزون 
إلى العلوم الإنسانية» وآنه سر كثيراً لاتجاه حسن الترابي لدراسة القانون لا الطب وافندسة. 

وبا أن كلية الخرطوم الجامعية ليس بها كلية لتدریس الاقتصاد فانه ينصحني إذا 
اتجهت إلى مصر أن آدرس الاقتصاد. وتساءلت ما هو الاقتصاد؟ تبسم ووعدني إذا حضرت 
غداً في نفس المكان والموعد أن بهديني كتاباً مبسطاً يجيب على سؤالي ثم نجلس لنتناقش بعد 
ذلك بأيام. 

وفي جلسة بمكتبه في مصلحة المعارف التي نقل إليها من مدرسة حنتوب أقنعني 
تماما بتغيير مساري إذ حبب لي العلم. وزاد عليه بأنه هو الذي يحرك تقدم البلاد أما الأطباء أو 
الهندسون فيمكن استئجارهم من أي مكان غير أن العاملين في حقل الاقتصاد والقانون 
يشكلون المجموعة التي تقود البلاد سياسياً على أساس من العلم وليس اهواية. ولا أريد أن 
أعلق على اتجاه بجموعات الأطباء الذين تسربوا للقيادة السياسية. 

وبعد أن صرفت مرتب شهر أغسطس ۸۱۹۵۲ بدأت آبحث عن رفاق درب إلى 
مصر فوجدت شرف الدين مصطفی شرف الدين أحد أبناء الدفعة من واد مدني وحنتوب 
وأخ مشرف الداخلية وأستاذ العلوم إبراهيم مصطفى. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

وقد أخبرني شرف الدين أن أخاه الطبيب دفع الله مصطفى حكيمباشى مستشفى 
بورت سودان ذهب في إجازة إلى مصر ورتب له القبول بكلية طب الدمرداش. 

لقب حكيمباشى كان سائداً ويعني الحكيم (الطبیب) المسئول عن المستشفى. أما 
الدمرداش فكان أحد الخيرين المصريين الذي أنشأ على نفقته كلية للطب أصبحت فیا بعد 
معروفة باسم كلية طب عين شمس . 
إلى مصر: مع كل الود والحب : 

استخرت الله وتوجهنا ذات صباح مع شرف الدين مصطفى سوباً إلى محطة سكك 
حديد الخرطوم وغادرنا بقطار حلفا متجهين نحو القاهرة. لم أخطر أحداً سوى عبد الرحمن 
عمر عبدالله الذي ودعني مشفقاً. وسوى التجاني محمد أحمد الصحفي بجريدة السودان 
الجديد على عهد أحمد يوسف إبراهيم (أبو الصحف) وهو زميل صغر وصبا عمرء وسأتناوله 
في موضوع خاص. رافقنا في القطار طالب یلیس بدلة كاملة ويتحدث بطلاقة وثقة وقدم لنا 
نفسه بأنه طالب في القاهرة واستبشرنا به فشخصيته المحببة التي تألفها من أول وهلة وعرفت 
أنه من (بارا) بكردفان اسمه حيدر مكي فاقتربت منه أكثر. 

عرفنا منه أنه بوصولنا مدينة (وادي حلفا) حلفا القديمة قبل قيام السد العالي الذي 
آغرقتها مياهه» سوف نستقل باخرة نيلية بها صندل درجة ثانية يركبه في العادة الطلبة فقط إذ 
إن الحكومة المصرية تمنح تصاريح سفر مجانية بالدرجة الثانية بالقطار من الإسكندرية أو 
القاهرة إلى آسوان ثم بالباخرة وبالقطار إلى الخرطوم وبالعكس. 

وعليه وبا أن الباخرة سوف لا يكون فيها ركاب إلا الطلبة فلا داعي لشراء تذاكر 
من حلفا إلى سوان» وب أن الأخ شرف الدين مصطفى له أخ معلم هو إبراهيم مصطفى فقد 





مركز محمد عمر بسير 





استخرج له (تصاريح سفر) على كفالته وأصبح الأمر متعلقاً بي أنا فقط لأن حيدر لديه 
(تصاريح سفر) من الحكومة المصرية وهو عائد من الإجازة. 

دخلت الباخرة دون تذكرة وفي (قمرة) الدرجة الثانية والتي بها سريران فوق 
بعضهیا ورغم إصرار حيدر فقد رفضت أن أنام على أي من السريرين واستلقيت على بطانية 
بالأرضية واستغرقنا جميعاً في نوم عميق بعد رحلة طويلة بدأت من الخرطوم ويفترض أن 
تنتهي صباح اليوم التالي في الشلالء الميناء البحري» لمدينة أسوان المصرية. شعرنا ليلا بأن 
باب (القمرة) قد فتح وأن شخصاً أضاء نور (بطارية طورش) ثم قفل الباب دون أن 
يتحدث إلينا. 

نزلنا في الأرض المصرية وفحص ضباط الجوازات وثيقة السفر وتسمى (الشهادة ب 
8 6711110216/)) ول يكن تفتيش جم ركي يذكر في أغراض الطلبة. 

وبا أن حيدر قدم النصح ووفر لي تكلفة التذكرة فقد بدأت آرتب معه كيفية 
التصرف في ركوب (قطار الصعيد) كا كان يسمى والذي سيقلنا إلى القاهرة في الرابعة عصراً 
لنصل نهار اليوم التالي لنبدأ إجراءات التقديم للدراسة وتدبير أمر السكن. 

وفجأة حضر عسكري مصري وطلب مني ومن حيدر أخذ أمتعتنا والتوجه معه 
لکتب جناب البكباشي (المقدم) وجدنا مع البكباشي أحد السودانيين قدم نفسه بأنه وكيل 
سكك حديد السودان بين حلفا والشلال وإنه المسئول عن إدارة البواخر التي تسير بين 
البلدين وطلب منا إبراز التذاكر التي رکبنا بها الباخرة من حلفا. 


۳۳۰ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

كان ردي بأني علمت أن الباخرة خصصة للطلبة وركبت بدون تذكرة على أساس ان 
(الكمساري) سوف يفتش الركاب كالعادة وسأدفع قيمة التذكرة. دافع عني حيدر بأن هذه 
آول مرة أسافر لمصر وأنه لا يعرف أنه كان عليه شراء تذكرة مقدما. 
لم يقتنع وكيل السكة حديد وأمر البكباشي المصري العسكري أن يأخذنا إلى (الحبس) وهكذا 
أول ما وطئت رجلي أرض الكنانة كانت في سجن (ميناء الشلال) وهو غرفة متر ونصف في 
ثلاثة أمتار عليها في جانب (مصطبة) جلسنا عليها وأنا غير مصدق. آما حيدر فكان في حالة 
اعتذار» حقيقي» بأنه السبب» ولكنها ستفرج. 

كنت في ذلك الوقت آدخن السجائر وكانت الاركة النتشرة في السودان هي 
(البحاري) وليست معروفة في مصر لوجود إنتاج حلي رخيص السعر وإنتاج مستورد سعره 
ليس في متناول العامة والعساكر. 

تساءل العسكري عن ماركة السجائر التي أدخنها وأطلعته عليها وعرضت عليه 
بدل السجارة الواحدة سجارتين فكان أن ذاب الجليد وسألنا إن كنا قد تناولنا وجبة الإفطار 
أو نحتاج إلى (جرانيل» ترجمها لي حيدر بأنه يعني جرايد) نفرشها على المصطبة لنكون 
أكثر راحة. 

وقبل بدء التعامل معه جاء عسكري آخر وطلب الذهاب معه إلى المكتب وعند 
دخولنا وجدنا وجبة إفطار كاملة في مستوى ما يقدم على قطارات سكك حديد السودان. 

وهنا فقط عرفنا اسم وكيل السكة الحديد: محمد كرار» من واد مدني وشقيق كل من 


إبراهيم كرار لاعب فريق الاتحاد مدني ولقبه أبو مامت وكذلك شقيق زميلنا بابكر كرار. 


مركز محمد عمر بسبر 








وبعد الإفطار عدنا إلى السجن وحوالي الساعة الثالثة والنصف ظهراً أخذنا محمد كرار 
إلى حطة السكة الحديد واشترى لي تذكرة درجة ثانية إلى القاهرة على حسابه واحتجز حيدر في 
الشلال عقاباً له. لقد رصدنا محمد كرار في حلفا. فهو من واد مدني ویعرف ‏ شرف الدين 
وقطعاً تأكد له أني وحيدر لسنا من بلدة مدني وم أتقدم لشباك التذاكر لأشتري تذكرة. 

حكى لي حيدر فيم| بعد أنه بمجرد أن تحرك القطار أركبه معه سيارته وذهب به إلى 
منزله وقدمه لأسرته وحذره من المسلك الذي سار فيه وأنه كان من الممكن أن يدخل طالباً 
بریئا هو أناء في مشاكل تعرقل مستقبله في بلد كمصر قبل أن يبدأ الدراسة. 

ورغم ذلك فقد صاحب الأسرة في جولة حول أسوان والخزان ثم دخول السيناء 
وفي اليوم التالي اصطحبه إلى محطة السكة الحديد وأشرف على سفره للقاهرة. 

أما أنا فقد قررت هذه المرة أن (أربط كفاحي) كا كنا نقول مع زميل حنتوب 
والرحلة» والحياة فا بعد» شرف الدين مصطفى. 

وتعرفنا في القطار على طالب في كلية الزراعة اسمه محمد الغالي سلییان: أحد خبراء 
الزراعة وتصنيع السكر بالسودان فیا بعد. وأوصلنا معه من (محطة مصر) إلى أحد بيوت 
السودان الثلاثة في القاهرة التي خصصت لسكن الطلبة الجامعيين: المنيرة المبتديان والقصر 
العيني. وذهبنا معه إلى بيت السودان في المنيرة. توفى محمد الغالي سلیان بعد عطاء لا يقدر في 
بجال السكر» وفي صمت في أبريل ١١١7م‏ وللأسف قرأت نعيه بعد فترة ولم أتمكن لظروني 
الصحية من التعزية فيه. 

وكان هناك بيت رابع للطلبة السودانيين بمصر: في الجيزة لم أتعرف عليه إلا بعد 


تهون تنا کرو حكومة السودان لا الحكومة المصرية. وخصصته للطلبة الذين تبعثهم 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
حکومة السودان من خريجي معهد أم درمان العلمي القسم العالي (الثانوي) لیلتحقوا بكلية 
دار العلوم بجامعة فوّاد الأول (القاهرة) وهؤلاء يتم تعينيهم معلمین في الدارس الوسطی 
ویرسلون للقاهرة وهم موظفون لیعودوا للتدریس في مدارسهم. وهم في هذا الوضم 
یتعاطون بجانب السکن الجاني الکامل مرتباتبم في هيثة التدریس وتضاف ها علاوة (البعثة 
الدراسیة) التي تمنح للطلبة الذین يبعثون إلى المملكة التحدة وهي ثلائون جنيهاً إسترلينياً في 
الشهر- تقل قليلاً عن الثلائین جنيه مصري- بالإضافة إلى (بدل لبس) ومبلغاً لشراء الكتب 
ومعينات الدراسة الأخرى. وهؤلاء قلا يختلطون ببقية الطلبة وهم وضعهم المميز لدى 
(وكيل حكومة السودان- السفير السوداني بعد الاستقلال) وبالطبع ليست لهم علاقة مع 
الحكومة المصرية ولا وكيل وزارة شئون السودان الدرديري أحمد إساعيلء والمسئول عن 
الطلبة الذين يدرسون على نفقة الحكومة المصرية. 

وفي صباح ۳ سبتمبر 1907م دخلت مصر من البوابة الجنوبية الشلال وقضيت 
بعض النهار في سجنها وفي 6 سبتمبر وصلت القاهرة مع شرف الدين مصطفی واستقر بنا 
المقام في بيت السودان وأخبرنا المشرف أنه غير مسموح بالسكن إلا للطلبة المسجلين في 
الكليات والذين تتسلم إدارة البيت اخطاراً بأسمائهم. وتوسط محمد الغالي بأننا سنحتفظ 
فقط بأمتعتنا لديه وسوف ندبر أمر قضاء ليلتنا وما بعدها. مكان التقاء الزوار والسكان 
بالسودان هو ما نعرفه باسم (المحطة الوسطى) سواء في الخرطوم أو أم درمان شمال المسجد 
العتيق أو الخرطوم بحري بين مجلس بلدي مدينة بحري ومسجدها الكبير» ولذا سألنا الأخ 
الغالي عن المحطة الوسطى في القاهرة لأني تذكرت أن ابن حنتوب وابن النهود الشيخ أحمد 
جحا يدرس الطب بالقاهرة وعلمت أنه يسكن في (شقة) خارج بيوت السودان» کا أن 








مركز محمد عمر بشير 
شرف الدين أخبره أن أخاه دفع الله الطبيب بالسودان وحكيمباشى مستشفى بورت سودان 
ینتظره في كلية طب الدمرداش حسب البرقية التي تلقاها قبل مغادرته الخرطوم. طمأننا 
الغالي بأن الشيخ أحمد جحا يدرس الطب في نفس الكلية وأنه سوف يحصل لنا على عنوانه إذ 
يمكنه إذا سمحت ظروف شقته أن يستضيفنا هذه الليلة. حصلنا على العنوان وأركبنا الغالي 
الترام الذي سيصل بنا إلى مكان اسمه (ميدان الإساعيلية- ميدان التحرير فيا بعد) وتنطلق 
من هذا الميدان بصات إلى ختلف نواحي القاهرة وطلب منا أن نركب البص (الأوتوبيس كا 
يسمى في مصر) رقم ۳۰ المتجه إلى حدائق القبة ونطلب من الكمساري أن ننزل في محطة 
جامع الملك وسنجد في المحطة دكاناً كتب عليه(بقالة الصدق والأمانة) سيدلنا صاحبها على 
منزل الشيخ جحا. اجتهدنا في حفظ كل هذه الأساء ولكننا رأينا- لسبب ما - أن نختصر 
الأمر إذ ربا لا تسعنا شقة الشيخ جحا أو لا نبتدي إليها بهذا الوصف. فقررنا أن نسأل 
(السودانيين) الذين رأينا عدداً منهم في ميدان الإساعيلية عن دكتور دفع الله مصطفى 
حكيمباشى مستشفی بورت سودان والذي لابد أن يكون معروفاً لعدد منهم إن لم يكن لهم 
كلهم. فصرنا كلا رأينا وجهاً (أسمر) نسرع إليه في بشاشة ونسأله عن دكتور دفع الله 
مصطفى حكيمباشى مستشفى بورت سودان. 

ولقد ساءنا أول الأمر أن بعضهم لم يحفل حتى بالرد علينا وتركنا ومشی لاله كا 
دهشنا عندما تساءل بعضهم عن حكيمباشى يعني إيه... وبعد عدة محاولات يائسة حكمنا 
فيها على السودانيين بمصر (لئام ومتعالین) إذ كيف لا يعرفون طبيباً مثل حكيمباشى 
مستشفى بورت سودان أو لا يعرفون حتى لقب حكيمباشى. رجعنا بعد ذلك نتذكر الورقة 


التي كتبنا عليها خريطة الطريق إلى منزل الشيخ جحاء وبدأنا نبحث عن الأوتوبيس (۳۰) 








المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
فجاء إلينا شخص أسمر ربا رأى حيرتنا وتنقلنا من شخص أسمر إلى أخر وسلم علينا 
سلاماً بعث فينا الطمأنينة وسألنا متى وصلنا من السودان وماذا نريد؟ ولما قصصنا عليه أمرنا 
ضحك وقال لنا ليس كل أسمر سوداني وهؤلاء بعضهم من النوبة وبعضهم من الصعيد وفي 
جمیع الأحوال لا أحد في مصر يعرف لقب حکیمباشی» آما الأطباء في مكانة دفع الله مصطفى 
فالذين يعملون في عيادات خاصة في هذا الميدان وحده أكثر من كل أطباء السودان. وبعد أن 
راجع معنا الخريطة طمأننا على سلامة الطريق وأننا سوف نصل بالسلامة وطلب منا ابلاغ 
دكتور جحا سلام: سيف الدولة يحيى عمران وهو الشخص الأسمر الذي أعاد لنا الطمأنينة 
والذي يدرس القانون بمصر وهو ابن القاضی مجیی عمران. واستقبلنا الشيخ أحمد جحا 
بترحاب بالغ وطمأن شرف الدين أنه سیقابل أخاه غداً في التاسعة صباحاً التي يحضر فيها إلى 
الكلية كل يوم. أما أنا فقد أخبرني أن الجامعات مقفلة حالياً لأسباب سياسية ولكن عملية 
القبول تتم بالنسبة للسودانيين بشكل منتظم عن طريق مكتب الدرديري أحمد إسماعيل- 
رئيس حزب وحدة وادي النيل بالسودان- والذي عينته الثورة في منصب وكيل وزارة شئون 
السودان. وقد تمت إجراءات قبول شرف الدين وقبولي بيسر فائق إذ فرغ الشيخ جحا یوما 
صاحبني فيه للمكاتب المختصة وإلى أن تم استخراج بطاقات القبول للالتحاق في السكن 
ببيوت السودان أما الشيخ جحا إذ كان يسكن في شقة فسيحة بها أربع غرف إثنتان منها بها 
أثاث يخص أحد السودانيين الذين كانوا يعملون مع القوات البريطانية في قناة السویس 
واستقالوا إستجابة لنداء حكومة النحاس باشا قبل الثورة بمقاطعة القوات البريطانية. بذل 
الأخ الشيخ جحا مجهوداً معي لكي أدخل كلية الصيدلة إذا كنت مصماً ألا أدخل كلية 
الطب. لكني تمسكت بكلية التجارة. والحقتني إدارة البعثات ببيت السودان في حي 








مركز محمد عمر بشير 
(المبتديان) وتقع الكلية التابعة لجامعة إبراهيم باشا الكبير والتي أعيد تسميتها بجامعة عين 
شمس على بعد قريب من بيت البتدیان الذي يسكنه عدد أقل من الطلبة مقارنة بالبيتين 
الآخرين وأغلبهم يدرسون في كلية دار العلوم التابعة لجامعة فؤاد الأول ثم أصبحت جامعة 
القاهرة والتي تقع أيضاً على بعد قريب من البيت. 

المنطقة هادئة نهاراً ولا تشعر فيها بالصخب الذي تتميز به القاهرة عموماً ولكن ما 
أن يأتي الليل- حوالي العاشرة مساء- حتى تشعر بدرجة كبيرة من الإزعاج المنظم إذ يبعد 
بيت البتدیان حوالي خمسين متراً من محطة سكة حديد حلوان وهي المحطة التي تربط بين 
القاهرة وحلوان بقطار كل نصف ساعة فتسمع (صفارة القطار) وهو يدخل المحطة ثم وهو 
يغادر المحطة ولا تتوقف الحركة إلا بين الساعة الثانية والرابعة صباحاً ومن عجب فبعد 
الأسبوع الأول أصبحت معتاداً على صوت الصفارة والتي صارت تمثل منبه للصحيان 
البکر. وقد قضيت السنة الأولى في جو جامعي من الحرية في الدخول إلى المدرجات المكتظة 
بالطلبة أو الجلوس في البوفيه للإجابة على الأسئلة الجادة والفضولية من الطلبة المصريين 
الذين اكتشفت أن معلوماتهم (السياسية) سواء عن مصر أو السودان ضحلة للغاية مقارنة 
بمجتمع الطلاب السودانيين الذي جئت منه والذي تخرج منه سياسيون أكثر ى| تخرج منه 
طلبة نسبة لانشغاهم الزائد بالسياسة. 

صراعات الطلبة السودانيين السياسية انعكست بالطبع على (لحنة الطعم) في بيت 
السودان والتي تشرف على استلام المأكولات مع الطباخ من التعهد الذي يوردها. وحسبا 
للخلافات رأوا أن يوكل أمر اللجنة إلى الطلبة الجدد الذين لم ينخرطوا بعد في الخلافات. كان 


موسم الفواكه هو موسم البرتقال أبو صرة الشهير- عجيباً- طلب الزملاء أن يتم التغيير إلى 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
(التفاح) وكان التفاح بالنسبة لي موضوعا قرأته في كتاب (المطالعة) ثم في دراسة النحو عند 
استخدام (لا سییا) فمرة تقرأ: أن أكل الفاكهة ينقي الدم ولا سيا تفاحة على الريق» وكلمة 
تفاحة تقرأ مرفوعة ومرة منصوبة ومرة خفوضة» ولكل معنى عند علماء النحو» ولكني 
ومعي بعض المستجدين لم نرى التفاح ول نأكله. طلبت من المتعهد أن يحضر في اليوم التالي 
بدل البرتقال تفاحأء وخشية من أن يأتي بالتفاح ذي اللون الأحمر الذي يقل حلاوة عن التفاح 
الأصفر وارغمته وامتثل للأمر وجاء بتفاح أصفر وبا أني لم أر تفاحاً في حياتي ووقع نظري 
على اللون الأصفر في الفاكهة المستديرة فقد رفعت حنجرتي رافضاً البرتقال وطالباً التفاح كا 
أمرته في اليوم السابق» وابتسم المتعهد في خبث بعد أن اكتشف جهلي وغمز إلى الطباخ الذي 
فون وأنقذ الوقف. ومن يردا حرجت من اللجنة. 

كانت ثورة ۲۳ یولیو الصرية في شهورها الأولى قد دخلت ومنذ الوهلة الأول في 
عداء مع كل الأحزاب المصرية خاصة حزب الوفد الذي كان يشكل أكثر من ٩۰‏ من 
الشعب الصري وكان يقود العمل السیاسی ضد بريطانيا التي كانت تحتل مصر- في قناة 
السويس- بحجة حماية الملاحة الدولية ومصالح الامبراطورية في آسيا ووقاية للعالم (الحر) 
من أي تغول من الاتحاد السوفيتي. أصدرت الثورة قراراً بحل جميع الأحزاب وأبقت على 
جماعة (الأخوان المسلمين) باعتبارها جماعة دينية لا تعمل بالسياسة» وكان يدور مس أن 
عبد اللطيف البغدادي وحسين الشافعي وهما من مجلس قيادة الثورة من مؤيدي الجماعة بل 
أن البعض كان يهمس أن جمال عبد الناصر زعيم تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد الثورة 
فعلاً وأعطى القيادة ظاهراً إلى اللواء محمد نجيب كان يوماً من الأخوان المسلمين. وقد 


ضمت الوزارة المصرية إثنين من قيادات الآخوان المسلمين هما أحمد حسن الباقوري 





مركز محمد عمر بشير 





وعبدالعزيز كامل الذي سبقت الإشارة إليه في علاقته مع عبدالله زكريا. غير أن اساعة بقيادة 
الرشد القاضي حسن امضيبي (بك قبل إلغاء الألقاب) رأت بطريقة أو أخرى إحتواء الثورة 
وطالبت أن تقوم هي بتعيين من يمثلها في الوزارة ولما لم تستجيب الثورة فصلت الوزيرين من 
التنظيم» ثم رأت الثورة المصرية أن يكون لا تنظيم سياسي يمثلها بعيداً عن الأحزاب وعن 
الأخوان المسلمين فأسست(هيئة التحرير) وأطلق اللواء محمد نجيب شعار الثورة في (الاتحاد 
والنظام اوالعمل) وهكذا أصبح للثورة أعداؤها من الأحزاب ومن الأخوان المسلمين الذين 
رفضت الأحزاب التنسيق او التعاون معهم لأنهم ناصروا الثورة عليهم واتبموهم 
بالتآمر عليهم. 

كان الطلبة السودانيون في مصر في لب الصراع الدائر بعضهم ینتمون للحركات 
اليسارية العديدة في مصر بعكس حركة اليسار الوحيدة وقتها في السودان والمعروفة 
باسم(الحركة السودانية للتحرر الوطني - الحزب الشيوعي السوداني فيا بعد) وبعضهم كانوا 
في جماعة الأخوان المسلمين وبعضهم- وهم قليل- شايع هيئة التحرير الحزب الحكومي .وكا 
هي العادة كان الخلاف بيننا كا هو في السودان رغم المخاطر التي قابلت البعض. وفي هذه 
الأثناء كلفت الثورة المصرية أحد أبرز آعضائها وهو الصاغ (الرائد) صلاح سالم بتولي ملف 
السودان يساعده عدد من زملائه ضباط الجيش اشتهر منهم الصاغ أبو نار. كا كانت الثورة 
تقود مفاوضات جادة مع الحكومة البريطانية بشأن الجلاء عن مصر- وعن السودان. وقد 
كان موضوع السودان دائ هو العقبة في المفاوضات المصرية البريطانية منذ عام ١۱۹۳م‏ إذ إن 
بريطانيا- والتي تولت قيادة أعادة فتح السودان بهزيمة الثورة المهدية باسم حكومة خديوي 
مصر بأنها تسعی لرفاهية الشعب السوداني وتأهيله لتقرير مصيره في الوقت الناسب. وأن 


۳۳۸ 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
مسألة وحدة وادي النيل أمر يقرره شعب السودان خاصة بعد المفاوضات الفاشلة بين رئيس 
الوزراء صدقي باشا وبيفن وزير الخارجية البريطانية. لذلك اتجهت الثورة المصرية إلى كسب 
ود الأحزاب السودانية المتعددة سواء تلك التي تدعو للاستقلال بقيادة حزب الأمة أو التي 
تدعو للوحدة مع مصر بقيادة حزب الأشقاء. فقامت أولاً بتوحيد الأحزاب الاتحادية كلها 
في حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي برئاسة إساعيل الأزهري ثم دعت الإمام 
عبدال رحمن المهدي إلى مصر وتحدئت معه مطمئنة إلى أنها لا تسعى لفرض وحدة مع السودان 
بل تعمل على جلاء بريطانيا عن السودان وإعطاء السودانيين حق تقرر مصيرهم سواء 
بالاستقلال التام أو قيام نوع من الوحدة مع مصر. 

وتحصلت الثورة بثقة في شخصية قائدها (الظاهر) اللواء محمد نجيب على تفويض 
من الأحزاب السودانية على التفاوض مع بريطانيا بهذا المفهوم. وقاد الفاوضات البکباشی 
أركان حرب جال عبد الناصر مع قائد القوات البريطانية في قناة السويس «(الجنرال هيد 
40 ممثلاً للحكومة البريطانية. وطرحت مصر موضوع السودان أولاً وتم الإتفاق في 
۳ فبراير ۱۹۵۳م على (إتفاقية السودان) والتي نصت في آهم بنودها على: إنشاء لجنة تسمی 
دنه الحاكم العام تشرف على تصرفاته وتقيد سلطاته في القيام بواجباته رئيسها باكستاني 
وأعضاؤها من مصر وبریطانیا والسودان- ولنة للانتخابات رئیسها من اهند وأعضاؤها 
من مصر وبریطانیا والسودان تشرف على إجراء انتخابات عامة في السودان شیاله و جنوبه 
لقیام برلان من جلسین: مجلس نواب- ومجلس شیوخ يشرّع للبلاد خلال فترة انتقالية مدتها 
ثلاث سنوات تبداً من آول ینایر 905١م‏ يقرر بعدها السودان في استفتاء عام إما الاستقلال 


مركز محمد عمر بشير 
السودانيين مكان الأجانب العاملين في كل مرافق الدولة سميت لنة(السودنة 
(Sudanisation‏ تنتهي مهمتها قبيل الاستفتاء في أول يناير 5 ۱۹۵م إلأتلك الوظائف التي 
ترى الحكومة السودانية النتخبة أن تبقى عليها باعتبار آنها ضرورية للبلاد أو لا تؤثر على الجو 
ا لحر المحايد للإستفتاء.وبموجب الإتفاقية فقد تم تعديل مسودة الدستور التي أعدها رئيس 
القضاء السوداني البريطاني الجنسية استانلي بيكر والتي كان من المقرر أن يحكم به السودان 
لولا قيام الثورة المصرية. وأصبح بموجب الاتفاقية والدستور للسودان مجلس وزراء ورئیس 
للوزراء- وزعيم للمعارضة على نسق الحكم في بريطانيا- مع تقييد في عدد الوزراء بحيث لا 








يتعدى ال ۱۵ وزيراً ولا يزيد عدد الوزراء غير المنتخبين منهم كأعضاء في البرلمان عن إثنين 
وتعزز بموجب الدستور موقف وسلطات لجنة الخدمة العامة التي تشرف على استقلالية 
الخدمة وعلى الترقيات لمناصبها خاصة العليا بحيث لا يتم تجاوز بسبب الحزبية أو المحسوبية 
أو عدم الكفاءة. 

وجدت الاتفاقية معارضة عارمة من ال حركة السودانية للتحرر الوطني (الحزب 
الشيوعي في بعد) بحجة أن بريطانيا لا تفي بالوعود وأنه لم يحدث أن نال بلد حريته باتفاقية 
بين قوتي الاحتلال (بريطانيا ومصر) وفي وقت مصر نفسها فيه حتلة- وأن الحاكم العام رمز 
الاستعیار موجود ولا تستطيع (لحنة) أن توقف تصريفه لمسئولياته بموجب دستور(استانلی 
بيكر) والتي على رأسهاء إعلان حالة الطوارئ في كل أو أجزاء من البلاد إذا حدث 
ار امش أو اقتصادي- أو دستوری» وفي أي من هذه الحالات يمكن تعليق تنفيذ 
بنود الاتفاقية كلها أو بعضها با يراه مناسباً- لمعالجة الموقف. كذلك عارض الاتفاقية جهراً 


السيد الدرديري (بك) وكيل الوزارة لشئون السودان الملحقة برئاسة مجلس الوزراء المصري. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول س 
وقد أوضح الدرديري عن رأيه أمامنا نحن الطلبة الذين كنا في زيارة لمكتبه في بعض المطالب 
كالعادة ورد على تلفون من الرئاسة بأنه سوف لا يحضر حفل التوقيع ولا الاحتفال المقام 
بالمناسبة وقال لمحدثه على الطرف الآخر بين دهشتنا كلم جمال قول ليهو الدرديري بقولك 
عملت زي النحاس باشا عند توقيع معاهدة عام 19751١م:‏ خسرنا المعاهدة ولكن ربحنا 
صداقة الإنجليزء كان عبد الناصر ورجاله قد اعتادوا على صراحة الدرديري ولعلمهم 
بإخلاصه ووطنيته فإنهم كانوا يتقبلون نصحه وتعليقه في الشأن المصري والسوداني بكل 
موضوعية وحسن نية. 

بتوقيع الاتفاقية تأجج الصراع بين الطلبة السودانيين في مصر - كا حدث أيضاً بين 
كل المواطنين من جهة اليسار ومن جهة أخرى- حدث نشاط محموم من قبل الصاغ صلاح 
سالم وجموعته من الضباط لاستقطاب کل قطاعات الشعب خاصة الطلبة وغير النتمین- 
وكذلك الجنوبيين. وني حيط الطلبة طلب من بعضهم- أو قل تطوع بعضهم - للانضام إلى 
الدعوة إلى وحدة وادي النيل سواء وسط السودانيين في مصر أو الذهاب إلى السودان للقيام 
بالدعاية اللازمة- أو الالتحاق بإذاعة جديدة أنشأتها الثورة المصرية في القاهرة باسم (ركن 
السودان) وأدارها كادر إخواني سابق كا يقال اسمه جال السنهوري واتحاديون صميمون 
بينهم علي محمد شموء كانوا يؤمنون صدقاً بالوحدة مع مصر-آنذاك. 

وک| عاد طلبة سودانيون من مصر إلى السودان للدعاية للاتحاد أرسلت الجامعات 
بعثات من طلبتها للتعرف على (السودان) إذ كانت تحكى قصص عجيبة عن الأسود والنمور 
والأفيال التي تتبختر في شوارع الخرطوم وعن التخلف الذي سيكلف مصر رهقاً لانتشال 
السودان منه ولكنه كله يبون بالطبع مقابل النيل والأرض والتوسع جنوبا. ولا أبرزت 


مركز محمد عمر بشير 
الصحافة المصرية صوراً للصاغ صلاح سالم وهو يرقص بملابسه الداخلية مع بعض القبائل 
في الجنوب وبعضها عار تأكد جزء كبير من القصص كا آثار في نفس الوقت مشاعر القوى 
الاستقلالية في السودان في تدخل مصر في الجو الحر المؤيد للاستقلال. 

في هذا الأثناء انتقلت إلى جامعة الإسكندرية کا سيجى : 

تدفق مال كثير على السودان على أعوان الصاغ صلاح سالم والاتحاديين بالسودان 
وسرعان ما تسرب خبر تأكد فیما بعد أن الصاغ صلاح سالم استولى على خمسة ملايين جنيه 
مصري من خزينة وزارة المالية دون علم وزير المالية الدكتور عبدالجليل العمري. والدكتور 
عبد الجليل العمري هو آول وزير مصري للالية يحمل مؤهلات في الاقتصاد إذ كان كل 
وزراء المالية في مصر رجال قانون. تقدم العمري باستقالة مسببة ول تفلح كل الجهود في 
إثنائه فقبلت. 








عاد وفد الأساتذة والطلبة من جامعة الإسكندرية الذين زاروا السودان وعادوا 
بإنطباعات مختلفة تماما عن السودان الذي صورته لهم وسائل الاعلام. وفي ندوة أقامها الوفد 
اشاروا إلى ذلك بوضوح وذكر أحد أعضاء الوفد حادثتين أثارت دهشة الحضور: الأولى آنبم 
دعوا لحضور مباراة في كرة القدم في إستاد الخرطوم ورأوا بأعينهم جموع السودانيين (واقفين 
صف) للحصول على التذاكر وهو أمر لم يكن معهوداً في مصر في ذلك الوقت إذ كان التدافع 
والهرج سيد الوقف. والحدث الثاني أن الرئیس الأزهري دخل الإستاد ليحضر المباراة ونزل 
إلى الميدان وحيا اللاعبين ولم (يصفق أحد) يعني ۸ يقابل بالتصفيق کا هو في مصر عند 
حضور أي زعيم سياسي لأي مناسبة كهذه وبمثل الهدوء الذي دخل به الأزهري إلى الاستاد 


(أو دار الرياضة ك| كنا نسميه) خرج قافلاً إلى داره. فقد كان في مناسبة إجتماعية. 


۲: 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

كان ازدحام الكلية في القاهرة وصغر حجم المدرجات بالنسبة للأعداد الكبيرة التي 
رأت- الثورة استيعابها من الأسباب التي جعلتني مع بعض الأخوة السودانيين- من حنتوب 
نتجه إلى جامعة الإسكندرية رغم أني نجحت في الانتقال إلى السنة الثانية بدرجة أعانتني لكي 
أحصل على منحة شهرية قدرها حمس جنيهات بالتام والکال تسمى (البعثة)» وتمنح لكل 
طالب من أي كلية ينجح بدرجة (جيد) على الأقل في النقل من سنة لأخرى. الإخوة الذين 
ذهبو إلى جامعة الإسكندرية واستكشفوا الجو العام وعادوا وأقنعوني إليها هم: صالح محمد 
عبدالله- أحمد عبد الحليم - عبد المطلب إبراهيم» وجدنا كل عون ومساعدة من مساعد 
الكلية وهو أسمر من أصل نوبي- أصوله الحقيقية من قرية (عبري) في المديرية الشمالية 
بالسودان. وكانت الإسكندرية كمدينة وكليتها نقلة كبرى بالنسبة لي من ازدحام القاهرة: 





مدينة وكلية- ومن السكن الکئیب الرتيب في بيت السودان بالمنتديان ۷ شارع حلوان- 
المنيرة. كان عدد الطلبة في الكلية- قسم الاقتصاد والعلوم السياسية عموماً معقولاً ومناسباً 
لتلقي المحاضرات ومناقشة الأساتذة والحوار مع الزملاء- كما كان معظم الطلبة المصريين 
يفضلون الدراسة في قسم المحاسبة وبدرجة أقل في قسم إدارة الأعمال. أما قسم الاقتصاد 
والعلوم السياسية فعدده أقل من القليل ىا أن به كل الطلبة العرب تقريباً من الأردن وسوريا 
ولبنان. من السودان في دفعتي كنا ستة: عبدالرهن عبد المجيد عبد المنعم- عيسى مصطفى 
سلامة- إبراهيم الحويرص-حسن فرح- إبراهيم منعم منصورء ثم ظهر قبيل الامتحان 
فاروق مختار آبایزیدآما أحمد عبد الحليم-صالح محمد عبدالله- عبد المطلب إبراهيم فقد كانوا 
في الدفعة التي خلفناءفاروق مختار أبا يزيد من (عبري) ولكنه يكبرنا عمراً وخبرء إذ يعمل 
موظفاً في البنك العشاني بالإسكندرية ويستفيد من الرخصة في عدم وجود جلسات عملية الا 





مركز محمد عمر بشير 
في حاضرات علم الإحصاء والتي تكون عادة مرة في الأسبوع فيستأذن لمدة ساعة يحضرها 
ويغادر الكلية دون أن نشعر به ليزاول عمله بالبنك» وفي نباية العام الدراسي يحصل على 
إجازته السنوية لمدة ثلاثة أسابيع يكثف فيها الاستذكار معنا مستفيدين من تجاربه ومعلوماته 





في كل العلوم ومستفيداً من التحصيل الذي نختزنه وندونه من حضور المحاضرات 
والناقشات. 

وبين| یقضی فاروق عطلة نهاية الاسبوع في الاستذکار ونقل بعض الذکرات نجدها 
نحن فرصة لعلاقات إجتاعية مع بعضنا کطلبه سودانیین قليلي العدد بالإسكندرية- لم نکن 
أكثر من ۱۵۰ طالباً في كل الجامعة بينما القاهرة تعج بالآلاف. 
النادي السوداني بالإسكندرية: والعم يوسف عباس: بداية قنصل سوداني 

وبجانب الطلبة شملت فرص التعارف السودانيين العاملين بالإسكندرية والذين 
أسسوا النادي السوداني. كان معظمهم من صغار الموظفين (صغار وظيفة: كتبة- محاسبين) 
ومن العمال : سائقي سيارات كبار موظفي الدولة والشركات الأجنبية التي كانت السمة 
الغالبة في الإسكندرية في ذلك الوقت- وكذلك الطباخين والسفرجية والبوايين وهي مهن 
برع فيها السودانيون من المديرية الشالية وكان معظمهم في خدمة الأجانب: بريطانيين- 
فرنساويين- وإيطاليين- وبلجيك أو باشوات إذ قلا يستطيع.رجل أعمال مصري لا يحمل 
لقب (الباشوية) استخدام سوداني لکبر المرتب من جهة ولان نوعية الخدمة التي یژدیها 
ليست من الصنف الذي يعيشه المصري العادي ويستأجر من أجله (بربري ک) كان يطلق على 
السوداني) وقد استبشر أعضاء النادي من أهل الإسكندرية بالمجموعة التي انضمت إليهم منا 
وبأعداد قاربت العشرين قبلت في كليات الطب والزراعة والقانون. وسرعان ما شهدت 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
مصر خلال أعوام الثورة الأولى محاىات لرموز السياسة في مصر ما قبل الثورة شملت 
حاشية الملك فاروق الأولى الذي تنازل عن العرش- وفقاً للدستور- إلى ابنه الطفل في ذلك 
الوقت أحمد فاد الثاني. وقد نص الدستور- على تعيين (وصي) على العرش فتم تعيين الأمير 
محمد عبد المنعم أكبر أفراد الأسرة الذي لم تكن عليه شائبة ثم أستبدل باللواء محمد رشاد مهنا 
من الضباط الأحرار والتهم بميوله (الأخوانية) وكان واضحاً أن الحاکات كانت سياسية 
أكثر منها جنائية سواء بالفساد أو المحسوبية وأن الجميع كانوا يتعاملون في إطار نظام يقبل ما 
كان يدور. ثم حدث خلاف حاد بين الثورة والأخوان المسلمين تبلور منذ رفض الجاعة 
تعيين وزراء منها دون موافقتها ووصل ذروته بعد توقيع اتفاقية جمال- هيد إذ كان الأخوان 
يرون ألا بديل للجلاء إلا الكفاح المسلح بواسطة كتائبهم وكتائب متطوعين وطنيين آخرين 
ضد الوجود البريطاني في قناة السويس. الاتفاقية استبدلت الجنود والضباط بمستشارين 
منزوعي السلاح ولكن يمكنهم أن ينقلبوا إلى ترسانة عسكرية في أي لحظة يحصل فيها تهدید 
لقناة السويس من قوى معادية (الاحاد السوفيتي) وفي الذكرى السنوية الثانية لرحيل الملك 
يوم ۲۲ يوليو 455١م‏ وقي حفل بميدان المنشية في الإسكندرية قامت محاولة لاغتيال جمال 
عبد الناصر بواسطة الأخوان المسلمين أصيب فيها بجروح بسيطة الوزير السوداني ميرغني 
حمرة- ضيف الشرف- ونجا الرئيس الستهدف- وبعدها صدرت القرارات بحل الجاعة 
وتكوين المحاكم وشهدت بنفسي قيام أفراد من الحرس الوطني بإضرام النار في المركز العام 
للأخوان المسلمين في ضاحية الحلمية حيث كنت في زيارة لبعض أبناء النهود الذين يدرسون 
بجامعة الأزهر. وشهدت كيف منع أفراد الحرس الوطني (مليشيات الثورة) قوات المطافئ 
من !خاد النار في المركز فلجأت الطافی إلى حماية المباني المجاورة. طالت المحاكمات كل 








مركز محمد عمر بشير 
القيادات- ما عدا المرشد حسن امضيبي - الذي راعت ظروف سنه ومرضه. وبحكم العلاقة 
التي كانت بين الثورة وبعض أعضائها بالجماعة فقد وصلت الاعتقالات والحاکیات إلى 
«الجهاز السري) والذي ظهر أن ساحة المرشد لا يعلم عنه سوى اسمه وكانت قيادته 
وتسليحه وقراراته تصدر عن الجهاز والذي كان أمين السلاح فيه تاجر حبوب على قدر عال 
من التدين- والبراءة- إذ قدم للمحاكمة مرة شاهداً فلم يخف سراً بعد أن أقسم على 
المصحفء ثم قدم متها في موضع آخر وكان نصيبه الإعدام. ومن الطريف في محاكمته- التي 
رأسها قائد الجناح جال أخ الصاغ صلاح سال- أنه سأله إذا كان قد شارك في قرار فصل 
الوزيرين فقال أن بعضهم كان يرى عدم فصله) وقلنا لسماحة المرشد (وأمرهم شورى 
بينهم - وشاورهم في الأمر) فرد علينا أن أكملوا الآية(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل 
على الله إن الله يحب التوکلین)» ثم أصدر القرار بعد أن عزم وتوكل. وهذا- في تقديري- 
سيكون شأن كل حاكم يتولى الأمر باسم الدين: يجلس على الكرسي باسم (الشوری) ثم 
يحكم منفرداً (بالعزم والتوكل) وفي كلا ال حالتين الدين بجانبه. تاجر الحبوب أمين السلاح 
آسمه يوسف طلعت رحمه الله. 

تكونت نة ثقافية في النادي وأصبحت هناك محاضرة أو مناقشة كل أسبوع أو آخر 
فجذبت هذه المناشط بعض الأسر التي كانت حبيسه المنازل خاصة الطالبات اللاتي لم يكن 
يعرفهن حتى زملاءهن في نفس الكلية وقد حضرن بصحبة الأمهات. وعندما تقدم أحمد عبد 
الحليم باقتراح تكوين اتحاد نسائي للطالبات بجانب اتحاد الطلبة وجد الأمر ترحاباً من الآباء 
والأمهات وصار للطالبات يوم خاص بهن بجانب نشاط الطلبة في أيام الخميس. ويتم 
اختلاط حذر في الأعياد والمناسبات فقد علمنا- ثم اكتشفنا- أن السودانيين بمصر والنوبيين 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
على وجه ا لخصوص محافظون أكثر من الأهل بالسودان رغم أنهم يعيشون وسط بيئة متحررة 
ي مصر. وقد سعدنا جميعاً طلبة وأولياء أمور عندما تقدم طالب الطب في السنة قبل النهائية 





عابدين أحمد شرف أخصائي الصدر فيم بعد بخطبة أمينة- سودانية من صول نوبية. 

وكان لأحد السودانيين بالإسكندرية يوسف عباس اهتام خاص بالطلبة رغم 
تعليمه المحدود ووظيفته التواضعة مقارناً مع السيد بيرم (والد الدكتور منير بيرم) سمسار - 
البورصة ذي المركز الا جت‌اعي والاقتصادي المرموق. يوسف عباس إمتاز بعطفه الشديد على 
الطلبة إذ هم (آغراب) في مصر وصب كل حنانه هو وزوجته علينا- لانها لم يرزقا ذرية. وقد 
كان لحكومة السودان- خلال الحكم الثنائي ثم الفترة الانتقالية وحتى بعد الاستقلال 
بسنوات- كان لها وجود في القاهرة فقط رغم أعداد السودانيين في العديد من المدن المصرية 
ومنها الإسكندرية. وبعد الاستقلال بسنوات- في عام ۱۹۷۲م على ما أذكر برزت فكرة 
تكريم يوسف عباس عندما حضر للسودان في مناسبة خاصة. ثم تبلورت الفكرة إلى أن عين 
(قنصل فخري) لحكومة السودان في الإسكندرية أسوة بالعديد من الدول الأوربية التي ها 
جاليات بالإسكندرية وتمت الموافقة والاعتراف الرسمي من الحكومة المصرية. وفي واقع 
الأمر فان يوسف عباس حصل فقط على (اللقب) إذ كان يقوم بكل ما مهم المواطن السوداني 
ويسافر على حسابه إلى (القنصل- والسفير) في القاهرة حيث يتم ختم الأوراق واعتادها. 
وبحقيبته انتقلت الأختام إلى الإسكندرية وتم استئجار مكتب له ورفع العلم عليه وأدرج 
ضمن قائمة القناصل لدى الخارجية المصرية ولدى محافظ الإسكندرية وأجهزته الرسمية. 
وقد فرض عليه النصب مظهراً أكثر أناقة ويقوم بتقديم القنصل السوداني أو السفير الذي 
يزور الإسكندرية من وقت لآخر إلى السلطات الرسمية. وكانت ميزانيته لا تتعدى الإيجار 





مركز محمد عمر بسير 





للعقار وبعض النثريات التي تساعده في استقبال رصفائه القناصل أو مواطنيه مع مقابلة 
تكاليف الحفل السنوي للعيد القومي. وكان ينتقل بعربة أجرة- تاکسی- إذ لم تكن السفارة 
في القاهرة تعطيه الوضع الذي يفرضه المنصب. وقد فوجئت وكنت وزيراً للمالية عام 
۲ أن أرسل لي طلباً شخصياً بمنحه(سلفة شخصية) قدرها خمسائة جنيه ليشتري بها 
سيارة بيجو صالون مستعملة وفي حالة جيدة حتى يكون مظهر قنصل السودان لائقاً أمام 
القناصل الأجانب وأمام المسئولين فلم أتردد ووافقته على أقساط مريحة له شخصياً لتكون 
سيارته الخاصة له ولاسرته. وسارع عيسى مصطفی سلامة وقد كان المسئول الاداري لوزارة 
الخارجية لإدراج ميزانية وسيارة للقنصلية السودانية في الإسكندرية. ومن الطريف أن 
(طمع) بعد فترة من الزمن والنجاح بعض منسوبي الوزارة في المنصب بتحويله إلى قنصل - 
بدل قنصل فخري- حتى يحتله أحد موظفي السفارة. وكان أن تزامن ذلك مع مسودة قانون 
للقناصل الفخريين تقدم بها لمجلس الوزراء وزير الخارجية محمد ميرغني مبارك على أن يكون 
القنصل الفخري (يحمل درجة جامعية- عمره لا يزيد عن الستين عاماً- ولائق طبياً). وقد 
قدت في مجلس الوزراء معارضة شديدة للمسودة وذكرت أن أفضل وأنجح ثلاثة قناصل 
فخريين للسودان لا تنطبق عليهم هذه الشروط وهم عشان الطيب في نيجيريا وإبراهيم 
المقبول في أثيوبيا- ويوسف عباس في الإسكندرية. وإذا حاولنا أن نطبق شرط اللياقة الطبية 
في وزارة الخارجية فان وزير الخارجية نفسه غير لائق طبياً. وتجاوزت المدى عندما ذكرت أن 
الذين حركوا هذا القانون في وزارة الخارجية يرمون إلى احتلال مواقع جاهزة وناجحة ما 
كانوا هم يستطيعون أن يخلقوا فيها هذا النجاح.تقبل محمد ميرغني مبارك نقد الوزراء 


وآراءهم بصدر رحب بل وافق على أن بالأمر شيئاً ثم أعلن سحب المسودة. صادفت مناقشة 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
لقانون آول جلسة حضرها عبد السلام صالح عیسی وزیراً للصحة وعلق آنه ما کان یعتقد 
أن جلسات مجلس الوزراء تشهد مثل هذه الناقشات الجادة والصريحة بين الوزراء في حضور 
الرئیس جعفر نميري إذ إن الاعتقاد السائد أن السائل (تمر زي ما الرئیس عاوز). كان ذلك 
عام ٤۱۹۸م‏ على ما أذكر. 

نعود إلى يوسف عباس: فكالعادة في تلك الأيام هناك من يعتقله جهاز الأمن 
المصري- أو يستدعيه للاستجواب- كما أن هناك من يتأخر التحويل المالي الذي يصله من 
السودان أو حتى الذي يشتبك مع الذين يتعامل معهم من بقال أو جزار أو مكوجي فتجد 
يوسف عباس حاضراً معه دون أن يستدعيه لنجدته. وقد كان حضور يوسف عباس في هذه 
الواقف أمراً لافتاً ومثلجاً لصدور كل الطلبة من هم في حنة أو غيرها فصار الأب الراعي لنا 
جميعاً قبل أن نعرف لقب (القنصل) إذ كانت البلاد لم تعرف الاستقلال بعد إذ كان لقب 
(قنصل) في ذلك الوقت مكروهاً ومرتبطاً بالامتيازات الأجنبية التي كانت تعاني منها مصر 
تحت الاحتلال منذ القرن التاسع عشر.كان عدد الطلبة السودانيين في الإسكندرية کا ذكرت 
قلیلاً ورغم الانتماءات السياسية كانوا يتمتعون بدرجة كبيرة من التسامح والتوادد فيع بينهم 
وقد تعرفنا على من ينتمون إلى أسر كبيرة في المال مثل عبد الرحمن عبد المنعم وفي المال 
والسياسة معاً مثل محمد عثان شندي وأخيه غاندي وعيسى مصطفی سلامة أخ زوجة 
الزعيم إسماعيل الأزهري ومن الإدارة الأهلية علي إبراهيم الحويرص وعلي ابن المأمور 
مأمون محمد عيسى هذا بالإضافة إلى ابن حنتوب فاروق أبو عيسى وإبن مدينة واد مدني 
المخضرم يوسف أحمد ميرغني. كى) فوجئت بعد سنة بوجود إثنين من خريجي معهد بخت 


الرضا واللذين كان من المفترض أن يكونا في مهنة التدريس بالمدارس الأولية (الاساس) 





مركز محمد عمر بشير 
بالسودان. علمت أنهما ومعها آخرون منهم أحمد محمد فضل معطر أمسيات بخت الرضا 
الرسمي وخصوصاً بالعزف على العود هاجروا إلى مصر وأكملوا تعليمهم الثانوي بمدرسة 
حلوان الثانوية وإلتحق الإثنان (مدني أحمد عيسى ومختار) بكلية الطب بالإسكندرية بين آثر 
أحمد محمد فضل - كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول- القاهرة- وقد فاتني أن أذكر أن جامعة 
الإسكندرية كان اسمها جامعة فاروق الأول وكان وكيل الجامعة في ذلك الوقت أخ اللواء 
محمد نجيب فجمع مجلس الجامعة وقرروا تغيير الاسم يوم 75 يوليو 957١م‏ حتى قبل أن 
یتنازل الملك فاروق في ۲۲ يوليو وقبل أن يتضح موقف نجاح الثورة ما جعل الآخرين في 
جامعتي فؤاد الأول وإبراهيم باشا الكبير يحذون حذوهم. 

كان عيسى مصطفى سلامة في غاية التواضع والساحة والقبول لدى زملائه رغم أن 
بعضهم يتهيب إقامة علاقة معه وهو دفعتنا وقد سبقنا إلى الإسكندرية» وكان يسكن في شقة 
بها آربع غرف نوم- وصالون فسيح يطل على بلكونة على البحر الأبيض التوسط في الطابق 
السادس» وني مدخل الشقة كانت هناك قعدة بها كراسي أقل قال لنا أن اسمها (المدخل 
۵ ولم تكون مصر قد عرفت بعد مظاهر الرفاهية الحالية فلم يكن بالشقق مراوح 
ناهيك عن مكيفات ولم تكن بها ثلاجات بل كان ذوو المال يملكون صناديق الثلج ×80 106 
ومنهم عیسی کا كانت لديه مكتبة من الأسطوانات مع راديو وفنوغراف وكانت كل 
الأسطوانات من الغناء والموسيقى الغربية» وقد كنا في لقاءاتنا في النادي السوداني نتفاكر في 
مكان نلتقي فيه مرة كل شهر عند استلام التحويلات... أو مبلغ (البعثة) نتعشى فيه ونسمر 
ونطرب- إذ كان بیننا مطربون- سمع بلا شوف أبرزهم صالح محمد عبدالله- کی أن البعض 
يتوقون إلى (شربة بسترة). وسعدنا للمفاجأة إذ قرر عيسى مصطفى سلامة والذي سكن معه 











> المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
محمد عثمان شندي- استضافة الجميع في شقته. ونشط يوسف أحمد الميرغني والشهير باسم 
يوسف ميرغني وأعد قائمة باحتياجات العشاء لحوالي ثلائین شخصاً تحوى بجانب الفول 
والطعمية والجبنة وثلاثة أو أربعة أرطال كباب وكفتة وكذلك علب ساردين وكمية من 
الزيتون والطحنية وعدداً من زجاجات البيرة (استيلا) المصرية الشهييرة ومعها زجاجة كبيرة 
من الكونياك توزع على أربع زجاجات فارغة ثم تملأ من زجاجات البيرة وتقفل جيداً حتى 
تتفاعل لتكون أكثر تأثيراً عند احتسائهاء وكان أغلب الطلبة يشربون باعتدال من أجل 
المؤانسة الاجتاعية 5061311220008 والقلة التي لا تشرب تعيش الحو المرح تغييراً للتحصيل 
التواصل الذي اشتهر به طلبة الإسكندرية. واحد من القلة أصر في أحدى الليالي أنه قرر أن 
(یسکر) رغم تحذيرنا له آننا ما جثنا للسكر وألا يبدأ تجربة ۸ يعهدها وهو في كلية الطب» ومع 
إصراره أعطى كأساً من البيرة ولكنه طالب أن يتذوق ما يتعاطاه كبار (الشريبة) فنازهم كأساً 
بكأس حتى آخر الليل» ومن عجب فإنه لم (يسكر) على الإطلاق فحمدنا الله أن ما تعاطاه في 
تلك الليلة لم يحبب إليه الخمر» الطالب كان عبدالعزيز هلال- الطبيب فيا بعد. كنا نسمي 
هذه (اللّمة) الشهرية باسم (الجمعية العمومية) وفي اليوم التالي يتم حساب تكاليف الليلة 
وتوزع بالتساوي على الجميع وكانت لا تتعدى العشرين قرشاً للفرد حتى عندما يضاف إليها 
أحياناً ثلاثة أو أربعة أرطال كباب وكفته إذ كان الرطل بمبلغ ۱۳ قرشاً وزجاجة البيرة بأحد 
عشر قرشأ وزجاجة الكونياك الصري بستين قرشاً أو تسعين قرشاً للصنف اليوناني الهرب 
من الميناء. وإلى أن تخرجنا كانت (الجمعية العمومية) با فيها من انتشاء وطرب هي التنفس 
البرىء وتدور فيها مناقشات هادئة عن الشأن السوداني- وقد أبعدت (الجمعية العمومية) 


عددا كبيراً من الطلبة عن (غرز) الحشيش والخدرات الأخرى. ومع تخرجنا تخرج عيسى 


56١ 


مركز محمد عمر بشير 
مصطفى سلامة ومد عشان شندي وعدد من العضوية من دفعتنا. وعلى ذكر الانتشاء فان 
الطلبة السودانيين على عهدنا- وآمل أن يكونوا حتى اليوم- لم تقرب من سهراتهم الغانيات 
ولا القمار- ولا المخدرات من حبوب رغم أن الحشيش منتشر لدرجة مخيفة حتى في أوساط 
الطلبة المصريين على تدينهم ويرون أنه لو لا حادث اغتيال الشيخ حسن البنا لري إستمر 
تعاطي الحشيش في المقاهي الشعبية بمصر مع الشيشة. غير أنه بعد حادث الاغتيال قامت 
حكومة الحزب السعدي (وهو من أحزاب الأقلية القريبة دوماً من الملك فاروق) بمنع 


تعاطى الحشيش في الأماكن العامة بل وتجريمه كما قامت بإغلاق بيوت الدعارة (العلنية) 








التي كانت تنتشر بالقاهرة وخاصة في شارع شهير باسم (كلوت بك) وني أجزاء أخرى من 
القطر الصري. وبمرور الأيام حرّم الحشيش إلى أن وصلت عقوية المتاجرة به الإعدام. 

احتج البعض على وصف الجمعية العمومية باللهو (البرئ). كان ردنا أن أمر من 
بعض الدواء الداء. إذ إننا أنقذنا غالبية إن لم يكن كل طلبة الإسكندرية من داء أكبر. 

شهد عام ۱۹۵6 ميلاد أول حكومة سودانية بموجب انتخابات حرة مباشرة 
بمجلس النواب فاز فيها الحزب الوطني الاتحادي بقيادة (سیاعیل الأزهري بالأغلبية المطلقة 
لأول وآخر مرة في تاريخ السودان حتى كتابة هذه الذكريات (١١١٠م)‏ وتحت الاحتلال 
قاماً كا فازت حماس في أول انتخابات حرة مباشرة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وبدأت 
الدعاية المصرية لتغليب الوحدة عند الاستفتاء آخر الفترة الانتقالية ودخلت لأول مرة 
وبصفة علنية أموال مصرية بواسطة الصاغ صلاح سالم وأعوانه- وتلقفتها أياد سودانية 
قلبتها إلى حناجر تهتف باسم الوحدة غير أن الفرحة المصرية والاتحادية لم تدم طويلاً إذ دعا 


حاكم عام السودان كلا من الرئيس محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة ووزير الخارجية 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول ست 
البريطانية سلوين لويد لحضور الاحتفال بافتتاح أول برلمان سوداني في ۲ مارس 5 110١م‏ غير 
أنه بوصول اللواء محمد نجيب في أول مارس للخرطوم قابلته مظاهرات عارمة نظمها حزب 
الأمة معترضاً بطريقة عنيفة على حضوره الذي سوف يعطي دعا للإتحاد مع مصر ويؤثر على 
(الجو الحر المحايد) الذي نصت اتفاقية السودان على أن يسود خلال (الفترة الانتقالية) حتى 
لا يكون هناك تأثير على الناخب السوداني. 

وقصدت المظاهرة (سراى الحاكم العام- القصر الجمهوري) حيث كان من المقرر 
أن يكون فيها مقر إقامة الضيف الكبير. وقد التحمت جموع الأنصار مع قوات الشرطة التي 
۸ تكن في كامل الاستعداد هجوم الأنصار بالأسلحة البيضاء فتوفى مدير شرطة الخرطوم 
البريطاني ونائبه السوداني وهو من أسرة أنصارية: أسرة عثهان صالح. وقد تداركت الإدارة 
البريطانية الموقف بأن حولت مسار موكب اللواء محمد نجيب إلى وجهة أخرى غير القصر 
وبقرار حكيم عاجل من سيادته رجع إلى الطار واستقل الطائرة عائداً إلى القاهرة. شكلت 
الحادثة انهیارا أمنياً مفاجئاً في كل العاصمة الثلثة: الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري كاد 
يطيح بالحكومة الوليدة. غير أن الحاكم العام سير روبرت هاو احتوى الأمر بتشكيل لحنة 
تحقيق وتقديم المحرضين لمحاكمة سريعة أعادت هيبة الحكومة. كان البعض يتوقع أن يستغل 
الحاكم العام الحادثة ويعلن الانهيار الدستوري الذي نصت عليه الاتفاقية- وهو من سلطاته 
التقديرية وحده دون نته- ويوقف أو يحل البرلان وتعود البلاد إلى المربع الأول كما يقولون 
ولكنه لم يفعل. وعندما حكمت المحكمة على كبار رجالات الأنصار بالإعدام والسجن 
المؤبد تصرف رئيس الوزراء الأزهري بحكمة وأوصى إلى الحاكم العام الذي يصادق على 
أحكام الإعدام بصفته رئيس الدولة بتخفيف الحكم. ثم تم العفو على مدى الأيام بعد ذلك 


Yor 








مركز محمد عمر بشير 
فلم تخلف (آول مارس) كا ظلت تعرف في تاريخ السياسة السودانية مرارات سياسية في 
القلوب وهي تتدبر أمر مستقبل البلاد. وهذا الحدث عكس أصالة جيل من المواطنين- ولا 
آقول السياسيين- السودانيين کا خلق لأول مرة درجة من التقارب- ثم الثقة - بين الزعيم 
الأزهري والحاكم العام. 

سارت الأمور في السودان ک| هو مخطط ها في الاتفاقية ونشطت لحنة (السودنة) ولا 
عدت في الإجازة السنوية إلى النهود وجدت السيد أحمد مكي عبده أول مفتش سوداني استلم 
من المفتش الأول المستر (بيتر هوق) وبقى مساعد مفتش حمر المستر هنتر لفترة لأنه تأهل في 
القانون وأصبح القاضي المقيم دون أي علاقة له بالادارة ثم رحل بعدها. ىا وجدت 
الدکتور عثمان مضوي قد حل مكان الطبيب الصري دكتور شحاته؛ أما المأمور وضابط 
الجلس مصطفى يوسف تكونة قد تمت ترقيته ويستعد للذهاب إلى الدلنج. وفي يوم عيد 
الأضحى أوائل ۱۹۵۵م كان في زيارة والدي كل (الحكومة) المفتش والمأمور والمفتش الطبي 
(کا كان يلقب) ومأمور السجن و.... وقدمني والدي للحضور باعتباري الابن الذي رفض 
العمل معهم في الادارة والتحق بالجامعات المصرية في وقت تسارعت فيه الأحداث وبدأت 
ثار السودنة تعم البلاد. كان لابد للسيد مفتش المركز أن يقدم لي نصيحة بإعادة النظر في 
قراري مواصلة لقرار الإدارة والحكم الذي سبق أن قدمه لي المستر ماكوماس ولكن الدكتور 
مضوي دافع عني وعن الدراسة في مصر ذاكراً أن جناب المفتش نفسه لديه إثنان من أبنائه 
يدرسان في مصر- حسن وحسين أحمد مكي عبده- ما شجعني لأذكر أننا في نفس الجامعة 
والمدينة الإسكندرية. ثم تحدث نفر أو إثنان في صفي ما أذاب الجليد مع الوالد ولا تأهبت 


للعودة إلى الإسكندرية شكرت الأخ منصور منعم الذي ظل يدعمني شهرياً بمبلغ همس 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 
جنيهات كاملة وأخبرته بنجاحي الذي أهلني للحصول على نفس المبلغ من الحكومة المصرية 
باسم (البعثة) ثم عند وداعي للوالد نصحني بالإلتفات لدروسي وأن جناب المفتش والمفتش 
الطبي أبلغاه ندرة التخصص في الاقتصاد وقد علم أنه سيدخل مقررات كلية الآداب بكلية 
الخرطوم الجامعية ابتداء من العام القادم فقط. وأنه حسب علمهم هناك فقط إثنان تخرجا من 
الاقتصاد أحدهما الإداري محمد عثمان يس - والآخر في المالية- مأمون بحبري» وقد تخرج فیا 
بعد وقبليبعامین كل من عا الصباح مكي وأسد |سیاعیل شیبون من جامعة القاهرة 

عدت إلى الاسکندرية مسلحاً برضا الوالد وبمبلغ حترم حرص أحمد جحا- والد 
الشيخ أحمد جحا- أن يكون مجزياً حسب تجربته مع ما يرسله شهرياً للشيخ. وكا ذكرت فقد 
كان عددنا في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية قلیلاً وكان يحاضرئا أساتذة على قدر عالٍ من 
العلم بعضهم عاد بنظريات حديثة عن الإدارة والتجارب الاقتصادية من الولايات المتحدة 
وبعضهم كان يحضر من جامعة القاهرة إذ إن تخصصه يفرض عليه أن يوزع وقته- على 
الجامعتين. ولقد لفت نظرنا اهتمام أحد الأساتذة (عبدالمنعم الشافعي) بنا نحن السودانيين 
وكان يحاضر في علم الاقتصاد والإحصاء وقد علمنا منه أنه كان أستاذاً للرياضيات في كلية 
غردون الجامعية ويحاضر في كلية العلوم وكلية الهندسة وأنه يفاوض في ذلك الوقت الحكومة 
السودانية للعودة مديراً لمصلحة الاحصاء بديلاً للمستر هارفي المدير البريطاني الحالي المتقاعد. 
وقد عاد بالفعل لفترة وجيزة في مصلحة الإحصاء واحتفل به طلبته من المهندسين. 





مرکز محمد عمر بسير 
واحتفلنا بالاستقلال ورفعنا العلم داخل النادي السوداني 


شهد عام ١٠۹٠م‏ توتراً في العلاقات بين حكومة الثورة والحكومة الانتقالية في 
السودان انعكس على التعامل معنا نحن كطلاب. وهذه (ظاهرة) ملازمة للعلاقات 
السودانية المصرية حتى اليوم إذ إن أي توتر أو خلاف تعكسه كل الأجهزة المصرية في تعاملها 
مع السودانيين بمصر: طلاباً ومواطنين. سبب التوتر هو أن تياراً داخل الحزب الوطني 
الاتحادي بدأ يهمس بل يجهر باستقلال السودان بدیلاً للوحدة التي ظل ينادي بها الاتحاديون 
منذ الأربعينات. في ذلك العام انعقد أول مؤتمر لدول عدم الانحياز في ضاحية (باندونج) في 
اندو تسا وكان السودان لا يزال تحت الحكم الثنائي: بريطانيا ومصر ويرتفع على كل 
ساريات القطر العلم البريطاني والعلم المصري. قررت الحكومة السودانية الإشتراك في المؤتمر 
واعترضت مصر بصفتها إحدى الدول الرئيسية في حركة عدم الانحياز (مصر وافند 
ويوغسلافيا وأندونسيا) بأن السودان ليس دولة مستقلة بعد. ولكن الزعماء المجتمعين وأفقوا 
أن يحضر السودان بصفة (مراقب) وقرر الزعيم الأزهري أن يرفع (علم آبیض) باسم 
السودان حيث لا يمكن بالطبع رفع العلمين البريطاني والمصري. ودون التعرض لما حدث 
بين البلدين مما تذكره كتب التاريخ الا أننا كنا كطلبة- والسودانيين في الإسكندرية- بدأت 
تقابلهم بعض المضايقات من سلطات المحافظة- ومن هيئة تحرير الحزب الحاكم والتي كان 
يرأسها في الإسكندرية أخ الزعيم جمال واسمه الليثي عبد الناصر وعندما أصبح واضحاً آن 
السودان سيختار الاستقلال ووافق البرلمان على الاقتراح في ۱٩‏ دیسمبر 1100م بأن 


السودان سيكون دولة مستقلة ابتداء من أول يناير ۱۹۵۲ قرر النادي السوداني إقامة حفل 











المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
مهذه المناسبة ودعا له كل السودانيين ومحافظ الإسكندرية ورئيس هيئة التحرير» الساعة الثانية 
عشرة (بعد ساعتين من رفع علم السودان بالخرطوم). 

قبل يوم الحفل حضر ضابط من (المباحث) وطالب بإلغاء الحفل ودخل في مشادة 
مع (عمي عمر) رئيس النادي الذي كان في نفس الوقت (رئيس البوابین) خمس عمارات 
شاهقة في رمل الإسكندرية وذا شخصية قوية وشجاعة وأمام جمع من السودانيين كانوا 
بالنادي أبلغ الضابط أن ما يقوله من تهدید للأفراد وللجنة النادي وأنه سيقفل النادي 
ويصادر أثائه (دا كان زمان يا بني دلوقت نحنا عندنا أولاد متعلمين دكاترة ومحامين 
ومهندسينء ما تقدرش كنا زمان غير متعلمين ونشخط الاشتراكات بالطباشير في الحيطة. 
دلوقت» أصبح عندنا دفاتر ومحاسب قول للسيد الليثي عبد الناصر أحسن ييجي يحضر 
الاحتفال» بكرة الحكومة تنقل بتاع الباحث وهو موظف وتنقل المحافظ وهو موظف 
وسنکون نحن وهو أهل إسكندرية مع بعضء يا بني قول له إحنا أصبحت عندنا دولة) 
ویبدو آن الضابط قد نقل من هذا امحدیث ما آقنع الليئي عبد الناصر عل احضور قبل دفاتق 
من بدء الاحتفال واحتل مکانه على يسار (عمي عمر رئيس النادي وشیخ البوابین) ثم فجأة 
ظهر الحافظ وجلس على كرسيه الشاغر على يمين عمي عمر مع بدء تلاوة الافتتاح. وزال 
التوتر مؤقتاً إذ تلقینا التهاني ورفعنا العلم الازرق والاصفر والأخضر داخل النادي مع 
افتاف عاش السودان حراً مستقلاً» وعاشت مصر والسودان» ومن عجب فقد كانت مصر لا 
تزال حتلة بجيش بريطاني يرابط على ضفاف القنال. 

وإذا وصلنا طلبة بمصر إلى أن رفعنا علمنا داخل النادي السوداني لابد لنا أن 
نتعرض لشخص سوداني أصيل هو بابکر الدیب نائب مدير عام الشرطة یوم أن تسلم 


مركز محمد عمر بشير 
الرئيس إسسماعيل الإزهري رئاسة الوزارة وقبل (سودنة) الوظيفة التي كانت يشغلها بريطاني. 
كان المطلب الأول لمن هم حول الرئيس ولقيادات العمل الاتحادي فصل إن لم يكن سجن 
اللواء بابكر الديب» ولكن الرئيس الأزهري أفهمهم جميعاً أن بابكر كان موظفاً تفرض عليه 
واجبات الوظيفة أن يقوم بم| كان يقوم به من عمل» وهو لم يؤذ أحداً (م تكن كلمة تعذيب 
معروفة ولا الفعل نفسه) ول يقم بعمل ضد القانون كا أنه كان عف اللسان واليد. والحل 
ترقيته مدير عام البوليس ونقله حفاظاً على الشعور العام إلى وظيفة في القاهرة كانت قبل 
الاستقلال يشغلها بريطاني وتسمى (وكيل حكومة السودان) ولا صفة في لندن بنفس 
الاسم. وأصبح بابكر الديب بحكم وظيفته الممثل الرسمي للحكومة الوطنية. ويشهد 
الجميع بأنه قام بأداء مهمته في أحلك ظروف العلاقات مع مصر عند ظهور بوادر الاستقلال 
وحمى العديد من الطلبة وحافظ على كرامة السودان فرفض أن يوقف الدعوات لممثلي الدول 
الأجنبية في الأعياد- وبالأخص في عيد توقيع اتفاقية السودان (۱۳ فبراير) وقد ظلت 
الحكومة المصرية تقاطع كل دعواته باعتبار أن السودان ليست لديه الشخصية الدولية 
الاعتبارية المستقلة عن دولتي الحكم الثنائي- بريطانيا ومصر- التي تؤهله لمخاطبة سفراء 


وممثلي الدول الأجنبية بمصر. وكان الاحتفال بالاسستقلال احتفالاً ضاقت عنه دار 








(السفارة- الوكالة سابقاً) فأكمله في عدد من الحدائق العامة في القاهرة. ثم صار سفير 
جمهورية السودان بمصرء أول سفير. وقد أنصف أحمد سليمان المحامي بابكر الديب عندما 
كان نائباً للمستر كوتس مدير عام البوليس فذكر في أحد كتبه أنه كان عائداً من موسكو- أيام 
الجاهلية كا يسميها- وتلقفته المباحث (الأمن حالیا) وأتت به إلى مكتب مدير الشرطة 
البريطاني الذي أجلسه وآمر له بقهوة» ثم سأله إذا كانت الحقيبة التي أمامه تخصه فأجاب 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
بنعم - ثم سأله إذا كان يعرف آحدا أو إثنين بمکتب (السكرتارية- مكتب السكرتير الاداري 
أو وزارة الداخلية) فأجاب بالنفي» فقال له المدير أنه أرسل في طلب نائب المدير بابکر أفندي 
الديب لكي يقوم بتفتيش الحقيبة ولكن حسب القانون لابد من حضور شاهدين. كان رد 
أحمد سليمان- كما آورده أنه يثق في خلق البوليس السوداني وفي بابكر الدیب» وإزاء إصرار 
أحمد سليمان على التفتيش بدون الشاهدين- أو حتى بدون حضوره هو شخصياً- حمل بابكر 
الديب الحقيبة إلى غرفة مجاورة وقام بتفتيشها ثم عاد وأدى التحية قائلاً: ليس فيها شىء ضد 
القانون . لم يبد أحمد سليمان الواقعة إلى روح بابكر الديب إذ كان في رحاب الله عندما أوردها 


بل أهداها- عقا إلى ... إلى.... ولا بلاش» إذ هل يستحق. 








مسطور ان 


۱۷۱! 5 ۱۲ 








المسيرة مذکران ابراهیم منعم منصور - الجرء الأول سدح 


استراحة أولى 
غيبيات وخوارق 





مركز محمد عمر بسير 











المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

إذا كان الملل قد أصاب البعض برتابة السرد حتى هذه المرحلة من المسيرة سأحاول 
أن أعود به إلى الوراء ليشهد بعض ما قابلني فيها من عجائب أمور الدنيا- لا يزال بعضها 
يشكل بعضاً من وجدان الحياةومن آمور الدين الذي هو ملازم دوماً للحياة. أردت أن أقول 
مما عشته وعايشته إن دیننا واسع ورحب حاول البعض أن يفرض رؤيته هو - احتكاراً- على 
الناس : بالجيش والأجهزة القمعية تحت شتى المسميات ولكنه موجود في (كل العالم) 
بممارسات وطقوس وتفسيرات يعيشها كل الناس منذ ١‏ قرناً وسيواصلون تقليداً بالعقل- 
وتعاملاً ومعاملة بالعقل. 
وأشياء أخرى حامياني: متع الله البوني بالصحة وطول العمر: 

كانت مدينة النهود ملتقى وتجمع التجارة والسلطة في الربع الأول من القرن 
العشرين عندما كان سلطان الحكومة يقف في حدود دارفور. ورغم التقسيم والتمزيق فان 
دارفور عرفت بحدودها ووحدتها منذ القدم وعاصمتها الفاشر. وكانت جزءاً من السودان 
قبل وأثناء وعند سقوط دولة المهدية. 

وقد غادر علي دينار مثل معظم قيادات القبائل مدينة أم درمان بعد معركة كرري 
واتجه إلى دارفور واستعاد فيها حكم أهله وأصبح السلطان علي دينار ويحكم سلطنة دارفور 
حك إسلامياً: يعترف بمرجعية هي الخلافة الإسلامية في تركيا وعاصمتها الأستانة. ويرسل 
زكاة السلطنة وتبرعاتها إلى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة وبنى مساكن لطلاب العلم في 
القاهرة حول الأزهر الشريف ويعد (كسوة سنوية) لبيت الله الحرام تسير بكل ما هو نفيس في 
قافلة دينية سنوية تعرف باسم (المحمل). 








مركز محمد عمر بشير 

وعند قيام الحرب العالية الأولى )١1918-١915(‏ كانت تركيا- دولة الخلافة 
الإسلامية- تقف في تحالف مع ألمانيا وإيطاليا والنمسا ضد بريطانيا العظمى وفرنسا ثم 
أمريكا. وني الوقت الذي كان يرسل فيه السلطان علي دينار سنوياً ما آشبه بالجزية إلى حكومة 
السودان وتسلم إلى مدير مديرية كردفان كان يراسل سرا الخليفة العثاني في الأستانة مؤيداً 
دولة الإسلام في حرا ضد الكفر. 

غير أن العيون والجواسيس كانت تراقبه وتستولي على الرسائل وتبادها بأخرى حتى 
قررت الحكومة (إعادة فتح دارفور) أسوة بها حدث للسودان. كانت نقطة التجمع والارتكاز 
مدينة النهود وعلى ربوة غرب الدينة كانت هناك شجرتان من التبلدي كأنما هيئتا لهذا 
الموقف. رفع على أحدهما العلم البريطاني وعلى الأخرى العلم المصري. 

بعد الفتح ازدهرت النهود وثقلت إليها بعد سنوات رئاسة نظارة عموم دار حمر 
وتربّع فيها (حوش الشيخ) وأصبح ملتقى أبناء السبيل من غرب وشمال وغرب أفريقيا في 
طريقهم إلى حج البيت ارام أو الخدمة في مشروع الجزيرة أو کلیهیا؛ وبعضهم طاب له 
المقام فاستقر في دار حمر الواسعة واستقل عن (حوش الشيخ). 

في هذا الحوش وجد الصالح والطالح. وكثيراً ما تبدر حوادث من شجار أو 
تعديات على الممتلكات أو يختلط الجميع في الغرف والديوان الكبير وفناء المنزل وهنا يبرز 
بعض ذوي العلم لكشف السارق والسروق. والتعرف على المشبوهين» وطريقة ذلك تتم 
دائ عن طريق (القرآن) بواسطة شيخ يلقب تارة (فكي فلان) وتارة (الشريف فلان) إذا كان 


من الوافدين من دار شنقیط. موريتانيا الآن أو كانت بشرته بيضاء. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

كانت هناك طريقتان للتعرف على السارق الأولى تسمى (البرهان) وهي أن يطلب 
من الجميع أن يجلسوا على (فروة صلاة) وأحداً بعد الآخر . وبعد أن يقرأ الفكي أو الشريف 
آيات من القرآن في سره في حالة السارق تلتصق الفروة بمؤخرته ويقوم وهو يحملها ومهم| 
يحاول إنزاها لا يستطيع ولا يكون أمامه وهو يسمع صيحات الجميع إلا أن يعترف ويعيد 
المسروقات ويطلب السماح. 

الطريقة الثانية هي (الدليل) » ينادي على المتهمين بالإسم» وعندما يجئ دور السارق 
يصعب عليه الحديث أو كا يقولون (يتبكم) ويسير من تلقاء نفسه يتبعه الشخص السروق 
إلى الکان الذي خباً فيه المسروقات أو الشخص الذي سلمها له فيكون هو (الدليل) على 
نفسه. وبعد أن شاع أمر البرهان والدليل اختفى اللصوص من وسط (الحوش) خاصة بين 
الضيوف. 

كما ذكرت فان النهود جذبت أيضاً من كانوا (ینزلون) الال بطريقة أشبه بأسلوب 
(الحاوي) وان كانو يؤكدون أنها تتم بمعرفة آيات قرآنية واستخدام نفر من الجن المسلم 
كالذين أخضعهم سيدنا سليان عليه السلام. 

ألقت الشرطة القبض على أحدهم من الوافدين من نيجيريا بعد إجراء (كمين) له 
رأى فيه البوليس (الریالات) الفضية وقد كانت العملة المتداولة في أربعينات القرن العشرين 
تتساقط من عل كلما ضرب بيده المنضدة التي أمام أحد التجار. 

وبعد فترة حضر أخوه من نيجيريا وأخبره أبناء عشيرته الذين سبقوه الاستيطان 
بالنهود بأن الإفراج عن أخيه لن يتم الا إذا قام بالوساطة لدى القاضي المقيم البريطاني الذي 








مركز محمد عمر بشير 
أمر بحبسه رهن تحقيق الشيخ منعم منصور لأنه رجل متدين ويؤمن بان وبالقدرات التي 
لدى بعض المشائخ. 

كنت جالساً مع بعض الاخوة والأصدقاء أمام (الحوش) عندما جاء أخ الرجل 
الحبوس وسأل عن الشيخ منعم» كنت أيامها من المدخنين» وعندما استعد أحد الإخوة 
لإدخاله إلى الدار همست قائلاً: معقول يكون هناك من يستطيع (إنزال) ريالات من المواء ؟ 
تبسّم الأخ ورفع يده إلى السماء وأنزل علبة سجاير وسلمني لا قائلاً : علم الله واسع» وسط 
دهشتي في المقام الأول ودهشة احضور توسط الشيخ منعم للقاضي البريطاني وأقنعه بأن 
(يطرد) المتهم من السودان ويتعهد أخوه بأن يغادرا الحدود في ظرف سبعة أيام يؤكدها 
وصول تلغراف من سلطان دار مساليت بمدينة الجنينة. 
لم تعرف قبيلة حمر بالتدين الشديد وبوجود رجال دين عديدين متفقهين وذوي شهرة او 
لدیهم مقامات تزار كا هو متواجد بكثرة في منطقة الجزيرة. جدنا الاکبر (الحاج منعم) زار 
بيت الله الحرام في القرن التاسع عشر وحمل اللقب ولم نسمح عن آخر إلا والدنا (احاج منعم) 
الأول سکن وتوف في ناحية (الکول) شال مدينة (الخوي) وعرف بالحاج منعم (ساکن 
الکول) والوالد عرف فقط بالحاج منعم آبو العازة. آول وآکر ذريته» وقد عرف بالتدین 
ويروي مدير خابرات الحكم الثنائي أن تدینه وعدم شربه للخمر كان أحد آسباب اختیاره 
ناظراً للعموم خلفاً لوالده بعد أن تجاوزه أحد أعمامه وأحد آبناء عمه في النظارة. غير أن في 
كل المقابر الرئيسية لقرى حمر- کی هو العادة بالسودان- رجل دين تسمى مقبرة القرية 


باسمه. وخلوة (مسيد) لتدريس القرآن باسمه وتحت رعايته. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
الزبال- والمعمر : 

في أربعينات القرن العشرين كان بالنهود شيخ (مري) ومع ذلك يسمى (الشريف 
الزبال) كانت تروى عنه كرامات. وأنه مع ذلك يشرب الخمر: عرقي العيش على وجه 
الخصوص ويحمله معه في (الإبريق) ينها حل . 

ويسكن (الشريف الزبال) الحي الجنوبي الشرقي من النهود. وكان معروفاً عنه أنه 
يأتي إلى منطقة آبار مياه النهود وتطيب له العبادة باسم الجلالة (لا إله إلا الله) وهو يقفز على 
(قصبة) من ساق الذرة يضعها على باب البئر وسط إعجاب ودهشة الحضور دون أن تنكسر 
القصبة أو تخطى رجلاه فيقع في البثر. 

كبرى بنات (الشريف الزبال) تزوجها (الشريف محمد أحمد الشهير باسم الشريف 
المعمر) الذي تنقل في السودان ما بين منطقة النهود وغبيش ومدينة (الشوّك) في شرق 
السودان وشمبات مع أسرة الشيخ آونسة وكوستي حيث توف وله بها ضريح يزار. 

كانت للشريف محمد أحمد ذاكرة حية على مدى عقود من الزمان يقال آنبا زادت عن 
إثنى عشر عقداً. أي أكثر من ۱۲۰ عاماء رغم أن البعض يقدّر عمره بحوالي (۲۰۰) عام. 
كنت بحكم علاقته مع والدي أزوره بانتظام عندما كان في شمبات وكان يشرف على علاجه 
ويزوره الطبيب الشيخ أحمد جحا بحكم صلة والده به. ىا كان يجاوره في ذلك الوقت 
القطب الاتحادي بشير محمد خير في شمبات. ويروى في مجلسه الذي يمتد من الضحى حتى 
الليل أحاديث وتواريخ وأنساباً لزواره تحير الجميع. 

ويبدو أن بشير محمد خير قد وصلت حيرته بإحدى الحوادث لدرجة (الشك) دون 


أن یفصح. ولكن الشريف عرف ذلك إذ إنه كا ورد في الأثر (إذا كنت مع الحاكم أمسك 





مركز محمد عمر بشير 





لسانك. وإذا كنت مع الفكي أمسك قلبك) : إذ إن (الفكي) يأتيه إهام با يضمره قلبك 
خاصة إذا كان الاأمر چمه. 

في اليوم التالي حدثت الحركة العسكرية للعقيد محمد نور سعد ۲ يوليو 1915م 
واحتل جنوده مداخل الكباري والمرافق الحيوية فأرسل الشريف إلى جاره وحواره بشير محمد 
خير وهو على بعد أمتار وطلب منه أن يذهب بسيارته إلى دكتور الشيخ جحا في منزله بحي 
بانت بأم درمان ويحضر له دواء كان قد وعده به ونسى أن يسلمه له عند زيارته له بالأمس. 
جادل بشير بأن الكباري مقفولة حتى على من يمشي على رجلين ناهيك عن من يقود سيارة. 

وأمام إلحاح الشريف توكل بشير واتجه من شمبات إلى أم درمان. أعاد الانقلابیون 
سيارتين كانتا تسيران أمامه ولكن لدهشته لم يوقفه أحد. وكانت الدهشة الأكبر لدى الشيخ 
أحمد جحا عن كيفية وصول بشير من الخرطوم بحري- شمبات. ولکن الشيخ أكد لبشير أنه 
سلم الدواء للشريف وأنه وضعه في أسفل السرير الذي يجلس عليه. 

عاد بشير بنفس الطريق ول يستوقفه آحد» وعندما دخل على الشريف ضحك وقال 
له: أصبحنا ننسى» الدواء آنا وضعته أت السریر وهاهو. علم يشير أن الشریف آراد آن 
یعطیه درسا عملیاً و (کرامة) وقال معثذراً یا آبونا آنت ما نسیت أحداث عمرها قرن تنسی 
حدث حصل آمبارح. آنا فهمت. 
أبو الساري- والناجي : 

وبجانب (الشريف الزبال) لدى قبيلة حمر شيخ متدين دفن بين مدينة النهود ومدينة 
الخوي يدعى (أبو الساري) وله ضريح يزار مبنى من القصب- قصب الدخن- في شكل 


(كرنك) وحوله باحة مسورة نشوك شجر اللالوت. یزار الضریح یومی الائنین وا جمعة 








السيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
ويدفع المريدون النذور التي يتلقاها خليفته ويصرف على تجديد السور والكرنك ونظافة 
الباحة واستضافة المريدين. فجأة توف الخليفة ويبدو أن حجم النذور أغرى بعضاً من أبنائه 
بالاختلاف فيمن يخلفه ومن يتلقى النذور واقتسامهاء ونصيب كل منهم. وكم يصرف على 
التجديدات وخدمة الزوار وضيافتهم. 

وبمرور الزمن خيّم الاهمال على كل شيء وفوجئ الجميع أن ناراً شبت وحرقت 
(الكرنك) الذي يظلل القبر. ولم تتعد النار إلى أي شيء آخر سوى (الكرنك) وبعد أن مرت 
أيام جاء الأبناء- المتحاربون والمتشاكسون- ليزيحوا الرماد ويحددوا مكان المقام فإذا بثعبان 
تخرج لهم من بين الرماد ومجم عليهم فهربوا من الکان وتكرر الأمر مرات ومرات» في أيام 
الجمعة والإثنين وفي غير أيام الزيارة» لا تبرّك للزوار ولا نذور للابناء. 

ذهب وفد منهم للشيخ منعم وحكى له الأمرء وبعد أن لامهم على عدم توقير الوالد 
قبل الولي وعلي الاختلاف من أجل رزق الدنيا وهو مكتوب نصحهم بالذهاب إلى (الشريف 
الناجي عبد الحق) وهو رجل دين ورع قدم إلى دار حمر فاراً من امجمة الوهابية على آل البيت 
على طريق موريتانيا ومن لا يعرفه. والكل لا يعرفه» يحسبه من متديني الشناقيط. طلب منهم 
الشريف الناجي أن يجمعوا أربعين رجلاً طاهراً يوم الجمعة صباحاً لابسين اللون الأبيض 
ومعهم (خروف أو تيس) ويحضرون إلى مكان الضريح . تقدمهم الشريف الناجي يحف به 
أبناء أبو الساري وخلفهم الرجال الأربعون وهم يرددون (لا إله إلا الله محمد رسول الله). 

ظهر الثعبان أمامهم وكلما تقدموا تراجع إلى أن اختفى. أحاط الرجال الاربعون 


بالشريف وأبناء الساري في شكل دائرة وبدأ الشريف والأبناء في إزالة الرماد إلى أن اتضحت 





معام القير وحدوده. وهنا جاءت الكرامة الكبرى التي رواها والدي الشيخ منعم عن 
الشریف الناجي وآولاد الساري : ثم ذکرها لي الشریف الناجي بنفسه. 


قال فجأة خرجت يد آبو الساري وشدت يد الشریف الناجی حتی رآها كل 





الحضور: غير أن بعضهم لم يحتمل المفاجأة فهرب. بعضهم وقع على الأرض. بعضهم ظل 
واقفاً وركبتاه ترتجفان» ثم عادت يد أبو الساري إلى القبر وأمر الشريف الناجي بذبح 
(الکرامة) وتقسیم العمل بين الرجال احضور لاعادة بناء (الکرنك) والسور والاهم من 
ذلك ألهم الله الابناء باختيار الخليفة بالإجماع وكذلك وکیله. عندما عرفت الشیخ الناجي بعد 
ذلك بأكثر من عشرين عاماً سألته عن الواقعة كما حكاها لي الوالد فضحك وقال لي: أنا 
حكيتها للشيخ منعم لكن أسأل الأربعين راجل الحضروها. 
أوصاني والدي أن أقيم علاقة مع الشريف الناجي فهو من الأشراف بحق ورجل دين» 
وبدأت أزوره كلا قدم إلى الخرطوم في نزله الذي كان غالباً (زاویة) صغيرة بضواحي أم 
درمان بحي اسمه (فنْقَر) إلى أن أقسم عليه أحد مريديه في مدينة الثورة بأنه ضيفه كلما جاء 
العاصمة. فجأة قال لي تاني ما تبحث عني ولا تزورني» إنت (أصبحت حاكم) » أنا سوف 
أصلك في دارك. ولو قصدتك سوف أجدك . لم أفهم الإشارة إلى أن (أصبحت حاكم) الا 
بعد أن أذيع اسمي بعدها بأسبوعين (وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية). 

ثم جاء وأبلغني بحصول قلاقل في الخرطوم وناسكم (یتلجلجوا) لأن النميري 
خارج السودان لكن ما بیحصل شيء حتى قبل أن يرجع. 

وكانت تلك حوادث شعبان ١۱۹۷م‏ وعندما كان الرئيس نميري يحضر موقر قمة 


في المغرب وألح عليه زملاؤه ليعود وعاد ووجد أن كل شيء قد انتهى قبل وصوله. وني يوم 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
أخبرني الشريف أن (مُلكِي) سوف يتوسع ويسبب لي غيرة وسط زملائي تجعلني أترك 


الحكم» وسوف لا أندم (لأن الله سوف يعوضك وتغنى مالآ وذرية) : وكنت وقتها لم أرزق 





بذرية من زوجتي الأولى عائشة حمزة هيبة كا أن مدخراتي الوفيرة من دخلي في مؤسسة 
الخليج. وقد كان راتبي الأعلى في السودان. قد تآكلت إذ كان مرتب الوزير قد وصل بعد 
سنتين حوالي ۲۵۰ جنيهاً في حين كنت أتقاضى ألف جنيه زائداً بدلات تزيد عن ثلثه في 
الشهر الواحد. 

وفعلاً عدت من زيارة عمل للولایات التحدة لا خد مسألة مستعجلة في مجلس 
الشعب عرفت بقضية (شركة وادي النيل) تقدمت على أثرها باستقالتي بعد أن صوّت 
المجلس ضدي بأغلبية كبيرة فدخلت سوق المقاولات والاستشارات واسترددت مدخراق 
واقتنيت أكثر من دار ورزقت ثلاث بنين وبنتاً من زوجتي الثانية فاطمة مهدي الحلو. 

غير أن الشريف الناجي بهر موسى عوض بلال في واقعتين: الأول شخصية والثانية 
عامة. كنا مع الأخ موسى في مناسبة بالنهود وذهبنا في طريق العودة لزيارة الشريف. لم يكن 
موسى يعير اهتاماً لأمر الخوارق رب لأنه لم يشاهدها وم يعشها. 
أراد الشريف إكرامه كضيف في (الدار - دار حمر) یذبح خروف لإفطاره ولما اعتذرنا بضيق 
الزمن إذ قد لا نلحق بالطائرة إلى الخرطوم أهدى موسى مبلغ أربع جنيهات ثمن الخروف 
ولا تردد موسى في قبوضا قال له (الاربعة جنيه لا بتغنيك ولا بتفقرني. لكنها هدية والهدية 
مودة بين الناس) وكان كلاماً مقنعاً جعل موسى يطلب مني أن أخبره بأي زيارة يقوم بها 
الشريف للعاصمة لكي يرد له التقدير. 





مركز محمد عمر بشير 





ولما أخبرت موسى بوصوله تأسف لأن لديهم مناسبة فرح في الأسرة وليس في داره 
من يكرمه ولكن الشريف قدر موقفه وعذره وأخبره أنه مسافر في اليوم التالي ولكن سوف 
يعطيه (ورقة) يضعها في جيب (القميص) تقبلها موسى على استحياء للمرة الثانية. وقال 
ببشاشته المعهودة الشريف عاوز (يجندني) ولا شنو. 

وفي اليوم التالي أخبرني موسى أنه أوقف سيارته بعيداً عن الطريق أحنى رأسه ليرفع 
زجاح الباب فإذا به یسمع صوتاً مدوياً اتضح أنه بسيارة مسرعة فقد سائقها توازنها فخرجت 
عن الطريق واصطدمت بسيارته في الوقت الذي كان فيه يهم بقفل الزجاج وانقلبت سيارة 
موسى من عظم الضربة وأخرجه رواد المناسبة دون أن يمسه شيء سوى قطع الزجاج 
الأمامي التي تناثرت داخل جيب القميص. ولا هم بإخراجها وجد (ورقة) الشريف ناجي. 
فتأثر موسى لدرجة كبيرة وأصر أن أعطيه أول فرصة يحضر فيها لتكريمه: إذ بدأ 
إيهانه باخوارق. 

كانت الفرصة في مارس ١۱۹۸م‏ في عشاء بمنزلي دعوت له موسى لأني- وقد قلتها 
معتذراً- علمت مؤخراً بحضور الشريف وكنت مسافراً في اليوم التالي إلى مؤتمر برلاني 
وبساحته المعهودة أيضاً قبل عذري. 

وأثناء العشاء أشار موسى إلى حالة الاستياء العامة في البلاد بسبب التطبيقات 
الخاطتة لقوانين سبتمبر» وأن الرئيس نميري أصبح أسيراً لمجموعة صغيرة لا تعلم ما يدور 
في البلاد» قال له الشريف الناجي النميري مسكين عيان» وبعد ما یمشی أمريكا ما برجم 
حاكم تاني.تساءل موسى : يعني نستعد لحكم عمر محمد الطيب» ضحك الشريف وقال : لا 


البلد تنقلب فجاييكم حاكم اسمه (سوار الدهب) وبسرعة قلت له : أنت بتعرف سوار 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
الدهب؟ دا ما يقلب تربيزة» ضحك وقال يا إبراهيم دا كلام فقراء ساكت. أنت بتصدق 
كلام الفقراء کان. قات له انت بالذات كلامك بصدقه ثم تغير الحديث لموضوع آخر. 

وفي الصباح حاولت بكل ما أستطيع ابلاغ ما دار إلى محمد الحسن أحمد الحاج وزير 
رئاسة مجلس الوزراء» وبا أني لم أكن وزيراً وقتها فلم يكن عندي (تليفون سري) وعند 
الاتصال بمكتبه أفادتني السكرتيرة بأن معه أحد السفراء وکا هي العادة يتم الاتصال بمجرد 
خروج السفیر. ثم أفادت السكرتيرة بأن محمد الحسن وهو يودع السفير طلبه رئيس 
الجمهورية وذهبا سوياً للاتحاد الاشتراكي. وفي الاتحاد الاشتراكي أفادتني السكرتيرة (سهير) 
بأنها سوف توصله بي ولو في غرفة كبار الزوار بالطار. 

وجاء موعد الاقلاع ول أتحدث مع محمد الحسن أحمد الحاج إلا ونحن داخل سجن 
کوبر إثر عودتي من الخارج واعتقالي بصفتي (وزیر الالية) التي كنت قد آعفیت منها قبل 
الانتفاضة بأربعة شهور وم يكن النائب العام عمر عبد العاطي على علم بذلك عندما أصدر 
آمر اعتقالي. 

محمد الحسن أحمد الحاج تعجّب من عدم تمكني من الاتصال به إذ قال لي أن شيخ 
عبد الرحمن- (لا يزال موجوداً في قريته كُلبّس بدارفور) أبلغ الرئيس نميري إذا ذهب إلى 
الولايات المتحدة فلن يعود رئيساً ولم يفلح إقناع الرئيس بعدم السفر. 

كان محمد الحسن يتوقع أنه إذا وصلته إشارتي نقلاً عن الشريف الناجي الذي يعرفه 
الرئيس نميري حق المعرفة ربماء ربیا» تعزز تلك الإشارة من رأي شيخ عبد الرمن.ولکن 
(المكتولة ما بتسمع الصايحة) کا يقول المثل. 
.. .. وشيخ جلود (غير عبدالسلام جلود رئيس وزراء ليبيا): 








مرکز محمد عمر بشير 

ومن عجب فقد تذكرت وأنا في سجن كوبر وصية كلفني شيخ تونسي اسمه (شيخ 
جلود) لكي أبلغها لعمر محمد الطيب النائب الأول ورئيس جهاز أمن الدولة في ذلك الوقت 
(۱۹۸۶م). كنت وزيراً للمالية وفي طريقي إلى إجتماع في تونس عندما كانت الجامعة العربية 
قد إنتقلت اليها عقاباً لمصر على توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل. 

سلمني عمر محمد الطيب خطاباً أوصاني بالحفاظ عليه وتسليمه يدا بيد لشيخ في 
تونس هو (الشيخ جلود) وسيقوم بتوصيلي إليه في منزله (محمد) رئيس جهاز الأمن 
بالسفارة. لا السفير موسى عوض بلال قال لي موسى أن شيخ جلود- باعترافه له- رجل 
عالم بعلم النجوم 25020107 لكنه ليس منج) gist‏ 850010 وبمقابلته شرح لي الفرق بين 
الإثنين دون أن أسأله باعتبار أن الأول علم مثل الكيمياء والرياضيات والنحو- أما الثاني 
فهو بالغيب. 

سلمته الخطاب وانسحب رجل الأمنء وبعد فترة من التأمل قال لي لا أستطيع أن 
أعطيك ردا مكتوباً وسيكون ردي الشفوي قصيراً يمكنك حفظ كلاته وتقوله للأخ عمر 
وحده: "في أبريل القادم (۱۹۸۵) النميري بطيخ". حمس کلات فقط. رددتها أمامه مرتين 
ولا اطمأن لذكائي طلب مني أن آخبره بأنه سيحضر للخرطوم في طريقه للحج وسيخيره 
بالتفاصيل ثم سألني هل تعرف شخصاً سودانياً اسمه (دفع الله) قلت أكثر من شخص. قال 
دفع الله الحاج یوسف قلت نعم أخ وصديق وزميل عمل سابق» قول له النميري سوف 
يعرض عليك منصب كبير كبير» أقبله سوف يفيدك في مستقبلك. 

في يوم عودتي للخرطوم كانت هناك جنازة عسكرية للفريق إبراهيم عبود حمل 
جثانها الحيش ومشت فيها القيادات السياسية لثورة مايو وقابلت دفع الله الحاج يوسف 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
وكان وزيراً للتربية وأبلغته (الوصية) وتعجّب إذ إنه لم يكلف شيخ جلود بأي آمر ول يقابله 
منذ فترة. أكد لي أن الرئیس عرض عليه أن يكون رئيس القضاء ثم أخبرت عمر محمد الطيب 
بالوصية الشفوية» وطلب مني- وقد أكدت له- أن يكون الأمر بيننا فقط تذكرت أنه قد 
تطابق حديث الشيخ مع حديث الشريف مع عالم النجوم لم أذكر الوصية لأحد الا في هذه 
المسيرة (الذكريات... المذكرات). 
....وعودة للشريف الناجي: 

بعد ذلك قامت انتفاضة أبريل ١۱۹۸م‏ واعتقلت لفترة ذهبت بعد الافراج عني إلى 
النهود حيث تم الاحتفال ببراءتي» وفي طريق العودة زرت الشريف الناجي ومعي أخي 
منصور منعم وابن عمي محمد صالح منصور والد المحامي صلاح الدين. وكانت 
التحضيرات للانتخابات على أشدها وأشارت كل الدلائل إلى احتمال فوز الصادق الهدي 
وتولي رئاسة الوزارة وحدوث استقرار للبلاد. 

غير أن الشريف الناجي قال في معرض (الونسة) الصادق يفوز لكن البلد تعمها 
(فوضى) لا يصدقها أحد وما يقدر يعمل شيء واحد لحد ما يتسلمها (عسكري) وفي عهد 
(العسكري) يعم البلاد الظلم بقدر لم يسبق له مثيل ولا يصدقه أحد ويشمل كل مناحي 
الحياة: قتل أبرياء وسجن وتعذيب وقطع معايش لكن (يخلص البلد منه واحد يتفق مع 
الأمريكان ويطلع الزيت وال حالة تتبدل إلى أحسن والناس تغني وترتاح). 
ابن عمي محمد صالح منصور كان حاضراً ما ذكرت ويمزح مع الشريف الناجي من وقت 
لآخر وسأله : إن كان يحضر الزمن داء رد عليه إنت يا محمد صالح إن شاء الله تحضره. 








مركز محمد عمر بشير 

ثم بسرعة أدار الحديث إلى موضوع آخر... ومع ذلك فقد كان الشريف الناجي 
يتحاشى مقابلة الحكام» وفي زماننا الرئيس جعفر نميري بالذات» وعندما أعلن قوانين 
(سبتمبر ۱۹۸۳م) كان رأيه عدم تطبيق الحدود في ذلك الوقت لأن (البلد يا دوب طلعت من 
مجاعة ول أهلك الحرث والنسل). 

سمع الرئيس بقدومه للعاصمة فأرسل في طلبه وقال له أنه أعلن الشريعة ويتوقع 
من رجال الله أمثاله أن يقفوا بجانبه ويعززوا حكمه حتى يعمل على تعميم شرع الله في كل 
أنحاء السودان. رد الشريف الناجي بأن موضوع الحكم بالذات من أخص خصوصيات 
المولى الذي قال (يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك من یشاء). لذلك يا السيد الرئيس إذا 
جاءك رجل من أولياء الله وقال لك إنك ستبقى في الحكم خمسين سنة حتى تعمم حكم الله 
فإنك إذا بقيت في الحكم تلك المدة (تفتكر إنه دا من كرامات الفكي لكن لو ما بقيت في 
الحكم فإنك سوف لا تقابل ذلك الشيخ ولا هو هيقابلك) لذلك فاترك آمر البقاء في الحكم 
للمولى الذي يعطيه من يشاء وينزعه من يشاء وتفارقا. 

من النوادر التي يحكيها عن الشريف الناجي صديقه وزميله في (السياحة- وهي 
التعبد في الأراضي الخلوية غير المأهولة) الشيخ أحمد البدوي من رجالات ضاحية أم درمان 
وكان تاجر (جلود) مرموقاً ثم تحول إلى تجارة الدمورية والدبلان إذ إن الشريف الناجي 
حذره من تجارة (الجلود) لأن بها (جهالة وغرز) » فالجلد الجاف لا يعرف أحد ما بداخله من 
ثقوب أو أخطاء أثناء عملية السلخ. استجاب أحمد البدوي لنصيحة زميله وجاءني في مصنع 


النسيج السوداني بتوصية منه ليعتمد ضمن تجار قطع الدمورية والدبلان. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 

كان للشيخ البدوي علاقة بالأستاذ محمد أحمد محجوب المحامي واستمرت العلاقة 
إلى أن أصبح المحجوب رئيساً للوزارة» وفي مرة سأله الحجوب إن كان يعرف شيخاً- هو أو 
غيره- يمكنه أن يكتب (حجاباً) ضد الرصاص لالة اللك حسين بن طلال القرشی 
الهاشمي ليحميه من تبديدات الفلسطنيين لاغتياله فهو صديق عزيز وحاكم عربي شجاع 
ومن الدوحة النبوية الشريفة. وعد أحمد البدوي بالاتصال بأخ له في الله وهو أيضاً قرشي 
هاشمي ومن الدوحة النبوية الشريفة. 

إتجه أحمد البدوي إلى دار حمر- إلى مدينة الخوي التي تقع بين الأبيض 
والنهود.ووصل إلى أخيه في الله وقص عليه القصص. بعد تمنع استجاب الشريف الناجي 
لطلب أخيه في الله ولحاية أخيه في الدم وكتب- كما أكد لي الشريف الناجي (الحجاب) وقام 
بربطه على رجل خروف ثم جمل ثم ديك ول يؤذى أياً منها الرصاص الذي وجه إليه من 
مسدس ومن بندقية خرطوش. سافر أحمد البدوي وأكد نجاح المهمة. 

اتصل محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء بالشريف ناصر خال اللك حسين وأبلغه 
الناً السار. وفي عبان تم اختبار(الحجاب) هذه الرة بسلاح أقوى من النوع الذي يستخدمه 
الفلسطينيون وذهبا لجلالة الملك الذي أصر بعدم اعتماد الاختبار الا على شخصه لأن 
الفلسطينيين سوف لا یصوبون سلاحهم نحو خروف أو جمل. وفي شجاعة نادرة صوب 
رئیس امرس مسدس جلالة اللك نحو قدمه السرئ:واطلق ست رصاصات خس منها 
آصابت القدم دون أن تحدث بها أذى والسادسة لم تنطلق. 








مركز محمد عمر بشير 
تسلم أحمد البدوي جائزته نصف مليون دينار طلب من الشريف ناصر أن يشتري له بها ذهباً: 
جنيهات وسبائك من بيروت وأن يضمن صعوده للطائرة ويخطر الحجوب برقم الرحلة 
وتاريخ الوصول. 

على لسان أحمد البدوي وبحضور الشريف الناجي- الذي رفض استلام أي جزء 
من الجائزة- اشترى عدداً من المنازل في حي الثورة وتزوج مجددا. ثم منزلاً في الخرطوم 
استأجره بنك باركليز. 

يبدو أن أحمد البدوي قد أسر للشريف ناصر خال الملك باسم الشريف الناجي. وقد 
حدثني الشريف الناجي أنه كان في زيارة وعمرة للملكة العربية السعودية وفي فندق متواضع 
عاد ليجد الفندق يزيد من الاهتام به لأن سيارة ملكية حضرت وأخبره سائقها أنه سيأتي 
لكي يذهب بالنزيل إلى الشريف ناصر للعشاء معه. 

كان الوقت بعد الظهر وقال الشريف إنه جلس على سجادة الصلاة يفكر في أمر 
الدعوة وجاءته إغفاءة رأى فيها خال الملك يحمله محاولاً إجلاسه على كرسي مذهب قاعدته 
من نار. خرج من الفندق تاركاً حقيبة يده وعلى المنضدة ما يكفي ويزيد عن حسابه بالفندق 
وأخطر المدير أنه ذاهب لزيارة صديق وسيعود قبل المغيب ليلبي الدعوة. 

اتجه رأساً إلى مطار جدة ووجد سودانياً من رجال الطيران توسّم فيه الخير وأبرز له 
تذكرة توسل إليه أن يجد له أي مقعد في أي طائرة متجهة إلى الخرطوم سواء بنفس التذكرة أو 
بتذكرة جديدة على خط طيران. وقد كان. وعندما أقلعت الطائرة قال لي أن الشريف ناصر 
حرصاً على ملك ابن اخته يريد أن يورطني في عمل من أعمال الحكم لا يرضاه الله- تخيلت أن 
العمل ربا كان اغتيالات لقيادات فلسطينية. 


۳۷۸ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
ثم شيخ الصحراء : 

ومن المشائخ الذين قابلهم الرئيس جعفر في أول رحلة له بالسيارات في بداية عهد 
ثورة مايو فا عرف بحملة مكافحة العطش شملت أجزاء من مديرية النيل الأبيض ومديرية 
كردفان أن التقى شيخاً يعيش في (قطية) في منطقة شبه صحراوية من أعمال مدينة بارا. 

جلس الرئيس أمام الشيخ وبعد التحايا قدم له الشيخ كمية من البلح فأخذ الرئيس 
ثلاث بلحات. ولكن الشيخ طلب منه أن يملا يديه الائنین. ففعل. ثم طلب منه أن يحسب 
العدد فوجدها ستة عشر تمرة.فقال له الشيخ (يا هن سنين حكمك يا ولدي). روى القصة 
شاهد عيان من موظفي وقاية النباتات- مكافحة الجراد الصحراوي. وقد كان حاضراً بحكم 
تردده على الشيخ أثناء عمله. وقد روى لي ذلك في عام ۸۱۹۷۲ . بعد أن توليت الوزارة 


3 


پول 
...وبله الغائب: 

ولعل العديدين من أقطاب مايو (السدنة كا يحلو للقوى الحديثة تسميتهم) يذكرون 
أحد المشايخ والذي امتد وجوده في الحياة العامة حتى عهد الإنقاذ (وقت كتابة هذه 
الذكريات أو المذكرات في مايو 2۲۰۱۱) وهو الشيخ بله الغائب محمد : من أبناء كردفان 
أبوزبد وقبائل البقارة. 

دخل على الرئيس نميري في مكتبه الحصين في القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة 
إذ رفع رأسه من القراءة ليجد شخصاً جالساً على الأرض ينظر إليه» نادى على مدير مكتبه 
محمد المنير مد ليسأله ففوجئ بالمدير يشاركه العجب. وبسؤال الضيف آفاد بأنه مظلوم: كان 


۳۷۹ 


٠ 
مركر محمد عمر بسير‎ 
يعمل في القيادة الشرقية وأتهم زورا بسرقة ذخيرة وأرسل إلى حامية الخرطوم حيث وضع في‎ 

زنزانة وعليه القيد والسلاسل. وبقى عدة أيام بسأله ع 








وبالاتصال بالحامية جاءت الإفادة مؤكدة وجود التهم مقيداً في الزنزانة» ثم جاءت 
الإفادة بعد قليل بأن الزنزانة ليس بها سوى السلاسل وقد هرب المتهم. لكن العجيب أن 
باب الزنزانة مقفل بالقفل الثقيل والترباس من الخارج. وهكذا نمت علاقة بين الرئيس 
وشيخ بله الغائب ى) عرف في| بعد. 

وکا يذكره السدنة يذكره (السندکالیون) أيضاً عندما أحضر لأحد (الأمريكان) 
زهرية من داره في الولايات المتحدة في ثوان مؤكداً قول من عنده علم من الكتاب الذي قال 
لسيدنا سلیان عندما يسأل من يأتيه بعرش سبأ بلقيس: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك 
طرفك). 

وشيخ بله الغائب يذكره ويتعامل معه بعض رجال ثورة الإنقاذ الوطني. أو لو 
شئت الدقة المؤتمر الوطني ولعل من حضروا المؤتمر الاقتصادي عند بداية الثورة يذكرون 
العرض الذي تقدم به باستخدام (الجن) لتنزيل الثروة ( ذهباً أو دولاراً) ولئن لم يأخذه 
البعض بالجد في العلن الله وحده يعلم من آخذه بالجد في السر» ولا يزال . أما الوسيط مع 
رئيس الجمهورية فهو كا ذكر لي الشيخ بله الغائب : الأستاذ رئيس تحرير الرأي العام كمال 
حسن بخيت والذي يمت بقرابة مع الرئيس. ومن أقوال الشيخ بله انفصال الجنوب وعودته 
بعد ۳ سنوات. وبقاء عمر البشير في الحكم ۳۱ عاماً و۲۵ یوما. وانقلاب عسكري في أريتريا 


يطيح بالرئيس أسياسي آفورقي. وسبب علاقتي به أنه كان في بداية عهده يتاجر في الأراضي 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
الزراعية ويعمل (سمسارا) لها في نفس الوقت. وقد اشتريت منه بضعة قطع لا أزال أتعيش 
من ريعها بعد أن تقدمت بي السن. 

انفصل الجنوب. ولم يعد بعد ۳ سنوات. ومع تأكيده باستمرار حكم الرئيس عمر 
وهو ما نعيشه اليوم (۲۰۱۷) الا أن الإطاحة بالرئيس أفورقي لم تتم حتى الآن(/117١7م).‏ 
....والشيخ النور: 

ومن الشيوخ الذين ظهروا مع ثورة مايو ۱۹۱۹ وفي بدایاتبا الشيخ النور الخليفة 
الشيخ جودات من قبيلة سليم في منطقة كوستي والمعروف اختصاراً باسم الشيخ النور. 
وكانت له معاملات مع الرئيس نميري ومع جهاز الأمن بقيادة عمر محمد الطيب في كشف 





العديد من خطط وشخصيات المعارضة لم يحن الوقت لكشفها. 

مير أنه استخدم إحدى عملياته أو بالدقة استخدم آهله بعض الأسرار في إطلاق 
سراحه من سجن كوبر عندما تم اعتقال (السدنة) وقد كان بينهم. 

تقول الرواية أن نفراً من رجال (القوی الحديثة) ذهب إلى منزله في مدينة كوستي 
وطلب مفاتيح سيارته ذات الدفع الرباعي ماركة نيسان باترول لأنها حسب ما وصلهم من 
معلومات اشتراها جهاز أمن مايو مكافأة له على بعض خدماته. 

قاد النفر السيارة من كوستي وتوقفوا بعد كوبري كوستي لدى نقطة الشرطة للتزود 
بالوقود للرحلة إلى الخرطوم. ولا كان الوقت صباحاً فقد وجّهوا السيارة نحو الغرب» نحو 
كوستي لین بدء الرحلة حتى تكون مقاعد السيارة بعيدة عن حرارة الشمس. ثم تحرك 
الركب وعندما دارت السيارة على اتجاه الخرطوم توقفت عن السير» ولم تفلح كل المحاولاات 
لدفعها للأمام. 





مركز محمد عمر بسير 





أحد أفراد الشرطة. ويبدو أنه من أتباع الشیخ اقترح أن توجه السيارة نحو كوستي 
وبمجرد تحريك عجلة القيادة تحركت السيارة بضعة أمتار نحو كوستي ولكن ما أن توجه 
السائق نحو الخرطوم حتى توقفت مرة أخرى. نصح المسئول عن نقطة الشرطة وفد الخرطوم 
بأن يترك السيارة في حفظهم والعودة لإبلاغ من أرسلهم بالواقعة. 

كنا جلوضا نتسامر ق السجن بعد انتهاء نشرة آخبار التلیفزیون فى العاشرة مساء 
عندما فتح باب سجن كوبر الداخلي لا لادخال معتقل جدید. بل لإخراج شيخ م النور لانه 
مطلوب للتحقیق» ولا كانت التحقیقات كلها تنتهي في الثانية ظهراً ویعود العتقلون إلى 
السجن ولا مخرج آحد بعد ذلك الا في صباح الیوم التالي كان الأمر عجيباً وظللنا ساهرین 
إلى أن عاد شيخ النور وعلمنا منه أن الطلب كان من رئيس الجلس العسكري للانتفاضة 
الشبر سوار الدهب. 

ثم حکی لنا الواقعة التي حدئت في نقطة شرطة الكوبري» وبعدین قال له المشير 
لابد أن یکون هناك خطأ ما آدی إلى اعتقاله وأمر بالافراج عنه فورا.... وليلاً وقبل أن یصبح 
الصبح وتفتح آبواب المكاتب» وآنا آودعه قال لي: إنت شغل واحد ما جاييك. مسوك 
ساکت. والعساکر. یقصد: خالد حسن عباس وبقية زملائه ضباط مجلس قيادة الثورة) إعدام 
واحد ما جاييهم وبعد کم سنة یتفکوا. صدقته وقد كان الافراج عنهم من انقلابیین مثلهم 
هم رجال ورة الانقاذ. 

وبعد الافراج توطدت علاقتي مع الشیخ النور وقد آسر لي یوماً أثناء الجكم 
الديمقراطي الائتلافي (الديمقراطية الثالثة) أن الجيش تاني یقلبها على (الصادق)- الصادق 


الهدي رئیس الوزراء. وبعد ثلاث سنوات من انقلاب امیش ودعنی مسافراً للسعودية 








السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
والخليج وقال لي كان عمر (عمر حسن أحمد البشير) تم السنة الثالثة دي في الحكم يكون 
نجمه صاعدا أكثر من السيدين يستمر أقله عشرين سنة. لو كان الصادق ومحمد عثان 
الميرغني بسمعوا كلامك قول ليهم معارضتكم دي خلوها واتفاهموا معاه وصالحوه قبل ما 
يصالح جون قرنق. قلت له أنا شخصياً مصدقك لكن إذا قلت لهم هذا الكلام سيكون 
ردهم: ده نظام منتهي » إذا عاوز تتعاون معاهم ما تفتش ليك عن مبررات. وبالفعل هم 
المعارضة خلوها. وصالح هو جون قرنق. وظل أكثر من عشرين عاماً حاکاً لم (ینزع) من 
الملك خلاها. 

وبعد غزو الکویت أتاني شيخ النور وأبدى أسفه لا حدث وطلب مني أن آعد له 
لقاء مع دکتور عبدالله السریع سفیر الکویت بالخرطوم والذي نزعت منه ثورة الإنقاذ اللقب 
باعت‌اد اسم الامارة صلاح الدین رقم ۱٩‏ الذي أطلقه الرئیس صدام على الکویت. 

قابلنا السفیر الكويتي وتعهد له شيخ النور بالعمل على خروج القوات العراقية من 
الکویت بسلام وهدوء في ظرف ۲۱ یوماً على شرط أن يأخذه إلى المملكة العربية السعودية 
لقابلة سمو أمير الکویت. راوغ السفیر في ذلك وآخبره أن سمو الامیر حاط بقوة آمنية لا 
تسمح له هو السفیر بمقابلته ناهيك عن مواطن لدولة (السودان) يدت الغزو. 

رد عليه شيخ النور بأن التأیید من الحكومة. ولیس من کل البلد. فما كان من السفیر 
الا أن ارتکب غلطة العمر کما یقولون إذ قال للشیخ باختصار آنت عاوز كام عشان تطرد 


TAY 





مركز محمد عمر بشبر 





صدم شيخ النور» فليس من عادته (المقاولة أو المفاصلة) في القيام بخدمات ورد على 
السفير في ذلك المعنى وأفاده بأنه بعد أن يتم الجلاء سيقبل أي شيء يدفعه صاحب السمو.. 
ثم استدرك : وهنا ذهل السفير: لا أقبل ولا مليم والله العظيم وهذا قسم. 

ولا رأيت غضب الشيخ» ثم إصراره على العملية أردت الانسحاب لعلههما يتفقان 
على انفراد» لكن السفير استبقاني. وقام شيخ النور بأخذ (فتاحة الظروف) المعدنية من أمام 
السفير وتمتم ببعض الادعية ووجهها نحو السفير فإذا بها (تلتوي) وتصبح في شكل دائري 
وتركها على المنضدة. وهنا خرجت» وبعد قليل عدت خشية أن ينفعل شيخ النور مرة آخری 
إذ هو سريع الغضب فوجدت السفير جائياً على الأرض عند قدمي الشيخ. 

ما دار بینهیا في الدقائق القليلة التي غبت عنهیا كان حديثاً خاصاً بحياة السفير أراد 
به شيخ النور أن يؤكد للسفير أنه ليس دجالاً أو طالب مال وإنما استثاره تصرف العراق نحو 
بلد عربي ومسلم وجار. 

بعد فترة من اللقاء اتصل بي الدكتور عبدالله السريع وطلب مقابلتي عاجلاً وعند 
اللقاء وقبل السلام ابتدرني: فين الشيخ؟ بسرعة هاتبولناء صاحب السمو يريدا. أقسمت له 
بأنه منذ لقائنا معه ودعني مسافراً إلى عمرة ثم إلى الخليج ولا أدري عنوانه. لم يصدق 
واستحلفني فحلفت له. ما قالك شيء. قال السفير أضاع فرصة. صدام سوف يرحل لكن 
بعد أن يدمر الكويت وكنت عاوزه يرحل في ظرف شهر وبسلام. حاولت جهدي أن أبحث 
عن شيخ النور فقد كان قلبي على الكويت مثله ولم أفلح إلى أن هبت عاصفة الصحراء 


واحترقت أبار البترول ثم تدمير الكويت وكذلك تدمير جيش وكرامة العراق. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وحكاوي شيخ النور لا تنتهي وقد استحلفني ألا أبوح بالعديد منهاء وها أنذا 
لا أقول. 
.... وآخر من بربر: 

محمد أحمد جحا الشهير باسم (دقيس) تربطني به بجانب الزمالة والصداق علاقة 
مصاهرة إذ إن والده متزوج من أختي حليمة وله منها ما سبق أن أوضحت عبد المنعم 
العقيد مهندس بالجيش ومد الماحي المهندس الزراعي والدكتور حيدر الطبيب الأخصائي 
الجائز على جائزة علمية في الطب في خصص نادر. 

بعد وفاة والده» أحمد جحاء حضر للعزاء شيخ من أهلهم (ناس بربر) يعمل إمام 
مسجد في قرية من ضواحي بربر بالجانب الغربي للنيل. وقد حضرت للتعرف عليه ونحيته. 

كنت وقتها وزيراً ولكن بعد لحظات من الجلوس معه طلب من (دقيس) أن حضر 
(كورة) مها ماء وغطاء للكورة. وقال مخاطباً (دقيس) أخوك دا مكبل بمصايب لا يعلمها إلا الله. 

وسألني بتشتغل شنو. وزير. الله يحفظك. طلب مني أن أضع يدي اليمنى على غطاء 
(الكورة) ثم بدأ يقرأ سرا وشفتاه تتحرك. ثم بدأ العرق يتصبب من جبهته وكنا في فصل 
الشتاء. ثم أصبحت أنفاسه تعلو وتببط. ثم هدأ وهو لا يزال يقرأ سراً ثم طلب مني أن أرفع 
يدي من (الكورة) وقام بفتح الغطاء فإذا بالماء الذي في الكورة ملی بالطين وتغير لونه. 

غسل يده اليمنى وأدخلها ليخرج علبة من صفيح يغطيها الطين وعندما قام بفتحها 
أخرج منها قطعة قماش ملفوفة وبداخلها شعر ومسامير وأسلاك وورقة مكتوبة لم أستطع 
قراءة شيء فيها غير اسمي إبراهيم» وداخل الورقة (عروق) أشجار. وضع كل المحتويات 
على غطاء الكورة وطلب ناراً وحرقها. 








مركز محمد عمر بشير 
لم تبدو الدهشة على وجه (دقيس) الذي اعتاد على رؤية أمثال هذه الخوارق ولكن 
بالنسبة لي كانت الرة الأولى. وسألته من قام بهذا العمل» فقال لي حسادك كثيرين لكننا خشية 
الفتن لا نبوح بالاسیاء. هل لا يزال هناك شيء قال نعم وان شاء الله في مناسبة أخرى 
سترى. 
حضرت بعد عدة أيام فوجدت الرجل قد عاد إلى قريته. نسى (دقيس) أن يخبرني 
للحضور لوداعه وربا لجلسة أخرى. وفاتت علِّ المناسبة الأخرى فتركني- كما قال- مکبّلا 


با تبقى. 


قرأت مرة» قبل عشرات السنين» للأستإذ نیس منصور مقالاً شيقاً في آخر ساعة عن 
تحضير الأرواح في الشرق الأقصى» ول أكن أتوقع أن أقابل التجربة في داري بضاحية الصافية عام 
۳ م إلا عندما زارني الأخ الطيب محمد خير سرور وأخبرني أن معه بالخارج (شيخ كال - من 
شمبات) ويستأذنني إذا كنت أرغب أن يقوم بتحضير (روح) أي شخص من الموتى. 

رحبت بالفكرة ودخل شيخ كال ومعه (سلة) صغيرة يمكن أن تحمل بأصغر 
أصابع اليد- الخنصر - وطلب مني إحضار ورق كثير وأن آضی الأنوار حتى تكون ساطعة. 
ثم ربط قلمأ في طرف (السلة) وطلب مني ومن الطيب أن نمسك بكل قوة ثم أنوي في 
(سري) شخصية من أريد أن يتم تحضير روحه. 

وبدأ يقرأ دون أن نتبين الكلمات ثم سرعان ما بدأ وزن السلة يزداد. وثقلت ثم 
أفلتت من يدينا نحن الإثنين وطارت إلى أعلى ثم سقطت على الأرض. نبهنا شيخ كال أن 
نمسك بقوة لآن الروح بدأت تنزل في السلة. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

ثم بدأ القلم یتحرك ويكتب بسرعة فائقة أشبه في زماننا بشريط (التلکس) وبعد عدة 
دقائق توقف القلم وخف وزن السلة وجمع شيخ كال الأوراق العديدة التي تمت كتابتها 
ورتبها ثم سلمها لي وبدأت في القراءة السلام عليكم يا أخانا إبراهيم. هذه روح شيخ مهيب 
قابلته في (البرزخ) وأخبرني أنه والدك الذي طلبت تحضير روحه. ويقرؤك السلام ويوصيك 
بزوجته حواء وبناتها وابنها إذ إنهم جميعاً أصغركم. وتوصي إخوانك المقيمين في النهود على 
تزويج البنات. هناك في غرفتي بنادق تخص أولاد شيخ منصور إسماعيل (قراض القش) 
وحسب وصيتي تسكن زوجتي حواء وذريتها في غرفتي وملحقاتها. ثم ذكر معلومات 
أخرى خاصة عن الأسرة قبل أن يقول ونستودعك الله. 

ثم استمرت قراءتي للكتابة: بأنني سألت والدك عن العبادة التي أوصلته هذه المنزلة 
فقال: إن أكثر ما أفادني هو عطاؤنا للناس فأوصي إبراهيم بذلك. 
وهنا توقفت الكتابة بعد أن اختتمت بالعبارة التالية : لولا أنني مرتبط بأمر هام لبقيت أكثر 
ولكنني أعلم أنك تأتي إلى الإسكندرية كثيراً فأرجو أن تزورني: المرمي أبو العباس. 

وعلمنا من شيخ كمال أن الذي أتى بالروح وكاتب الرسالة هو ولي الله المرسي أبو 
العباس ساكن الإسكندرية وأنه- كا أكد لي شيخ كىال- المسئول عن أفريقيا من الإسكندرية 
حتى رأس الرجاء الصالح. ما كتبه عن والدي وزوجته وذریتها والغرفة وما لم أذكره ما كان 
يعرفه أحد. وكنت منذ ذلك التاريخ ۱۹۸۳ آزور (الضريح) كلما حضرت إلى الإسكندرية 
بینما كنت قبل ذلك أصلي فقط في السجد. والضريح يقع تحت أرض المسجد ويعلوه صندوق 


يتبرك فيه الزوار باعتباره الضريح. 








مرکز محمد عمر بشير 
وهناك من تعرفونه: الشيخ عبد الرحيم البرعي: 

عوض الله حسين بابكر للذين يعرفونه شاب متدين. كان أقرب إلى جماعة الأخوان 
في فترة دراسته الجامعية (/951١-19170١م)‏ ولا یمن بخوارق رجال الدين رغم نشأته في 
بيئة بها كل الخوارق التي ذكرتها في منطقة (النهود) وهو ابن أختي (الملكة) كان يستقل في 
رحلة من الأبيض إلى الخرطوم سيارة لا تحتمل حرارة الجو لعطب فيها وتستهلك المياه أكثر 
من العتاد وخرج مبكراً بعد صلاة الفجر من الأبيض حتى يقطع قدراً من المسافة في جو 
الصباح البارد قبل أن تقابله شمس الضحى. 

كان يقود السيارة خاله (أحمد منعم) والذي أفاده بأن يسلكوا طريق (قرية الزريبة) 
لكي يزوروا (الشيخ البرعي) في طريقهم إلى أم درمان. اعترض عوض الله بأن الزيارة سوف 
(تؤخرهم) خاصة إذا أصر الشيخ على استضافتهم إلى إفطار أو حتى شاي. 

وبا أن عوض الله لا يعرف مسالك الطرق فإن أحمد منعم بعد أن أبدى موافقته على 
رأيه سلك طريق (الزريبة) وكان أن وجد عوض الله نفسه داخل حوش الشيخ البرعي. ثم 
جاء (الحيران) وتعرفوا على أحمد وهرعوا إلى مولانا بآن أحد أبناء الناظر منعم قد وصل. 

جاء الشيخ مرحباً وقبل أن يطلب منهم أن يتفضلوا سأل عوض الله (إنت مابينا 
مالك يا ود حسين. نحن أهلك). وكانت المفاجأة التي جعلت عوض الله يعتذر بموضوع 
السيارة وحرارة الجو. واستهلاك المياه. واستقبال الشمس في الطريق شرقاً. رد عليه الشيخ 
البرعي ببشاشة: أشرب الشاي وتأكل معانا فطور الحيران لكن كنا دايرين نضبح ليك يا ود 
بت الشيخ منعم. تعجب عوض الله من معرفة الشيخ لاسم أبيه وأمه.رد عوض الله : كنت 
عاوز أصل الساعة خمسة مساء لأرد السيارة إلى شركتها قبل المغيب. لكن بعد التأخير دا إن 


۳۸۸ 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
شاء الله أصل قبل ما تضلم. رفع الشيخ البرعي يديه وضرب الكفين وقال له إن شاء الله 
الساعة خمسة. ورفع اليدين وضرب الكفين هو أسلوبه في الدعاء و (الفاتحة) دون أن يقرأً. 





عندما وصلني عوض الله في ضاحية (الصافية) ونزل للسلام كانت الإذاعة تعزف 
موسيقى أخبار الساعة الخامسة مساء. لم تتوقف العربة منذ أن غادرت (الزريبة) حتى 
وصلت (الصافية) إلا للتزود بالوقود وليس بالاء. ظل عوض الله منذ ذلك اليوم يردد: كنت 
فاكر أهل الله انتهوا والموجودين كلهم دجالين. لكن الشيخ عبد الرحيم البرعي أقنعني 
بوجودهم. 
ومن لا تعرفونه: الشيخ صباح الخير: 

في الطريق بين مدينة النهود ومدينة الضعين في جنوب دارفور يوجد (مسيد- خلوة 
قرآن) شيخها يدعى (صباح الخير) وهو دينكاوي من (أببى) جاء (صباح الخير) إلى حوش 
الشيخ منعم منصور صبياً صغيراً دون العاشرة من العمر وانضم إلى منظومة (عيال الحوش) 
کا يسمون أنفسهم: بعضهم من دار حمر وبعضهم من خارجها مثل صباح الخير بل أن 
بعضهم من خارج السودان وانتموا إلى حمر فیا بعد. 

دار حمر كا وصفها مكي أبو المليح مؤسس الدار (فروة النمر- يعني جلد النمر: كله 
نقط وكل نقطة قبيلة وكلهم حمر) كان صباح الخير ومنذ أن دخل الحوش مولعاً بصوت 
(النوبة) التي تضرب وترن كا قال المجذوب في قصيدته عن المولد. ترن كل ليلة إثنين 
وليلة جمعة. 

ولكن صباح الخير لم يكن ينتظر قدوم الليلتين بل كان يعلق على رقبته(صفيحة) 
فارغة ويضرب عليها مثل النوبة ويردد الجلالة (الله أكبر ولا إله إلا الله) ويخرج بها من 


مركز محمد عمر بشير 
الحوش عصر كل يوم متجهاً إلى خارج مدينة النهود يتبعه الأطفال وهم يرددون (الذكر) 
ويعود بهم قبيل المغيب. 

أصبح الصبي شاباً. ثم حضر رجل من الدينكا وقابل الشيخ منعم وتوسل إليه أن 
يقنع ولده بالعودة معه إلى بلده إذ إنه هرب منه في المجلد قبل سنوات رغم تحذير (كجور 
الدینکا) له بأنه إذا لم يحافظ على ولده هذا فإنه سيهرب ويصبح (كجور مسلمين) رفض 
الشاب العودة مع والده ثم اختفى من الحوش ومن النهود وقال لي فيا بعد أنه ذهب إلى 
(الشیخ المكاشفي) في قرية الشكينيبة. 

كيف عرفتها ووصلتها. ضحك وضحك والضحك عند صباح الخير هي إجابته 
على كل سؤال. ثم عاد إلى النهود وذهب إلى بلدة (غبيش) جنوب غرب النهود وجاء صباح 
يوم إلى جدي ورئيس المحكمة محمد عبيد الله مكين وقال له بحزن الشيخ منعم مات في 
الخرطوم وسیحضرون الجثان بالطائرة وأنا ذاهب إلى النهود لأحضر الدفن. 

لم يكن هناك (۱۹۸۲) تليفون بين الخرطوم وغبيش ولم توجد الوبایلات بعد. 
شرب الجميع الشاي وأذيع الخبر في نشرة أخبار السادسة والنصف صباحاً. وصل ابلشان 
بالطائرة الساعة السابعة وشيع من المطار إلى مسجده وأثناء الدفن كان صباح الخير ضمن 








الذين عزوني و (شال الفاتحة) حضر محمد عبيد الله بعد العاشرة صباحاً بالسيارة من غبيش 
ووجد صباح ابر آمامه وسألني وآخبرته أنه كان ضمن المشيعين ثم حكي لي الواقعة. 
صباح الخير يدير الآن (المسيد) وبه بضعة آلاف من الطلبة (الحيران) يحفظون القرآن 
ويغادرون الخلوة مبشرين في القرى. كيف تعيش يا صباح الخير؟. ضحك ثم ضحك وقال 
آنا عندي (زرع وبهائم) وثلاثة نسوان وبضعة أطفال. لكن المسيد والحيران يعيشون على الله. 





ا مسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزه الأول سح 
على تبرعات وهبات المحسنين. واحد يجيب شوال عيش .واحد يرمي شوال سكر. واحد 
يجيب تور وآخرون وهكذا. 
صباح الخير من دینکا(آبیی). 
هذا ما كان من آمر رجال الدین : لکن هناك آخرون: 
نهينا من الذهاب إليهم ولکنهم معنا : 

قابلتنی حوادث من ضاربي(الودع) و(الرمل) وغیرهم ولو لا آننی واقف علیها 
(رغم أن لم سعى الیها) وأخرى لو لا أن رواتبا ثقاة لا صدقتها ولا رویتها. 

وأنا في صقع الجمل- حدث صغیر- زارتنا إمرأة كانت صديقة لوالدي قبل وفاتها 
واستمرت صديقة التي فاطمة بعدها. اسمها (حواء بت عبد القادر) يخشى الجميع أن 
ترمی هم (الودع) لأن رمیتها (شوف عین) وأحياناً (حرج). لكنهاء ومن تلقاء نفسها. قالت 
لي أخوك منصور رجع من (دار الریح) صححتها خالتي بأن منصور في (دار الصباح) لکنها 
آصرت أنه في دار الریح وقالت أنه رجع فاذهب إلى النهود ستکون آول من یقابله. 

(دار الصباح) القصودة هي أي بلد شرق النهود أو السودان وقد كان منصور 
الجندي فعلاً في (دار الصباح): في أثيوبيا. ثم انتقل بعد استرداد أثيوبيا من ایطالیا بواسطة 
الحلفاء في الحرب العالية الثانية إلى لیبیا. وهي (دار ریح- إى شیال) وم تكن خالتي على علم 
بذلك. شهلتنی خالتي بسرعة وني أول قافلة جمال متجهة إلى النهود كنت معها ووصلت 
ا ا 
يطلق على البوابة الرئيسية لحوش الشيخ منعم بالنهود. 





مركز محمد عمر بشير 
وفجأة ظهر منصور ومعه مساعد لوري يحمل شنطتين. وبكيت وأنا على صدره» وتذكرت 
(حواء بت عبد القادر). 

وأنا في إدارة مؤسسة الخليج العالية وعلى رأس مصنع النسيج السوداني كنت أسكن 
في ضاحية الصافية غرب فنطاس الیاه الحالي. على شهال منزلي كانت هناك مساكن عشوائية 
عرفت باسم (حلة الكرتون) إشارة للمكونات الرئيسية لمواد بنائها وهي في أماكن المنازل 
الحالية لبدر الدين سلییان ومحي الدين صابر. 

لم تكن هناك إمدادات مياه لسكان حلة الكرتون وكانوا يعتمدون- في صفوف 
منتظمة كل صباح - على (ماسورة) مياه على مدخل منزلي لري ميدان (النجيلة). 

وني عصر يوم ١9‏ يوليو ١۱۹۷م‏ أعلن الرائد هاشم العطا البيان الأول مطيحاً بثورة 
۵ مايو ومعلناً ثورة التصحيح. وني اليوم التالي خرج العمال في موكب تأييداً لثورة 
التصحیح. وتلاه إعلان موكب لأساتذة الجامعات في اليوم الذي بعده. وفجأة دخل مكتبي 
رئيس نقابة العمال والأمين العام وأمين المال دون استئذان وطلبوا أن يأمر مدير أمن المصنع 
والسئول عن شئون العاملين سائقي البصات بنقلهم للإشتراك في الموكب وعبثاً حاولت 
اقناعهم بالاشتراك في موکب ۲ یولیو الذي دعا له اتحاد عل السودان بدلا عن موکب 





أساتذة الجامعات في الیوم الذي قبله. رفضوا وقالوا انبم سیشترکون (ویدینون) وهي اللغة 
التي كانت تستخدم عدم تعاون الادارة. ولا سألتهم إذا کانوا استأذنوا في الخروج سحب 


سكرتير النقابة ورقة من آمامی وكتب عليها بهذا نخطر الادارة بأننا سوف نشترك في الموكب. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

في يوم ۲۲ يوليو سمحنا لهم بالاشتراك في موكب اتحاد العمال. ونسبة لعدم 
الانضباط الذي ساد الأيام الثلائة الماضية فقد قررت قفل المصنع لأجل يحدد ويعلن 
بالإذاعة والتليفزيون. 

وبقيت ومعي مدير أمن المصنع عمر علي حسن حتى خروج آخر عامل وأشرف مع 
طاقم (الحراس) في الوردية على تنفيذ الأمر. وعند عودتي للمنزل مرهقاً إذ قضيت وردية 
الليل التي تبدأ في العاشرة مساءً واستمر وجودي في المصنع حتى نهار اليوم التالي وجدت 
تحت شجرة (ماسورة الماء) إمرأة وقورة أمامها مقصف (قفة) وخاطبتني بلهجة حانية (يا 
ولدي الله يستر الحكومة انقلبت) آردفت حديثها بأن (رمت) سبع ودعات على الأرض. 

قلت ها أنت عرفك شنو بالحكومة. ردت بسرعة قبل أن أتركها (قول بخلت علي 
بالبياض: كله عشرة قروش) فنفحتها المبلغ ولكنها ألحت: الحكومة دي يومها دا ما بتمو. 
بس شوف الودعة الواقفة دي. أصبح الأمر مثيراً. 

وقفت ورأيت الودعة الواقفة. قالت مها خسة وعشرين قرش. قلت ها أتمها جنيه 
لكن لو طلع كلامك كذب ناس الكرتون ديل كلهم يشربوا من الاسورة إلا أنت. ردت بثقة: 
يا ولدي الودع بكضب وبصدق لكن قسسأ بالله كان الحكومة دي تمت يومها دا أنا تاني ما 
أخت ودع. 

ذهبت متأهباً لنوم عميق ولكن التليفون رن بإصرار جعلني أرد فوجدت المتحدث 
المستر (بيانا لارسن) مدير مصنع الملبوسات الجاهزة المعروف باسم (سلوى بوتيك) على 
معرض اللبوسات بقلب الخرطوم. طلب مني المستر (لارسن) بتوسل شديد أن أحضر فوراً 
لقابلته لآن سيارته ذهبت ما زوجته لشراء (أناتيك كذكرى 5011765155) ولا كان هو 


۳۹۳ 


مركز محمد عمر بسير 








الديناركي الوحيد وسط الجنسيات العديدة من الأجانب في مؤسسة الخليج لبيت الطلب 
وأنا شبه نائم. 

قابلني حزيناً وتكاد دموعه تسبق حديثه طالباً العفو لأنه كان سيهرب دون استئذان 
مني إلى كينيا هو وزوجته ومن هناك إلى الديدارك على طائرة الخطوط الحوية البريطانية التي 
كان من المقرر أن تصل صباح اليوم مقلة رأس الدولة: بابكر النور سوار الدهب ووزير 
الداخلية فاروق مد الله لو لا أن العقيد القذافي قد أجبر الطائرة على امبوط في ليبيا. عجباً. ۸ 
أكن قد سمعت الخير بعد. 

واستطرد أن مدير محطة الخطوط البريطانية بالخرطوم أعاره هو وزوجته ملابس 
طاقم الضيافة :0768 وأراني الملابس. ولاذا فكرت في امروب؟ والدتي أوصتني ألا أعيش في 
بلد يحكمه الشيوعيون لأنها في شبابها عاشت بضع سنوات في شرق أورويا قبل أن تتتقل إلى 
بلدها الدينارك. وتنفيذاً لوصية والدته فكر في ا هروب رغم أني كنت دائ)ً أطمئنه أن المظاهر 
اليسارية التي يراها بعد ثورة مايو في الخرطوم وفي المنطقة الصناعية حيث المصنع لا تعكس 
واقع السودان ولكني كنت مشغولاً بخبر الطائرة وأكده لي من مصدره وهو مدير مكتب 
الشركة بالخرطوم. 

في ذلك الوقت كان موكب اتحاد العمال قد حشد له مؤيدون بعضهم يحمل الأعلام 
الحمراء قد بدا في التفرق بعد انتهاء الخطب. وطلبت من المستر (لارسن) أن يسمح لي بالنوم 
قليلاً على كنبة صالونه واستغرقت في نومي إلى أن سمعت صوت (دانة) وطلقات من أسلحة 
لا أعرفها وفجأة دخلت زوجة المستر (لارسن) وهي تصيح : خرج الرجل خرج النميري 
رأيته يقفز من حيطة القصر الجمهوري في جلابية زرقاء اللون حاسر الرأس حافي القدمين 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
وركب سيارة لونها بنفسجي كانت تسير بالصدفة قرب القصر ثم جاءت دبابة وركب فيها 
وطلبت من عمي عشان(السائق) متابعته حتى وصلنا ميدان(السجانة) حيث وجدنا مظاهرة 
تتف له وخاطبها كا قال عمي عشان بأن يفسحوا له الطريق لأنه ذاهب إلى (الشجرة). 
معقل المدرعات. وسيعود إليهم. 

أكد عمي عثان الرواية بحذافيرها وزاد عليها أن العربة (البنفسجية) الأولى التي 
كانت تسير بالصدفة تخص الفنان سيد خليفة وترجل منها نميري عندما وجد الدبابة. 

اتصلت تليفونياً بمنزلي. ومن عجب كانت التليفونات تعمل كالعادة لأننا في اليوم 
الثالث لثورة التصحيح وجاءني الخبر بأن أتصل برقم معين بأسرع فرصة وعند الاتصال 
وجدت (عمر علي حسن) مدير أمن المصنع متلهفاً للقائي وأكد لي بأن (الراجل) خرج وهو 
الآن في (الشجرة) بعد أن أطمأن على ولاء المدرعات وني طريقه إلى أم درمان حيث محطة 
الإذاعة ودار التليفزيون. 

ثم اتصل عمر مرة أخرى وطلب مني أن أدير مؤشر الاذاعة على الموجة ۱۰ حيث 
صلاح عبدالعال يذيع في بيان بعودة ثورة مايو وبأنه عا قليل سيوجه الرئيس نميري نفسه 
كلمة إلى الشعب. سقطت الحكومة وما تمت يومها. وكذب المنجمون ولو صدقوا. 
هذا عن الودع وماذا عن الرمل: 

كان الزعيم الأزهري في سجن كوبر وأفرج عنه أيام المأتم لتلقي العزاء في وفاة أخيه 
علي. والإمام الحادي المهدي في الجزيرة أبا يحجيط به أنصاره ومجموعة من الأخوان المسلمين 


ویمدهم الشریف حسین المتدي بالسلاح من ثیویا 








مركز محمد عمر بشير 

ثلاثة جمعتهم صداقة الجهاد يلتقون كل يوم يحللون المواقف وقرب سقوط النظام 
وهم: محمد عثمان صالح عبدالله محمد أحمد وعثمان جاد الله. 

حكى عشان وهو من الأخوان المسلمين أنهم في الجو الذي كانوا يبحثون عن أي 
شىء يزيل الملل ويبعث روح الأملء رأوا على البعد شخصاً يجلس على الأرض وبدأ هم من 
على البعد أنه (رمالي- يضرب الرمل) ولا استجاب لدعوتهم أكد لهم أنه (رمالي) ومن أمس 
شايف الحال ما عاجبني. 

طلبوا منه- كنوع من تزجية الفراغ- أن يضرب هم الرمل. وبعد مرة أو مرتين تَجهّم 
وجهه وقال هم (التقل. في لغة الرمل الشخص الكبير المقام) في الخرطوم مات قبل شوية. 
فقلنا له نحنا دايرنك تشوفنا في الجزيرة أبا. ضرب الرمل مرة وثانية وثالثة وقال: الجزيرة دي 
جاياها نار من فوق ومن تحت قس) بربي الليلة مابايت فيها. لكن إنتو الثلائة تمشوا على 
الخرطوم تعزوا في (التقل): إنت يا الكبير. يقصد محمد عثان صالح دربك أبيض مرق من 
بلاد السودان. إنتو الإثنين تقوموا من الجزيرة وتفترقوا في الدرب.وتتلاقوا في السجن. الله 

وفي دهشتنا من كلام الرجل جاءنا رسول يدعونا من قبل الإمام الحادي الذي 
أخطرنا بوفاة الزعيم الأزهري وأنه ينتدبهم للذهاب إلى أم درمان وتقديم العزاء باسم الامام 
والأنصار والجبهة الوطنية التي كانت تضم أحزاب المعارضة: الأمة والاتحادي وجبهة الیثاق 
الإسلامي (الأخوان المسلمين). 

كانت لدى محمد عثان صالح سيارة روسية ماركة (فولقا aعاه۷)‏ وطلب من 


زملائه السفر معه عليها لكنهم حذروه بأن سيارته (معروفة للأمن) ويقترحون السفر جميعاً 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
بقطار الأبيض- الخرطوم الذي يقوم قبل المغرب من كوستي أو ربك ويصل الخرطوم 
الساغة السادسة ضاحا. 

لم يقتنع محمد وسافر بالسيارة وعند وصوله صيوان العزاء کا حكى هم فییا بعد 
وجد فيه رجل الأمن عبد الوهاب إبراهيم وأطلعه على أوراق طبية لمواصلة العلاج في 





ببروت فا كان من عبد الوهاب الا أن استدعی أحد أعوانه وطلب منه مباشرة إجراءات 
سفر السيد محمد عثان صالح دون اعتراض من جهته. 

ركب عبد الله محمد أحمد وعشان جاد الله القطار في الدرجة الأولى وقبيل تحركه من 
محطة (ريك) سمعوا صوت شخص یمثی على رصيف المحطة ويهمس السيد عثمان جاد الله 
السيد عشان جاد الله فاستجاب عثان متأكدا أنه أحد زملائه الأخوان المسلمين ليبلغه رسالق 
فإذا به رجل أمن يحمل (أمر قبض وكلبشات) فاقتاده رغم توسلاته بالمرض من الدرجة 
الأولى إلى الدرجة الثالثة التي يستقلها رجال الشرطة وصغار موظفي الدولة. 

كان عبد الله محمد أحمد یقظاً فنزل من القطار في محطة قريبة من الخرطوم واستقل 
حافلة متواضعة ثم تاكسي إلى منزل في حي ودنوباوي وبعد أن استعد للذهاب إلى سرادق 
العزاء عرج في طريقه إلى دكان (ترزي) من معارفه للسلام والسؤال عن الأحوال ثم جاءت 
سيارة فلوكسواجن آغنته عن التاکسي إذ بها رجل أمن اصطحبه معه إلى جهاز الأمن ثم إلى 
سجن كوبر. 

كان أول من التقى به بعد اجتياز البوابة الداخلية للسجن زميله عثمان جاد الله تعانق 
الرجلان. ضحکا. ثم جاءت (المَكْرَّة) كا يقولون وقالا: الله يستر على الجزيرة أبا. ثم جاءت 


مرکز محمد عمر بشیر 
الأخبار بعد أيام بالنيران التي ضربت الجزيرة أبا من تحت ومن فوق وكذب المنجمون ولو 
صدقوا. 
(ولا يفلح الساحر حيث أتى): 

في أول زيارة لي إلى النهود وأنا وزير في حكومة ثورة مايو انفرد بي أحد خفراء 
الجلس الريفي من أقاربنا واسمه محمد علي ود فارس. وهنآني بالوزارة وأكد لي أن كل حاكم 
محسود سواء من زملائه أو من عامة الناس. ويصل الكيد من بعضهم إلى درجة القتل. 

ولذلك وحماية لي من أمثال هؤلاء » أحضر لي (حَبل بَندّة) لاستخدامه عند اللزوم 
دفاعاً عن النفس وربا عند اللزوم في ال هجوم على الغير استباقاً لحدوث الضرر. 

خبل بَنذة عبارة عن أربعة أعواد صغيرة تربط بطريقة معينة بخيط متين من 
(الدوبارة أو التيل) وفي أحد جوانبه عقدة يمكن أن تشد أو تترك مرسلة. 


قال لي إذا قام شخص بإحداث ضرر بك قم بتحذيره. فإذا لم يرعوي شد العقدة 








بدرجة بسيطة فيمرض. وكلما جذبت العقدة أشد اشتد عليه المرض فإذا أصر على أذاك 
أجذب العقدة إلى الآخر وهنا تفيض روحه غير مأسوف عليه. 

اقشعر بدني رفضت العرض. ولكنه ظن أنني غير مصدق فقال إن اختبار (حبل 
بندَة) هو أن توضع الأعواد الاربعة مع الحبل في مكان مشمس- تقع عليه الشمس - فتمشی 
الأعواد مع الحبل إلى الظل. وكرر أمامي العملية أكثر من مرة. وقمت بنفسي بوضع الأعواد 
والحبل في الشمس وجلست على الظل فتحركت إلى أن وصلت الظل. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
كررت رفضي وقلت له يا عم محمد علي دا ما قتل. فرد علي. العاوز يكتلك أو يأذيك 

تعمل ليهو تعظيم سلام ولا تحمي نفسك. عجبت من منطقه وعجبت أكثر من (حبل بَنْدَة) 

وشكرته رغم أنه کرر بأنه جاء به (هدية) لا يطلب عليه مالا. كان هذا في عام 1917/7 م. 





۶ 


ولا سألته عن (سر) الحبل آجاب بأنه (سحر) وحدت الله أني رفضت الهدية فالسحر کیا هو 
معلوم من الکباثر ومن الوبقات ونسأل الله السلامة إذ إن عاقبته كا يقال تظهر في الدنیا 
قبل الآخرة. 

موضوع (السحر) ورد في أكثر من موقع في القرآن الكريم في أمر (سحرة) فرعون 
ولكنه أتى إلى الأرض مع الملكين (هروت وماروت) مما يؤكد أنه حقيقة وهما اللذان علماه 
للبشر ومن يومها استمر حتى الآن. قال تعالى : (وَمَا کر سان وَلَكِنَّ السَيْاطِينَ كَمَرُوأ 
سح ا 
یقولاً إا تحن فة قلا تَكْفْرٌ) ( (البقرة ۱۰۲). 

اون مق ی ری دز تابن ی ی یی بح 
الضرائب فوزیر دولة بالمالية- ثم وزيراً للالية ومدیر بنك الغرب الاسلامي: تنمية 
الصادرات ۳ ۷ ۳ خاتمة السحر على الساحر (فالسحر حقيقة وردت في 
القرآن: (ما جتّم به السَّحْرٌ إِنَّ الله سَيُبْطِلة) (یونس ۸۱) كا قال سیدنا موسی 
eT‏ 

قال الشريف الخاتم أن منطقة (كركوج- حيث يقيم ولي الله الشريف الخاتم الذي 
سمى عليه) أصابها حل شديد وتأخرت الأمطار ما هژ إيهان الكثيرين بعد أن أقاموا كل 


الطقوس المأثورة من (بليلة بسبع حبات من بقول» ثم عصيدة بملاح روب» ذبيحة وتلاوة 





۰ 4 
مرکر محمد عمر بسیر 
١‏ مرة لسورة یس) وختموا ذلك بصلاء الاستسقاء آکثر من مرة. كل ذلك في و جود الولي 

الشریف الخاتم وبقيادته. 





استأذنه بعضهم في الذهاب إلى منطقة (الانقسنا) لاحضار (کجور) مشهور قام 
بعلاج رجل مشهور هو محمد عوض یوسف البرلاني والقيادي في مایو بعد أن فشل في ذلك 
الطب الحديث في السودان ومصر. (هل هو والد الأستاذ عوض محمد عوض یوسف: 
أعتقد ذلك). 

وقد أكد لي الشریف الخاتم أن محمد عوض رفض علاج الکجور لأن ذلك شرك 
بالله لكن بعضاً من أهله احتالوا شفقة عليه وقام (الكجور) بعلاجه بالفعل. 

وبالطبع رفض الولي جرد الفكرة ونصحهم بالصبر والاعت‌اد على الله. رغم ذلك 
تسلل بعضهم وأحضر (الكجور) الذي أقام احتفاله يوم (السوق) وأحضروا له كطلبه تيس 
آسود اللون و (ديك) آبیض اللون تم تقييدهما وسط الحلبة ثم بدأ في طقوسه وضرب 
(التیس) بالحربة فطار الدم ومسح جسده به وآطار رأس (الديك) ومسح بدمه وجهه وصار 
یترنم بصوت عال ویرقص في نشوة زادتها تجمعات ال رجال والأطفال وزغارید النساء. 

وبعد قلیل ظهرت لأول مرة بعض السحب. ثم إزدادت وعندها ذهب بعضهم 
للشریف الولي وآخبروه فقال لهم: وقعتم في الفتنة جعلها الله في كيد الساحر. وتوجه إلى 
(القبة) ودخل فيها وعند خروجه كانت الأمطار قد بدأت في الهطول وأسعفه بعض المريدين 
بغطائه إلى أن عاد للنزله وهو يسأل الله ويستعيذه من شر الفتنة رغم هطول الطر بغزارة فان 
الجمع حول (الكجور) لم ينفض بل ازداد. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 

وفي قمة الفرحة تلالاً برق غير عادي وصوت مدو لصاعقة ضربت من دون كل 
الحضور (الكجور) أردته بجانب ضحاياه من (تيس وديك) وتفرّق الجمع فراراً وتركوا 
الثلاثة في مضاجعهم إلى أن توقفت الأمطار وجاء حواريو الكجور وأخذوا الجثان 
والقربانين وغادروا المنطقة هدوء. لقد استجاب الله لدعاء الشريف الولي بأن جعل المصيبة في 
كيد الساحر. 

لقد سقت هذه الحادثة لتكون فارقاً بين (السحر) وبين ما شهدته من (كذب وصدق 
العرافين) وبين ما تم بفعل آيات الله التي جاء في الاثر أنها (تبد الجبال) ومن رجال كان 
بعضهم أحياء إلى وقت (۲۰۰۸) وبعضهم لا يزال يتمتع بصحة وعافية (۲۰۱۱۱) أدامها 
الله عليهم. 

وكا ذكرت فان وجود أسرتنا في مدينة (النهود) كمحطة في الطريق إلى الحج وإلى 
العمل في مشروع الجزيرة لسكان غرب أفريقيا. بالإضافة إلى تديّن والدنا وتقبله لابناء 
السبيل وترحيبه بمن ینتسبون إلى الدوحة النبوية الشريفة أو الذين تبدو على سيماهم علامة 
الصلاح جعلنا نعيش في بيئة تتقبل الكثير ما يظهره ضيوفنا من خوارق. 

كا أن بعض هؤلاء قد تابعنا في مسيرة حياتنا بعد أن استقروا في السودان وفي دار 
حمر بالذات وأصبحوا (حمر) وأبناؤهم وأحفادهم الآن ینتسبون إلى (قبيلة حمر) رغم أصولهم 
غير السودانية وبعضهم قد كانوا أصدقاء للوالد أصبح علينا- بحكم الوصية النبوية- أن 
نبرهم بعد وفاته. وقد فعلنا. 
ومن الغيبيات في عالم السياسة: الدكتور 


والدكتور الالوسی: خليظ من دين ودنيا 





مركز محمد عمر بسير 





في عالم الغيبيات- سواء التي أقرها الدين (117 ذَلِكَ الْكِتَابٌ لآ رَيْبَ فيه هُدَّى 
لقن الَّذِينَ يُؤْمِئُونَ بالْعَيْب وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وم رَرَقْنَاهُمْ يُنَفِقُونَ) (البقرة الآيات 
۳/۲ أو تلك التي يلجأ إليها البشر من وقت لآخر بعضهم تزجية للوقت كا يقولون 
وبعضهم بحثاً عن (أمل) وآخرون عن يقين بأن للبعض قبساً من الدين يهديهم لبعض المعرفة 
وهناك من يعتبر أن هناك علوماً دنيوية ها أصول ومعاهد ترشد للتعرف على المستقبل خاصة 
في قراءة (الكف) وني (الضرب على الرمل) من أهل (الأمل). دكتور الاقتصاد والوزير 
المصري السابق حسن عباس زكي الذي صار بعد الوزارة مستشاراً لكل من سمو الشيخ زايد 
في الامارات والرئیس نميري في السودان. ویوون جا اقرع اولیاه اف ولایة تربره 
وجمل علبة من معدن داخلها (رمل) یضرب به بخبرة تتحدی أي (رمالی) مجلس تحت 
شجرة في شارع القصر بارطوم.وقبل أن أفتح فمي متعجباً يبادرني (ما تستغریش يا منعم 
بیه. دا علم آخذته من آستاذ هندي في إحدى جامعات افند التي تعلم ضرب الرمل) وفي 
عالم قراءة (الکف) كان هناك إعلان في الصفحة الأولى في جريدة (العرب) التي تصدر في 
لندن لشيخ وقور يدعى (الألومي) يقصده العرب والعجم لمعرفة طوالعهم من واقع الكف. 
ولا يتهمه أحد بالدجل أو الشعوذة أو .. الکفر.وحسب علمي لا يزال يهارس عمله ويظهر 
في صفحة جريدة (العرب). 

حكى لي الوالد الكبير الدكتور عبد الحميد صالح أنه في أثناء وجوده في لندن عندما 
حكمت عليه محكمة (الثورة) الشعبية برئاسة عبد الله الحسن الخضر بالإعدام والمصادرة 
لاشتراكه في تدبير (الغزو الليبي عام )١915‏ أن طلب منه السيد الصادق المهدي الذهاب إلى 
الألوسي لمعرفة طالعه سأله: هل ذهبت إليه أنت؟ . أجابه بالنفي ولكنه على استعداد لتحديد 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
موعد معه والذهاب معه حتى باب (العيادة) وعند الباب استقبلها نفس الشخص ذو 
الصورة الظاهرة في الاعلان ودعاهما للدخول غير أن السيد الصادق المهدي اختفى ودخل 
الدكتور وحله. وبقراءة كفه آخبره بالآتي: أنه شخص مهم في بلده ورغم أنه حاليا (طريد) 
الا أنه سوف يعود قريباً في ظرف شهور. ويجد أن آملاکه قد زادت. كما أنه سوف يتقلد 
منصباً (أكبر) من منصبه السابق. قاطعه الدكتور بأنه كان وزيراً (للصحة) ولا يتوقع أن يعود 
لنصب رئيس وزراء. رد عليه الألوسي بان هذا هو ما يبدو على كفه وهو لا يجزم أن يكون 
النصب هو رئيس الوزراء ولكنه (أكبر) من المنصب الذي كان يشغله. 

ثم التفت الالوسی وسأله عن (زميله) الذي كان معه بالباب. وقبل أن يرد الدكتور 
فاجأه الألوسي بقوله (مسكين. يجري وراء الحكم. ولكن ليس له نصيب في الحكم. يمسكه 
بيده ثم يفلت منه). أخبرني الدكتور عبد الحميد قائلاً أخبرت أخوك (أخوك: يعني السيد 
الصادق) بكل ما قاله الألومي الا الجانب الأخير- وليته فعل. وقد حكى أنه: بعد فترة 
وجيزة من نبوءة الألوسي جاء وسطاء (المصالحة الوطنية) وعاد السيد الصادق وصحبه ومن 
بينهم بالطبع الدكتور عبد الحميد. وبعد أسبوع السلام والكرامة ذهب إلى مستشفاه 
(مستشفى دار الشفاء) وحياه العاملون والمرضى ووقف أمام باب مكتبه وتأمّل الجالس على 
كرسيه فإذا هي (ليلى) ابنته. كان يتوقع أحد رجال (الأمن) أو طبيباً من مؤيدي ثورة مايو. 
آخبرته ليل أنه بعد صدور القرار باعدامه ومصادرة ثروته جاء ثلاثة من رجال الأمن وسألوا 
عن المدير المسئول فقيل هم إنها ليل عبد الحميد فدخلوا عليها المكتب وطلبوا منها أن 
تستدعي رئيس الحسابات وأصدروا الاوامر بأن تفتح صفحة جديدة في حسابات المستشفى 


ويتم جرد وقفل الحسابات السابقة للقرار وتدوّن كل المصروفات والإيرادات بعد المصادرة 





مركز محمد عمر بشير 
وتقفل كل آخر شهر لحين تعلیات أخرى. سأها الدكتور وكيف حال الستشفی والموقف 
لماي فردت عليه أفضل بكثير من زمنك لأنك كنت تعفي فلاناً من تمن الدواء وتخفض 
لعلان من تكاليف السرير وآخر من أتعاب العملية ولكن في زمن (المصادرة) كنا نعتذر لهم 
بأن المستشفى الآن من أملاك الحكومة ولا يمكننا ذلك الا بأمر رسمي مكتوب: فزادت 
الإيرادات والأرباح. طيب و(الخزنة) مفتاحها عندك وم يلتفت إليها فريق الأمن. المفتاح في 
ی رن نی ری تا ی کار اک و ی بات 
تفاجأ الائنان بأن محتوياتها من آرطال- ولیس آوقیات- الذهب كا هي. تحققت النبوءة 





الأول : زادت آملاکه. 

ثم آضاف: أنه ذهب إلى مسجد القوات السلحة لصلاة الجمعة وعلى آمل السلام 
على الرئیس نميري إذا وجد فرصة. لمحه الرئیس بعد الصلاة وأسرٌ إليه أنه تسلم قائمة من 
السید الصادق تشمل مرشحي حزب الامة للمشاركة وقد وقع اختیاره عليه لیکون(رقیب 
مجلس الشعب) يعني إيه رقیب مجلس الشعب. هو ما کنتم تسمونه (زعیم العارضة) ولکن 
عندنا مركزه أقوى إذ إنه الشخص الوحيد بموجب الدستور الذي يحرك اة قتراحاً في جلس 
الشعب بعزل الرئيس وتقديمه للمحاكمة. والمنصب يلي في البروتوكول نائبي رئيس المجلس 
ومرتبته أعلى من الوزير. شكرت الرئيس وتذكرت الألوسي. أعلى من الوزير؟ يا سبحان الله 
وقلت في سري (ربنا يحفظ أخوك- يعني الصادق المهدي) وصدقت النبوءة الثانية أعلى 
من ورير. 

ولعل دعاء الدكتور عبد الحميد قد وجد الاستجابة فما لبث السيد الصادق وبعد 


عشر سنوات أن أمسك الحكم بيديه ثم جعله طوال الأربع سنوات خطباً. ولجاناً ومذكرات 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 
وابتكار تعبيرات ومناورات وبعدها (فلت) من بين يديه كما تنباً (الألوسي) في يونيو ۱۹۸۹ 
بانقلاب ثم بدلا عن مقاومة الانقلاب ليضع سابقة تخلّد اسمه اختفى بحثاً عن أمان. كانت 
لدى وزارة الداخلية في زمنه أسلحة ومركبات ورجالاً مدربين كانوا كفيلين بوقف التحرك 
العسكري من بضعة (جنود) بعضهم فنانين من سلاح الموسيقى وبعضهم مساعدين طبيين 
من السلاح الطبي وتقودهم أقلية من ضباط وأغلبية من (مثقفين) ارتدوا الزي العسكري. 
ثم بدأ بعد اعتقاله وخروجه من العتقل سالاً رحلة الجري وراء الحكم (تبتدون) (ونسأل أن 
يمسكه بين يديه ولكن لا (يفلت) منه للمرة الثالثة). 
وحتى في المدينة المنورة: 

هناك غيبيات أتركها عندما أتعرض لا قابلني في زيارتها أنا والفكي مصطفى نائب 
محافظ بنك السودان آنذاك. رواها الذي يتولى مرافقة الزوار الرسميين نيابة عن حكومة 
المملكة. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
اتفاقية السودان ودور الحاكم العام- والحاكم العام في الاستقلال 

اختيار الحاكم العام (سير روبرت هاو) والحاكم العام (سير نوكس هيلم) 

التمرد الأول 

الفرقة الاستوائية في توريت 

الانبیار الدستوري (الأمني) الثاني 

بعد أول مارس 

الانهیار الدستوري (الدستوري) الثالث 

بعد أول مارس 

وبعد تمرد الجنوب 

الابيار الدستوري الرابع (التحلل من إتفاقية السودان) 

بعد أول مارس 

وبعد تمرد الجنوب 

وبعد سقوط الوزارة في مجلس النواب 

عدم التقيد ببند الاستفتاء الوارد في اتفاقية السودان لعام ۱۹۵۳م 

بين الاستقلال والانحاد مع مصر 

ثم دخول الخدمة العامة 


مركز محمد عمر بشبر 








عين على الكتاب وعين على السودان 


أتحدث في هذه الصفحات بصفتي شاهداً حاضر الذهن ولا أقول أو أدعي بأني 
مؤرخ. وسيكون - كالعادة- سرداً للأحداث كا عشتها وأترك للقارئ الاستنتاج والحكم: 
خاصة وقد قرأت لبعض الإخوة الصحفيين مقالات ليست بالدقة- ولا أقول بالموضوعية. 

ونحن في مصر نترقب وعود و(بشارة) الرئیس الأزهري لنواب البرلمان بأنه سوف 
يعلن جلاء آخر جندي بريطاني من السودان يوم ۱۲ أغسطس 905١م‏ إذ بنا نفاجأ بأن تمرداً 
قد حدث يوم بشارة الأزهري-5١‏ أغسطس ۱۹۵۵م- في جنوب السودان من الفرقة 
الإستوائية في توريت وأنه ربا ينتشر فيشمل بقية أجزاء الجنوب وإذا حدث فإن الحاكم العام 
سوف يستخدم سلطاته التقديرية فيعلن انبياراً أمنياً ودستورياً فيوقف تنفيذ الاتفاقية وكل ما 
بنيناه من آمال. ولكن الحاكم العام- بناء على توصية رئيس الوزراء- أعلن حالة الطوارئ في 
الجنوب فقط وليس في كل السودان وقامت القيادة الوليدة للجيش السوداني- اللواء أحمد 
محمد باشا القائد العام- اللواء إبراهيم عبود باشا نائبه ومعاونوهم طلعت ورضا فريد- أحمد 
عبد الوهاب- ومحمد عشان وحسن بشير نصر وزملاؤهم من احتواء الموقف بخسائر قليلة 
حسب تقديرات العسكريين ولكن بخسائر أكبر من كل تقدير من الكوادر من الدرجة الأولى 
في الإدارة والشرطة والحكم المحلي التي قذف بها الحكم الوطني للجنوب لتسريع الارتقاء به 
نسبة لحالة التخلف التي كان يعيشها مقارنة بشمال البلاد. وكان هذا الاختبار الرابع لمعالي 
الحاكم العام سير روبرت هاو في عدم استغلال حوادث الانبيارات التي آوردتها الاتفاقية 
وألقت بمسئوليتها عليه. الحادث الأول كان (أول مارس ۱۹۵6م) کا ذكرت والحادث 





السيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
الثاني هو تصويت مجلس النواب ضد ميزانية الحكومة في يوليو ٤‏ ١۱۹م‏ وكان سقوط الميزانية 
يعني بلغة الديمقراطية سقوط الحكومة. ول يتردد الزعيم الديمقراطي مؤلف كتاب (الطريق 
إلى البرلمان) حتى قبل توليه السلطة بسنوات: لم يتردد في تقديم استقالته للحاكم العام» وكان 
من الممكن أن يتحين معالي الحاكم فرصة لإعلان انيار اقتصادي أو دستوري ويكلف 
شخصاً آخر بتأليف الحكومة ولا يجد الشخص الاغلبية ثم يعلق تنفيذ الاتفاقية. وبمثل ما 





قام به إسماعيل الأزهري من تصرف ديمقراطي من الدرجة الأولى قابله سير روبرت هاو 
بمثله إذ قبل الاستقالة ثم طلب منه إعادة طلب الثقة من البرلمان (رب) لعلمه أن النواب 
الثلاثة الذين صوتوا ضد حكومتهم وأسقطوها لم يكونوا واعين لتبعة الأمر رغم أنهم من 
خيار المثقفين: محمد جبارة العوض- محمد عبد الجواد- أحمد جلي) وبصحوة النواب من 
غفلتهم عادت الحكومة وعاد الأزهري. أما الاختبار الرابع والآهم فقد كان لخليفة سير 
روبرت هاو في المنصب الذي إستقال منه بسبب مرض زوجته- أو کا قال- أو كما برز فيه 
بعد بسبب اختلافه مع معاونيه في الإدارة البريطانية من البريطانيين بتراخيه كا عبروا وأيدتهم 
وزارة الخارجية البريطانية التي- یتبعونها- في تنفيذ بنود الاتفاقية. الحاكم العام سير نوكس 
هيلم الذي خلف سير روبرت هاو كان على علم بمجريات الأمور وفيا يبدو كان مؤيداً 
خطوات وأسلوب سلفه. أظهرت الوثائق التي مضت عليها فترة ثلاثين عاماً أن الصاغ 
صلاح سالم كان على علم بالتمرد الذي حدث في الجنوب بل إن بعض الضباط وصف 
الضباط الجنوبيين الذين اشتركوا في التمرد اعترفوا لقاضي التحقيق- القاضي قطران 
البريطاني الجنسية الفلسطيني الأصل- بأن الضباط المصريين من أعوان صلاح سالم الصاغ 
أبو نار وزملائه أجزلوا لهم العطاء ثم الأماني في الترقي وفي حكم الجنوبء إذ إن الجيش 





مركز محمد عمر بشير 
المصري سيعود للسودان وسوف يحميهم من حكم الشاليين. كان القاضي الذي حاكم 
المتمردين هو اللواء إبراهيم عبود باشا وأرسل الحكم إلى معالي السير نوكس هيلم الحاكم 
العام بصفته القائد الأعلى في حالة الطواری» وبعد أن قام بالتصديق على الأحكام أرسل في 





طلب الزعيم الأزهري رئيس الوزراء- في نفس الوقت وزير الدفاع- ووزير الداخلية وأبلغه 
بالتدخل المصري الموثق قضائياً وإنه ينصحه بأن تحفظ كل أوراق التحقيقات والقضايا 
والأحكام في الخزينة السرية لوزارة الداخلية وآن الرأي العام السوداني إذا علم بذلك سوف 
تسوء العلاقات بين مصر والسودان وسوف تكون الحكومة السودانية تحت وابل من 
المؤامرات والدعاية المصرية التي قد تشغل الحكومة عن مهامها في هذا الظرف الدقيق. لقد 
علمنا فیا بعد أن الرئيس الأزهري كرجل ديمقراطية أصيل أطلع الأستاذ محمد أحمد 
محجوب زعيم المعارضة على السر کله. وكتمه الرجلان وكتمه رئيس الحكومة والبلاد فيا 
بعد إبراهيم عبود.وهکذا كان الرجال الذين قادوا ولا أقول حكموا السودان. لم يعرف الأمر 
إلا في عام ١91/4‏ م في كتاب أصدره بروفيسور بيتر وودوارد إذ حصل على الأسرار من خزينة 
وزارة الداخلية عن طريق : تلميذه وزميله في البحث جعفر محمد علي بخيت الإداري بوزارة 
الداخلية والذي أطلع عليها بدوره أستاذه وعميد الظلاب إبراهيم أحمد القطب الاستقلالي 
ووزير المالية والاقتصاد فیا بعد. وقد علم أن إبراهيم أحمد ذهب إلى الرئيس الأزهري وزير 
الداخلية وأخبره آن(السر) قد وصله ونصحه بإحكام الرقابة على الخزينة» وعندما حاول 
جعفر بخيت الحصول على وثائق أخرى وجد أن مفتاح السر قد تم تغییره. والهم أيضاً في 
هذا الصدد أن كلاً من إبراهيم أحمد وجعفر بخيت قد ماتا بهذا السر أسوةً بزعمائهم الأزهري 
ومحجوب وعبود. وقد كشف كتاب بيتر وود وورد أن الصاغ صلاح سالم ذهب إلى المندوب 


۳ 





المسبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
السامي البريطاني في مصر (السفير) وأخبره بأن تمرداً وقع في السودان وأنه يرى أن تقوم 
السفارة بإبلاغ وزارة الخارجية البريطانية لتنقل إلى الحاكم العام ضرورة إعلان حالة 
الطوارئ في كل أنحاء السودان وإعلان إيقاف العمل بالاتفاقية وإعادة الجنود البريطانيين 
ومعهم جنود مصريون وحل البرلمان ومجلس الوزراء.ک| تقول الوثائق فإن السفير البريطاني 
آفاد بأنه | يصله علم رسمي من ال حاكم العام بالعلومات التي آوردها الصاغ» وإذا وصله 
علم رسمي فانه يحيله لوزارة الخارجية وینصح بأن يترك الأمر لمعالي الحاكم العام لیتصرف 
حسب الاتفاقية وتقدیره للموقف. آعلن الحاكم العام ىا سبق حالة الطواری في الدیریات 
الجنوبية الثلاث ورأى أن يحتوي التمرد والحادث في نطاقه الجغرافي خاصة أن الجيش 
السوداني استعاد الأماكن التي احتلها التمرد في الاستوائية وبعض أجزاء من بحر الغزال كما 
أن التمرد لم يصل إلى أعالي النيل. 

يسجل التاريخ لرجلين من رجال الإدارة في الجنوب وتحت إمرة أحدهما ضابط من 
الجيش- بل في السودان- أنه أنقذا الأرواح والممتلكات في كل من مديرية بحر الغزال 
وعاصمتها واو ومديرية أعالي النيل وعاصمتها ملكال. داؤود عبد اللطيف كان مديراً لبحر 
الغزال وقد سمع بحوادث التمرد والأضرار التي ألحقها الجنود بحقد على كل شيء جمع كل 
رجال الحكم في واو بمن فيهم قيادة وجنود الجيش وأصدر أمره لهم بصفته الحاكم العسكري 
للمنطقة بعد أن أعلن الحاكم العام إعلان حالة الطوارئ في كل الجنوب بأن يغادروا مدينة 
واو على متن باخرة نيلية كانت ترسو في مينائهاء وقد أطلق على الأمر: الأخلاء السلمي 
للمدينة ۲۷۵۵۵۵110۳ [/۳۵۵6۵ 116 وقد كان. وعندما دخل المتمردون المدينة لم يجدوا فيها 





(الحكومة) فغادروها بعد أن أوصوا عليها شخصين لم يلحقا بالركب أحدهما باشكاتب 


1۳ 





مركز محمد عمر بسير 





المديرية وهو قبطي أمه جنوبية ويدعى (اوتو أنطون- أخ شارلي آنطون أول مدير سوداني 
لصلحة المساحة في السودنة) والآخر شیالي من مواطني النهود العركيين: يلقبه أصدقاؤه 
بلقب (ود النل- ود الدينكا) شديد سار اللون وطويل فارع لا تصدقه إذا قال لك غير 
(دينكاوي) وهكذا اعتبره التمردون عندما رأوه ورحبوا به رغم أنه كان يرتدي الزي 
الرسمي كنائب مأمور بالمديرية إنه عبدالله عمر عبد الرحمن الإداري المتميز ومدير مديرية 
كردفان فی| بعد» وهو الأخ الأصغر لأحمد عمر الاعلامي الأشهر بالسفارة الأمريكية 
بالخرطوم. انفعل أوتو أنطون وعبدالله عمر بأمر (نسیانهم) في واو وأرسلا برقيتين للخرطوم 
واحدة تحمل مدير المديرية أي مكروه يصيبهم والثانية ساخرة إلى قائد حامية الجيش محمد 
أحمد عروة (يا الحارس مالنا ودمنا نسيتنا ما ودعتنا) كان هذا في أغسطس عام ۱۹۵۵م. وني 
نوفمبر ۱۹۵۹ كان اللواء عروة عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة- ورأس الدولة- 
وجاءنا وزيراً لوزارة التجارة والصناعة والتموين- كما كانت تسمى- وعند مروره على 
الأقسام للتعارف سمعنا ضحكات مجلجلة وأسرعنا نحوها لنجد الوزير في عناق وضحك 
مع باشكاتب الوزارة أوتو أنطون مرسل البرقية. وعندما انتقل اللواء عروة بعد وزارة 
التجارة والصناعة والتموين إلى وزارة الداخلية وجد أمامه- نائب المأمور ثنائي البرقية - 
عبدالله عمر عبد الرحمن» وإنصافاً للواء عروة فإنه كان تحت إمرة مدير المديرية وهو في 
المديرية» وقام بتنفيذ آوامره بصفته القائد الاداري والحاكم العسكري بعد إعلان حالة 
الطوارئ في الجنوب كله. وقبل وصول مدير المديرية داؤود عبداللطيف إلى الخرطوم هاجمه 
البعض وأشاد بتصرفه آخرون وبعد جلوسه إلى رؤسائه وشرح موقفه لهم وافقوه على كل ما 
قام به ولكن حسب القانون عقد له مجلس تأديب من شخصين وكيل الداخلية مكاوي أكرت 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
ومدير المعارف عبد الحليم علي طه وتمت تبرئته وأشادوا بموقفه. وبعدها ألحق برئاسة 
الوزارة في القسم السيامي نائباً للوكيل ثم مدير لمديرية كسلا فيم بعد- فمسئولاً عن تهجير 
أهالي وادي حلفا بعد إبرام اتفاقية قيام السد العالي مع مصر ثم محالاً للمعاش بالمادة ۳۲(ب) 
من قانون الخدمة المدنية (عدم التعاون) لاتهامه بتحريض مواطني وادي حلفا- وهم 
عشيرته- بمقاومة التهجير إلى منطقة خشم القربة. 

ومع ذلك فقد عقد مجلس تحقيق لداژود عبد اللطيف من وكيل الداخلية مكاوي 
سلیمان أكرت ووكيل العارف (التربية والتعليم) عبد الحليم علي طه وأصدر قراره ليس فقط 
بتبرتته والإشادة بموقفه وموقف القائد العسكري محمد أحمد عروة الذي اتسم بالانضباط 
لقرار الحاكم العسكري وتنوير جنوده بسلامة القرار ما أوجد ترابطاً تاماً في القيادة. 

الإداري الآخر الذي آنقذ مديرية أعالي النيل ومدينة ملكال من دخول المتمردين 
إليها هو مدير المديرية محمد عثان يس - خريج الاقتصاد من جامعة لندن والذي أصبح في 
بعد أول وكيل لوزارة الخارجية في السودنة وأرسى قواعد الدبلوماسية السودانية واستمر في 
الخارجية حتى 975١م‏ حيث اقتلعته رياح (التطهير) في ثورة أكتوبر» جمعتني به ظروف كان 
فيها رئيس الجانب السوداني في مباحثات بين السودان والاتحاد السوفيتي في عام ١95١م‏ 
وكنت أمثل البنك الزراعي السوداني في مشروع الصوامع القائمة حالياً في القضارف 
وبورتسودان وقد تعلمت منه الكثير في الوقت الذي يسبق بدء اكتمال حضور كبار الأعضاء 
سناً ووظيفة فقد كنت أواظب على الحضور في الميعاد بالضبط: الساعة التاسعة صباحاً. سألته 
عن حادثة التمرد فحكى لي أنه بمجرد ساع الخبر لم يكن يخشى من حضور متمردين من 
الفرقة الإستوائية بقدر ما كان يخشى تمرد كل أو جزء من الفرقة التي كانت بملكال. وكانت 


مركز محمد عمر بشير 
ترسو أكثر من باخرة في ملكال فطلب من (الريس) في إحدى البواخر أن يستعد للإبحار 


بأقصى سرعة مستفيداً من تيار النهر نحو الشال عندما يعطيه الإشارة» ثم طلب من قائد 








الحامية أن يقوموا بتدريب عادي في الجري لمسافة بزي الرياضة (رداء وفنلة فقط) ويدخلوا 
الباخرة ثم يخرجوا منها ويعيدوا الشوار وعندما دخلوا الباخرة وتسلق بعضهم إلى سقفها 
أعطى الاشارة إلى (الریس) الذي سحب (السقالات) وأبحر يساعده التيار بأقصى سرعة إلى 
عرض النهر حيث يخشى الجميع التماسيح وفرس البحر. والذين غامروا وكانوا قلة لا تذكر 
وقفزوا إلى النهر تم إلقاء القبض عليهم بواسطة قوات الشرطة والسجون آما أسلحة الجيش 
فقد نقلت إلى (المديرية). تم الحدث صباح يوم (السوق) وتناقله الجميع ولا شك أنه عم كل 
المديرية لمن يعرفون كيف تنتقل الأخبار في أقاليم السودان.وعندما كان السوق (عامر) 
والناس شالیون وجنوبيون يتبادلون المنافع كانت قوة من الشرطة والسجون قد اعتلت 
سطح مبنى المديرية بتعلييات من محمد عثمان يس ثم آمرها بأن تطلق مجموعات من الذخيرة 
الحية فوق منطقة السوق فحدث ذعر وهرج ومرج خاصة عندما وقعت كمية من (ظروف 
الذخيرة الحية الفارغة) في فناء السوق وأصبح المكان خالياً في حظات أوى فيها التجار 
والمتعاملون إلى داخل الحوانيت أو هرع فيها المواطنون إلى خارج المدينة. المهم أن الخبر قد 
انتشر- کا جاءني الحديث والحديث لمحمد عشان يس- أن المتمردين قد علموا بأنهم إذا 
فكروا في الوصول إلى ملكال- وهي بعيدة- فلن يجدوا مسانداً إذ أبحر إلى الشمال كما ان 
القوة الموجودة استولت على أسلحته وتتعامل بالذخيرة الحية. ويا أن التمرد لم تكن له جذور 
أو خلايا تذكر في أعالي النيل وحاصر الجيش الذي وصل من الخرطوم غالبية عناصره الا أنه 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
كان لابد- ک) قال محمد عثمان يس- أن أتصرف بطريقة جعلت أعالي النيل خالية وبعيدة 
من التمرد: 

نعود لمعالي الحاكم العام الجديد سير نوكس هيلم والذي وصل السودان والبلاد 
أصبحت تتحدث همساً وعلناً عن (الاستقلال) ليس فقط بتصرفات الثورة المصرية في البلاد 
التي اتسمت بالتعالي على رجالات الحركة الوطنية الاتحاديين وتحديهم بدرجة آدخلتهم في 
مواجهات مستترة وعلانیة- ليس بسبب الموقف في مور باندونج- أو اتهام الزعيم الأزهري 
عند تلبيته لدعوة لزيارة بريطانيا بأنه دخل في صفقة نالت وطنيته- وانا أيضاً بتنامي شعور 
عقلاني شاع بين السودانيين بأن السودان إذا أصبح مستقلاً يمكنه أن يتحد مع مصر في 
الوقت الذي يريد وبالصيغة التي يتفق عليها أما إذا دخل في استفتاء أفضى إلى (وحدة) مع 
مصر بتصرفات حكومتها وضباطها الذين يجوبون البلاد فإن الرجوع عن الوحدة عند ذلك 
سيكون أصعب من الحصول على الاستقلال اليوم. 

قام الرئيس الأزهري بعدة زيارات لبعض مديريات شال السودان ووجد من بعض 
وعرانها العقاترون:والسياسيان نها بان يفكر في الاستقلال ىا أن تصرفات الحاكم العام 
كانت توحي بذلك في كل مناسبة تجمعهم کا ذكر مستشاره السير (لوس) فيا بعد. وأذكر أن 
هناك تجمعاً قبليا في منطقة (فوجا) بمركز غرب کردفان- النهود» كان مفتش المركز قد أصبح 
بيتر هوق قبيل السودنة- نائب مدير المديرية مكاوي سليان أكرت والمدير المستر 
هوكسوبرت الشهير» وكان من المخطط قبل سنتين أن يحضره كالعادة معالي الحاكم العام 
ويستعرض فيه رجالات القبائل على ظهور ال هجن والخيول ويتقدمهم (النحاس) رمز عز 
القبيلة- كا يتم في (الزفة) کما كان يطلق عليها تدارس المشاكل بين القبائل والمديريات 








مركز محمد عمر بشير 
المجاورة إذا وجدت. ولا كانت المنطقة منطقة (أنصار- وحزب أمة) وقد فاز في دوائرها 
حزب الأمة المناوئ للوحدة فقد رأى الحاكم العام رغم هذه المحاذير أن يحضر (الزفة) رأس 
البلد: رئيس الوزراء إساعيل الأزهري وليس الحاكم العام المنتهية ولايته عن قريب» ولقد 
رأى مكاوي أكرت ومستر بيتر هوق المفتش الأول ومستر هنتر مفتش حمر والناظر منعم 
تحدياً كبيراً هم جميعاً في الحفاظ ليس فقط على سلامة الزعيم الاتحادي بل في إظهار (الزفة) في 
كامل هيبتها وهيبة الدولة التي ظلت تصاحبها دوماً بحضور الحاكم العام. وعندما وقف 
الزعيم الأزهري لاستقبال واستعراض القبائل فوجی الجميع بأحد المشاركين هتف عاش 
السودان حراً مستقلاً وبدلاً من أن يقوم أحد عناصر المباحث (الأمن) باعتقاله ثم حدوث 
ما لا تحمد عقباه من تشويه جلال المناسبة قام مسئول الأمن الأول بالإسراع نحو الشخص 
(وهز) فيه وهتف المستر بيتر هوق عاش السودان حرا مستقلاً (وهرٌ) في الموكب وعم المتاف 
الجميع با فيهم الزعيم الأزهري. ويقال أن (زفة فوجا) في عفوية تصرف موكبها وحسن 
تصرف مفتشها والسلم والنظام الذي سادها وما تبعها من جلسات عمل في جو إداري 
مسئول يقال أنها أعطت إشارة خضراء أقوى للزعيم الأزهري للسير في اتجاه الاستقلال 
خاصة أن (الزفة) رغم تنظيمها بواسطة القبيلة الاستقلالية (حمر) ضمت قبائل اتحادية مثل 
الكبابيش والكواهلة والجوامعة والمجانين وغيرهم من قبائل شال كردفان التي عرفت عبر 
التاريخ الحديث بمعاداتها للمهدية وجنوحها نحو مصر. 

سألت الستر هوق عام ۱۹۸۰ عن تصرفه وهتافه وعیا إذا كان قد تم بتنسيق مع 
الشيخ منعم منصور الذي زاره وهو يستشفي بلندن نفى ذلك وقال إنه كان مسئولاً عن أمن 


الرئيس أزهري وعن نجاح (الزفة) فكان لابد من احتواء التصرف العفوي بتصرف عفوي 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
مثله بدلاً من معارضته وقد فوجئ بالتجاوب الذي وجده افتاف والفرحة التي عمت 
الجميع. وقد عرف مستر بيتر هوق بسرعة البديهة والتصرف في اللحظات الحرجة. ففي أول 
(مظاهرة) في النهود رتبها بعض طلبة الأزهر في إجازتهم من مصر فوجی بالحدث مفتش حمر 
المستر هنتر ومفتش المسيرية الستر تيبس وكذلك المأمور يوسف مصطفی تكونة وضباط 
البوليس بل كل النهود رسميين ومواطنین» وكان لابد من إخطار المفتش الأول الذي لم يتردد 
في الحضور- دون حراسة- سائقاً العربة (الكومر) ثم أوقفها أمام المظاهرة ووقف عليها 
وصفق بيديه قائلاً: يا ناس النهود أنا الفتش بتاعكم اسمعوا اسمعوا فسكت الجميع بمن 
فيهم قادة المظاهرة وقد كان على رأسهم طالب من أصل نيجيري ولكنه سوداني بكل العاني 
غير أن مستر هوق ببدیهته استغل الناسبة وقال إنه سينقل رأي ناس النهود لسعادة السكرتير 
الإداري ومدير المديرية. وإنه يؤكد لهم أن الإنجليز سوف يجلون عن السودان ولكنهم 
يريدون أن يذكروكم بأنهم بسطوا الأمن والتعليم والصحة- وركز على موضوع الصحة إذ 
كان مرض(الجدري الكاذب) قد انتشر وأشيع أنه قد جاء به مواطنو نيجيريا الذين یزورون 
السودان في طريقهم إلى الحج» فقال المستر هوق والله نحنا ما عايزين بعد ما نطلع نخليكم 
للفلاته وأنه يأسف أن يقودكم وأنتم سودانيين أصليين واحد فلاتي. أنتو ما فيكم سوداني 
كيف يقودكم واحد أهلوا جابوا ليكم الجدري والملاريا بكره ما عارف يجيبوا ليكم شنو.. 
معاكم سلامة آنا ماشي أبلغ كلامكم ومطالبكم لسعادة المدير بالتلغراف. وقبل أن ينصرف 
الستر هوق التفت ناس النهود لبعضهم البعض وتفرقوا. وبعدها لم تقم مظاهرة تستحق 
الاسم إلا بعد فترة طويلة استعد فيها السودانيون لقيادتها. اسم الفلاته كان يطلق على كل 
القادمين من غرب أفريقيا للحج ولا تقصد به القبيلة السودانية المعروفة بهذا الاسم. 





مركز محمد عمر بشير 

وكانت مظاهرة بحق وحقيقة بقيادة العم راشد والد مصطفى كمال راشد الشهير 
باسم كيشو (وأخيه حسن وأختهم فاطمة رائدة التعليم النسائي لأهل النهود). وتتابعت 
المظاهرات بعد ذلك بقيادة العم راشد وإدريس الصوييم ومحمد إبراهيم دبوجة ونقابة 
الممرضين- وصل النهود لأول مرة- محامي ليدافع عن المتهمين ويناقش ویهزی برجال 
البوليس أمام القاضی ويخطب في المحكمة ويلبس بدلة كاملة يعلوها ثوب آسود . إنه 
صاحب فكرة مؤتمر الخريجين في واد مدني عام ۱۹۳۸م: أحمد محمد خير الشهير باسم أحمد 
خير المحامي. تمت براءة المشاركين لاضطراب آقوال ممثل الاتهام الذي فوجى 
بأسئلة المحامي. 

وأثناء زيارة المستر هوق لوالدي الشيخ منعم وهو يستشفي في لندن سأله الشيخ 


منعم عن واقعة تداولتها قيادة مديرية كردفان بأن ترقية مستر هوق قد أجلت سنة عقاباً له. 





ولذا بقي في النهود سنة رابعة. أكد مستر هوق الخبر وذكر بأن السبب هو تحاشى محاكمة متهم 
بقتل ١5‏ شخصاً دفنهم في جحر (أبو نضلاف) وأبو نضلاف هذا حيوان صحراوي عرف 
بالعيش داخل جحر كبير يسع فيا يقال بعيرين من الابل. قال المستر هوق إنه تحاشى محاكمة 
المتهم لأنه كان يخشى الله إذا أخطأ في الحكم بالاعدام وكان الرجل بريئاً ىا أصر حتى آخر 
لحظة. ثم أردف يا شيخ منعم راجل يقتل ١5‏ بني آدم آنا آمشی من الله وين لو أخطأت في 
الحكم عليه. تعجب شيخ منعم ولكنه رد على الفتش: أتاريك إنت بتخاف من الله قدر دا. 


النصارى ما حندخل الحنة» أجابه دون تردد: بعضكم. وتغير موضوع الحديث. 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 

ونحن بدورنا نغير موضوع الحديث ونعود إلى حياتنا في مدينة وجامعة الإسكندرية 
كانت المدينة- وربا لا تزال- مقسومة إلى جزئین: الرمل وهو المنطقة التي كان يسكنها 
الأجانب والقليل من أثرياء البلد» وكان الأجانب يمثلون كل بلاد أوروبا تقريباً من إنجليز 
وفرنسيين وإيطاليين وأتراك وألبان وبلجيك وكان حتى إلغاء ما يعرف بالامتيازات الأجنبية 
التي صاحبت قيام صندوق الدين بسبب إفلاس مصر- كان لكل دولة قنصل» وكل قنصل 
يمكن أن يحمي أو يحتمي به أي مصري في دفع إتاوة معتبرة. وكان يفعل ذلك كبار المجرمين 
من تجار ومهربين وأحياناً قتلة كا يقال» ويسمى الواحد منهم (حماية) وتعود ملكية غالبية 
العقارات في منطقة الرمل إلى الأجانب من هذه الدول والقليل منها إلى أغنياء المصريين 
والأقل إلى من يطلق عليهم (حماية) أما ما عدا الرمل فأحياء يسكنها المصريون العاديون 
ومبانيها أقل ارتفاعاً وشوارعها أقل نظافة. كليات جامعة الإسكندرية تقع كلها في منطقة 
الرمل حيث ساحل البحر الأبيض المتوسط والبلاجات والشالیهات» ويسكن الطلبة 
السودانيون مع أسر من بقايا الأجانب- أغلب الأسر نساء فقدن أزواجهن في حروب أوروبا 
أو بالأجل المحتوم وتتكون شقة كل أسرة وفقاً لحجم العمارة من 4 أو ۵ غرف تسكن الأسرة 
في غرفتين وتؤجر الغرف الأخرى للطلبة مفروشة وعلى أساس: السرير زائداً الإفطار الذي 
يتكون في العادة من شاي بالحليب مع طبق فول وجبنة» ويتولى الطالب آمر غدائه وعشائه. 
وكان الإيجار الشهري لا يتعدى ۳ أو ٤‏ جنيهات على الأكثر وعندما حضرنا- صالح محمد 
عبدالله - أحمد عبد الحليم - عبد المطلب إبراهيم وشخصي من القاهرة حيث السكن في شقق 
غير مفروشة ويتولى الطالب خدمة نفسه وجدنا أن نظام السكن مع الاسر لا يناسبناء 


وبالسؤال عرفنا أن قلة الطلبة المقتدرين تسكن في شقق مفروشة مثل عيسى مصطفى 








مرکز محمد عمر بشير 
سلامة- فاروق أبو عيسى- مأمون محمد عيسى- عباس المصري- أحمد محمد نور فاتجهنا 
لاستئجار شقة وتطاولنا فقمنا باستئجار(خدامة) أو شغاله ىا آسموها فیما بعد لتطبخ 
وتغسل وتنظف الشقة وكل ذلك في حدود ست جنيهات في الشهر.ووجدنا في ذلك توفيراً 
كبيراً لنا إذ إن إعداد الأكل في المنزل للثلاث وجبات لا يكلف مبلغاً يذكر على مدار 
الشهر. كان غالبية الطلبة من لا يتناولون غداءً مدعوماً في مطعم الكلية- ۳ إلى ۵ قروش با 
في ذلك فاكهة وشاياً- كانوا يأكلون في مطعم بمحطة ترام كامب شيراز يملكه خواجه يوناني 
يدعى (يني) والميزة التي تجذب الطلبة إلى مطعم خواجه يني بجانب أكله الشهي أنه يمكن 
فتح حساب للأكل حتى اية الشهر. فكان لكل طالب (نوتة) يدون فيها حسابه. ومن 
الوجبات الشهية التي عرف بها مطعم (يني) والتي كانت حتى ذلك الوقت غير معروفة في 
السودان بقدر كاف أطباق:المكرونة بالفرن- البسلة الخضراء- البوفتيك وهو قطعة مستطيلة 
من لحم البقر المشوي الذي تحفه بضعة قطع من البطاطس المحمرة- إذ إن السودانيين- ربا 
حتى الآن لا يأكلون لحم البقر مشوياً» وكان خواجة يني حصيفاً إذ يتتبع نجاحات زبائنه 
الطلبة ومن يجتاز امتحان الفصل الأول من السنة النهائية يفاجأ بأن حسابه (مقفول) فقد 
دخل في تجارب من بعض الطلبة في السنوات النهائية إذ غادروا إلى السودان وعليهم 
استحقاقات الشهر الأخير. ولكن والحق يقال أن الغالبية كانت تأتي بعد سنة أو أكثر في زيارة 
للإسكندرية فتدفع المتأخرات مع (البقشيش) يسر له خواجه يني» والقلة التي لم تقم بواجبها 
كانت لم تحصل على عمل كما كان دأب بعض خريجي الجامعات المصرية الذين قابلتهم حرب 
منظمة لفترة ليست بالقصيرة بسبب أن معرفتهم قاصرة باللغة الإنجليزية التي كانت لغة 
المكاتب والتخاطب في الاجتماعات في ذلك الوقت. 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
وفاجأ حياة الطلبة أول وزير سوداني: 

وفي أثناء دراستنا علمنا أن آول وزير للالية في السودان السيد حماد توفيق سوف 
يزور الإسكندرية يجتمع في محاضرة عن السودان مستقبله الاقتصادي مع الطلبة السودانيين 
من كل الكليات وقد كان (حماد) في القمة حديثاً ومنطقاً هب الحضور - سودانيين ومصريين 
وطلبة وأساتذة- وفي وداعه طلب أن يتقدم إليه بعض الطلبة الذين كانوا في المسار العلمي- 
المصري- ويجيدون اللغة الإنجليزية لكي يلحقهم بالبحرية المصرية ليكونوا في بعد نواة 
للإسطول البحري السوداني أو سلاح البحرية السودانية. وبالفعل تقدم إليه طالبان هما 
البخيت حسن بشير من أبناء الحلفايا- وسيد حسن طنون ابن الداعية السوداني الشهير. 
فكانت تلك نظرة متقدمة ثاقبة من ماد توفيق» وحماد توفيق كان أول سوداني يترقى إلى درجة 
مفتش حسابات في حكومة السودان.وقد تم تحذيره أكثر من مرة في عدم المشاركة في العمل 
السیاسی خاصة وأنه من (کبار) الموظفين ولكنه كان لا يلتفت إلى التحذيرات وفي مرة ألقى 
عليه القبض في إحدى المظاهرات وقدم لمجلس (تأديب - محاسبة) مصلحي وطلب منه أن 
يعتذر وأن يتعهد كتابة بعدم الاشتراك في العمل السياسي» رفض كلا الطلبين» وتم فصله من 
الخدمة دون معاش رحمة به من أن يسجن. ولكن بعد ذلك اشترك ودخل السجن وعندما 
راجعه زملاؤه وأصدقاؤه بأن يعتذر ويتعهد عاتبهم وقال حديثه الذي سارت به ركبان 
الحركة الوطنية: آنا ماد أبو الحهاد» لئن أكون ضحية للإنجليز خير من أن أكون مطية 
للإنجليز. ترك حماد العاصمة المثلثة واتجه نحو قريته (العيكورة) التي تقع في الجزيرة بالقرب 
من واد مدني وأصبح مزارعاً يحمل حصادة من الشضروات ويتجه به إلى سوق مدينة واد 
مدني ثم يشارك رغم ذلك في الأعمال السياسية. وني إحدى الناسبات المصرية عام ٠96١م‏ 





أنعم عليه جلالة الملك فاروق الأول برتبة (البكوية) فأصبح لقبه ماد بك توفيق وفي نوفمبر 
١0م‏ . وبعد فترة وجيزة أقدم رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا بإلغاء اتفاقية 
عام ١۱۹۳م‏ التي تحكم العلاقة بين بريطانيا ومصر- والسودان- ثم اتجهت الحكومة المصرية 
إلى تشجيع متطوعين من المواطنين أطلق عليهم لقب (الفدائيين) لمهاجمة الجيش البريطاني 
المرابض في قناة السويس وتطورت الأحداث فقام حريق في القاهرة في يناير ۱۹۵۲م جعل 
جلالة الملك يقيل حكومة النحاس باشا التي فازت با يشبه الإجماع في انتخابات مصرية 
حرة. قرار الملك خلق استياء عاماً وسط القوى الوطنية في مصر والسودان- وفي الجيش 
المصري ما جعله يسرع بالثورة في ۲۳یولیو ۱۹۵۲م. وقبل قرار الجيش كان القرار الشجاع 
والوطني للسيد اد توفيق بأن أرسل برقية بلغة غير معهودة موجهة إلى صاحب ال حلالة 
وأعاد إليه لقب البكوية رافضاً أن يحمله من شخص لا يحترم الديمقراطية ويقيل الحكومة 
الوطنية ذات الأغلبية والتي ألغت الاتفاقية مع بريطانيا. وفي أول حكومة وطنية بعد 
الاستقلال كان حماد أول وزير للالية - ثم للمواصلات- ثم للتجارة والصناعة والتموين ثم 
أول مدير ورئيس مجلس إدارة للبنك الزراعي السوداني إلى أن تقاعد وظل فقيراً كاد أن يرحل 
من الدنيا في بيت مستأجر لو لا لمسة وفاء من أصدقاء ثلاثة : إبراهيم أحمد- إبراهيم عشان 
إسحق- منصور محجوب وهذه قصة آخری. 

كان حماد توفيق منظ] للغاية وله توقيع باللغة الإنجليزية كان يتحدى من يستطيع 
تقليده. لدی حماد توفيق مكتبه مها كل أوراقه الشخصية ومذكراته عن الموضوعات الوطنية 
ومحاضرة شهيرة كانت معلا فیما بعد للتعامل في مشروع الجزيرة بجانب الحركة التي قادها 


أحمد خير لعدم تجديد امتياز(الشركة الزراعية السودانية „(Sudan Plantations Syndicate‏ 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول سس 
بعد انتهائه في ۱۹۵۱م. كانت المحاضرة بعنوان(مشروع الجزيرة) ومكتوبة باليد وبخط جميل 
واضح. طلب حماد توفيق مني - حيث أصبحت سكرتيره کا سيجئ - بأن اتصل بأمين مكتبة 
جامعة الخرطوم لكي يرسل إليه - فنيا- بأجر لتنظيم وتبويب المكتبة» الفني كان أحمد 
عبد الحليم طالب في السنة النهائية بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية والذي ظل يعمل في 
إجازته منذ سنوات في الحكتبة» كنت أحياناً أساعد أحمد عبدالحليم في إحضار المستندات وقد 
وقع في يدي مستند كادت عينا ماد توفيق أن تدمع عندما رآه. كان المستند مذكرة موقعة من 
الخمسة الكبار في وزارة المالية عندما كان حماد أول وزير سوداني لها تؤكد له أنهم لا يمكنهم 
تولي السئولية وتحمل تبعة إدارة مالية البلاد إذا تمت (سودنة) منصب الوكيل سيرجون 
كارمايكل» الموقعون هم: حمزة ميرغني- منصور محجوب- مأمون بحيري-عبد افادي 
حمدتو- السيد الفيل- ووافقهم على ذلك إثنان دخلا حديثاً في السئولية هما: عبدالله 
عبد الوهاب وعبد الرحيم ميرغني. تذكر حماد توفيق المناسبة إذ توقفت الشركات البريطانية 
خلال العامين الأولين من الفترة الإنتقالية - ٤٥۱۹م‏ وه ۱۹۵م - من شراء القطن لأسباب 
فسرتها الحكومة السودانية بأنها سياسية إذ سعت الشركات لزيادة مشترياتها من نفس القطن- 
طويل التيلة- من مصر. هبطت الأرصدة السودانية الخارجية والتي تسلمها السودان من 
الحكم الإستعماري من (۱۰ مليون جنيه إسترليني إلى ۰؟ مليون جنيه إسترليني) وتكدس 
القطن في المخازن ببورت سودان. ثم بدأ الموقف في التحسن بعد اتفاقية تجارية مع الهند لشراء 
القطن مقابل احتكار إستيراد الشاي ومنتجات الحوت(جوالات وخيش) منها.ذهب 
سيرجون كارمايكل في إجازته السنوية إلى بريطانيا وقبل أن تنتهي الإجازة أفاده الوزير بأنه 


أعفى من منصب الوكيل وتم تعيينه (مستشارا للوزير- وليس للوزارة- لا تبقى من عقد 


مركز محمد عمر بشير 
عمله)» فوجئ كبار رجال المالية وكلهم حديثو عهد بالمسئولية الكبيرة بالقرار فجمعهم حماد 
توفيق وأفادهم أنه لا يستطيع إبقاء رأس الحية على رأس الدولة إذ إن اتفاقية السودان تحوي 
بنداً خول للحاكم العام السلطة في إعلان انهیار دستوري إذا كان هناك إنهيار إقتصادي يمكنه 
عندئذ تعليق الاتفاقية والرجوع بالسودان إلى ما قبل يناير ١١۱۹م‏ ثم قرأ عليهم قراره 
بتعيينهم جميعاً في منصب (وكلاء متضامنين (Joint Under Secretaries‏ ير أسهم ميرغني 








حمزة ويتول منصور محجوب- يساعده عبد الرحيم ميرغني- الشئون الالية الداخلية 
والميزانية ثم مأمون بحيري الشئون المالية الخارجية يساعده عبدالله عبد الوهاب ثم السيد 
الفيل مديراً للضرائب ثم عبد اهادي حمدتو للإنشاء والتعمير وخطب فيهم- كعادته- بأن 
هذه بلادهم ولابد هم أن يتولوا ویتحملوا المسئولية وإلا فإنهم ستحل عليهم لعنة الأجيال 
والتاريخ إذا فشلوا.أما مذكر بهم فسيحتفظ بها ولن ينشرها وقد كانوا في مستوى المسئولية 
إذ إن الأرصدة لم تصل إلى ۳۰ مليون جنيه إسترليني التي اعتبرها حداً أدنى يجعله لا يستغني 
عنهم جميعاً فحسب بل يلقى عليهم تعطيل الاستقلال- معذرة للتخريمة کما يقول أستاذنا 
عبد اللطيف البوني- مع انها طويلة شوية: وفي موضع آخر نرى كيف حملوا التكليف وأنقذوا 
البلاد بعد خطبة عصماء کا يقولون من حماد توفيق. 

عشنا في الإسكندرية في رفاهية نسبية إلى أن جاء الفصل الأخير من السنة الدراسية 
فقد توقفت كل سبل الاستلاف فالجميع يعلمون كل شيء عن كل طالب: البواب والبقال 
والمكوجي والجزار وخواجه (يني) وكل الذين تراهم في الكاريكاتير بالصحف المصرية وهم 
يحاص رون الموظف المسكين آول الشهر. وقد كان لنا زميل بالكلية ظهر لنا في السنة الدراسية 


النهائية إذ كان يمتحن من منزلهم ولكنه اضطر ليختلط بإخوانه السودانيين في آخر عام 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول 
خاصة وأن هناك تباشير استقلال للوطن وسوف يعود إليه لأن أهله من (عبري) وله أقارب 
في وادي حلفا (القديمة) وفي الخرطوم”؛ اسمه حسن فرح وله أخ يكبره اسمه إبراهيم يعمل 
(باشکاتب) في بلدية الإسكندرية ومعنا- من منازشم في نفس الكلية ولكن في قسم المحاسبة 
كعادة معظم الطلبة بمصر الذين يعتبرون (المحاسبة) الجسر الذي يعبرون عليه إلى الوظيفة في 
لش کات وني ديوان الضرائب والصالح الحكومية الأخرى. كلا الأخوين نجحا وعادا 
للسودان وتم استيعابب| في وزارة التجارة والصناعة والتموین. حسن فرح قدم لنا نصيحة 
ونحن في السنة النهائية أن وضعنا یتطلب منم (سياسة افقار الجميع) وهي استقبال الزملاء 
السودانیین في شقتنا لتناول الوجبات إذ إن هولاء (الضیوف) الذین ینتقلون من شقة إلى 
آخری یقضون على أكل الیوم والیوم التالي وني الوقت الذي تعتبر سلوکك معهم (کرم 
وضیافة) هو في الحقيقة (افقار) لك فأنت طالب. وإذا كنت في السنة النهائية فلابد من أن 
تنتظر ظهور نتيجة الامتحان لتعرف آمر مستقبلك في حين یکونون فيه قد سافروا للسودان 
في الإجازة وترکوك تواجه الوقف. كانت - ولاتزال- إيجارات الشقق الفروشة في 
الإسكندرية تختلف في شهور الشتاء أيام دراسة الطلبة سبتمبر - أكتوبر - نوفمبر- ديسمبر- 
يناير- فبراير- مارس- أبريل- مایو-منتصف يونيو تختلف عن الفترة من منتصف يونيو 
حتى نهاية سبتمبر حيث تتضاعف الإيجارات إلى خمسة وستة آمثاها حسب موقع الشقة 
وحجمها. وعندما انتهيت من الامتحان النهائي آنقذني وجود طالب بالكلية البحرية لفترة 
ثلاثة أسابيع حتى آواخر يونيو. سكن معي البخيت حسن بشير وجمعنا ما لدينا من 
(مدخرات) فدفعنا الإيجار (مقدماً) حتى لا نفاجأ بإخلاء- واشترينا مؤونة الفترة مقدماً 


أيضاً: علب ساردين- علبة طحينة كبيرة-علبة عسل أسود كبيرة- وقليلاً من السكر 





مركز محمد عمر بسير 





والشاي. كان الافطار من الطحينة والعسل وأحياناً علبة ساردين ندخر نصفها للعشاء وكل 
يومين أو ثلاثة نأكل وجبة فول مع قطعة جبنة بيضاء كنوع من الرفاهية الطازجة. كنا قنوعين 
ولم نتبرم إلى أن ظهرت النتيجة بالنسبة لي كنت أول الدفعة ولكني لم أخطر بالخبر السار الذي 
علمته من مساعد المسجل السوداني الأصل والذي أخبرني أن الاسم الذي سيعلن هو 
(عبدالله طایل) لأنه مصري ولقد كنا مع عبدالله طايل في علاقة طيبة طوال فترة الدراسة فهو 
صعيدي وودود. وقد نجح في الحياة العامة المصرية إلى أن وصل إلى منصب رئيس مجلس 
الإدارة والعضو المنتدب لبنك مصر - اكستيرير 1565165 7155 واعتقد أنه بنك مشترك بين 
مصر ورومانيا. 

ودعت الإسكندرية والبخيت حسن بشير الذي عاد إلى داخلية الكلية البحرية وفي 
طريقي إلى السودان وجدت أن البواخر التي تبحر بين الشلال ووادي حلفا والمزودة بكل 
التسهيلات الذاتية قد توقفت لانتهاء الموسم وتوجد باخرة صغيرة في الخدمة. كنا ثلاثة طلبة: 
واحد قبطي من الخرطوم بحري اسمه فانوس على ما أذكر وآخر قبطي من عطبرة اسمه 
يوحنا جرجس له جذور في مصر إذ إن أخته متزوجة من رجل أمن مصري وكان له قريب 
يتلقى العلاج في مستشفى عسكري فیا يبدو صادف أن أحيل إليه سيد قطب المفكر 
الأخواني- يقضي يوحنا الليل- وقد كان موسم الامتحانات يستذكر دروسه. ويبدو أنه وهو 
مجلس في البلكونة في إحدى الليالي أبدى تبرماً من مذاكرة مادة القانون التجاري ما لفت نظر 
جارهم- سيد قطب- ولا استفسره قام بشرح ما استشكل عليه غير منتبه إلى رجل الامن 
المكلف بحراسة سيد قطب. وفي الصباح وهو يغادر المستشفى إلى الكلية أستوقفه حرس 
الستشفی وقادوه إلى غرفة ثم سألوه بعد أن تلقى إفطاراً دسماً من الضرب واللكم والشتم 








المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
عن علاقته بالاخوان وسيد قطب. ولم يشفع له إنكاره ولا جواز سفره الذي كان يحمله باسم 
يوحنا جرجس. ثم رجح رجل الأمن الصري أنه لابد أن يكون شيوعياً ويعمل حلقة وصل 
مع الأخوان المسلمين إذ شاع أن التنظيمين- وكليها في عداء مع الثورة- ربا يدخلان في 
جبهة ضدها. زوج أخت يوحنا حضر للإطمئنان على المريض وأسرٌ إليه أحد الحراس أن 
صهره في قبضة الأمن. ولو لا تلك الزيارة- كما يروي يوحنا لأصبح في خبر كان كا غنى 
نجيب الريحاني. وبعد أن تسلمه زوج أخته عرف منه أن المتطوع الذي شرح له القانون 
التجاري هو المعتقل سيد قطب. 

ولولا أن الظرف كان أول الشهر ويحمل يوحنا جوازه لصرف حوالة بريدية متوقعة 
من السودان لما صدقه أحد. 

وقد نصحنا (الريس الذي يقود الباخرة) بأن نشتري زادنا من ميناء الشلال لأن 
الباخرة ليس بها مطعم وسمعنا النصيحة فاشترينا كالعادة الساردين والحبنة البيضاء والزيتون 
والطحنية والرغيف الشمسي الكبير من القمح الخالص والذي لا يجف خلال يوم أو يومي 
الرحلة إذ الباخرة ستسير ضد التيار- جنوبا- ىا إنها قد تتوقف لتسليم (البوستة) في قرية 
(عنيبة) في الطريق إلى حلفا وعندما تقاسمنا التكاليف تبقى عندي أكثر من جنيه مصري 
يكفي لشراء عشاء في محطة (أبوحمد) مکون كالعادة من كسرة وملاح ملوخية لم نطعمها منذ 
شهور. ثم تبقى منه ما يشكل مصروفاً عند وصولي الخرطوم. 

ونحن نتأهب لتناول الإفطار صباح اليوم التالي شعرنا بشخص عملاق كاد يقفل 
باب (القمرة) وبادرنا بالتحية وبالتعريف بنفسه: أنا عبد العزيز محمد داؤود ومعي برعي 
محمد دفع الله وقد فوجثنا أن الباخرة ليس بها أكل لكن (الريس) دلانا عليكم. فطبعاً- رحبنا 








مركز محمد عمر بشير 
با وجلس عبد العزيز بالقرب من (كرتونة الزاد) وجعل يخرج محتوياتها واحدة وراء 
الأخرى ويمزج (الونسة) بنكتة إلى أن انتهينا معه من كل (الزوادة) ولا رأى دهشتنا- 
وحسرة خفية- بشرنا بأنه علم من (الريس) أنه بحلول موعد الغداء سوف نصل إل (عنيبة) 
وفيها بقال شهير اسمه (عياد) لديه كل ما نحتاج إليه با في ذلك (الطفية) و(الطفية) نوع 
ردئ من (النبیذ) أشبه بها يعرف لدى الذين يحتسون (الریسة) باسم (المشك) الحثالة ولكنها 
أي الطفية لديها نكهة النبيذ وسواده الشديد وأثره الأشد في حالة الإكثار منها وقد تعهد 
عبدالعزيز ليس فقط بتعويضنا بل بإحياء ليلة ساهرة على سطح الباخرة ودعوة (الریس) 
وبعض البحارة. وقد أوفى الرجل با وعد وزاد وأبدع في تلك الأمسية. وامتد كرمه ليشملنا 
في وجبة غداء في بوفيه القطار ونحن نتجه من حلفا إلى أبوحمد ثم الخرطوم. وبعد حوالي 
عشرة أيام حضر لزيارة صديقه نائب مدير وزارة التجارة والتموين محمد المكاوي مصطفى 
فكانت المفاجأة لكلينا أن تقابلنا في مكتب نائب المدير الذي دخلته برسالة من رئيسي. وم يدع 
الفرصة تفوت دون أن يقدم لي دعوة عشاء وسهرة بصحبة نائب المدير وأنا الموظف الصغير. 
ولكن بشاشة النائب جعلتني ألبي الدعوة التي أمدت جسوراً من المودة مع کلیهیا. 

بوصول القطار إلى محطة الخرطوم في السادسة مساء- موعدها المحدد- وجدت في 
استقبالي بالمحطة عبد الرمن عمر عبدالله البرلاني والتجاني محمد أحمد الصحفي. فذهبنا إلى 
دار عبد الرحمن في ود نوباوي وفي الطريق آخبرته بأني أود أن يكون أول لقاء لي مع شخص 
هو السيد/ إبراهيم أحمد الذي كان مكلفاً بإلحاقي بمدرسة البوليس والإدارة ولم يستطع 
ملاحقتي لأكثر من أربع سنوات. عاد عبد الرحمن من جلسة الأربعاء في البرلمان وأخبرني أن 


السيد إبراهيم أحمد كان مسروراً للغاية بعودي سالاً وناجحاً من مصر وأنه سیقابلنی عصر 


۳۳۰ 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 
الخميس ۲۲ يوليو ۲ ۱۹۵م بداره بالخرطوم. وفي الموعد المحدد وجدناه جالساً في فناء الدار 
وأمامه مشروب مثلج وطاقم شاي بالحليب وبعض الكيك كا هي العادة في شراب شاي 
العصر في ذلك الزمن. قابلني ببشاشة واعتذرت له ع بدر مني فقبل اعتذاري ونصحني بألا 
أتقدم للخدمة في وزارة امالية والاقتصاد التي يعمل فيها وزيراً لأنها (مليانة) بالخريجين الجدد 
وتقل فيها فرص التدريب- وهو أمر هام- وطلب مني أن أتقدم لوزارة التجارة والصناعة 
والتموين التي تكاد تكون (فاضية) كما علمت منه أن السيد حماد توفيق- الوزیر- يبحث عن 
سكرتير جامعي كما كان في وزارة المالية والاقتصاد- التقط عبد الرحمن عمر الاشارة وی 
التاسعة صباحاً- وكان يوم الجمعة ۲۳ يوليو ۲ ۱۹۵م- كنا في مكتب الوزير الذي عرف عنه 





أنه يعمل حتى وقت صلاة الجمعة. ذکرت السيد حماد بمحاضرته التي ألقاها في جامعة 
الإسكندرية والإستقبال الذي وجده هو وزمرته في الحاضرة مما آثلج صدره. ثم ناولني 
ورقة وقلا وطلب مني أن أكتب طلباً باللغة الإنجليزية موجهاً إلى مدير الوزارة للخدمة في 
أي وظيفة تناسب مؤهلي في الاقتصاد والعلوم السياسية. قرأ الطلب بإمعان ثم ابتسم قائلا: 
انجليزيك كويس.وبعد قليل دخل علينا شخص تحدث إليه قائلا: يا إبراهيم الحمد لله 
وجدت سكرتير جامعي فأرجو العمل على إنباء إجراءات تعيينه. تبعت إبراهيم عثمان 
إسحق مدير الوزارة- كطلبه إلى مكتبه وسألني بضعة أسئلة بعضها باللغة العربية وبعضها 
باللغة الإنجليزية- ثم سألني سؤال: إنت عندك معرفة بالسيد حماد- نفيت له ذلك وذكرت 
له ببراءة القصة من شاي العصر بمنزل السيد إبراهيم أحمد حتى دخولي مكتبه فابتسم- وهو 
أمر نادر عنده فيا علمت وتعلمت من بعد- وقال لي أن السيد هماد شخص صعب وعصبي 
ویثور لأصغر الأخطاء ولكنه ذو قلب طيب سرعان ما يبدأ ويعود إلى طبيعته الودودة وأن 


مركز محمد عمر بشير 
علي أن أتحمله إلى أن أتعود عليه. ثم طلب مني الجلوس في المكتب سكرتيرا للوزير منذ الآن 
لحين خروج السيد الوزير للصلاة ثم الحضور صباح الغد لكي تتسلم المكتب رسمياً من 
القائم بأعمال السكرتارية. كانت السرعة في اتخاذ القرار من صفات إبراهيم عثان إسحق 
ولكنه في حالتي ما كان له أن یتخطی قوانين الخدمة المدنية فيقوم بتعييني دون إعلان ومعاينة 








ودون وجود وظيفة خالية ونحن في منتصف السنة المالية (شهر يوليو) الا أنه كان يعتمد على 
قرار مجلس الوزراء أن لكل وزير الحق في اختيار (سكرتير) من داخل أو خارج الخدمة العامة 
ويحدد له مرتب حسب مؤهلاته وتكون خدمته مرتبطة بوجود الوزير في المنصب فإذا استقال 
أو أقيل تبعه السكرتير الا إذا وجد مدير أو وكيل الوزارة في السكرتير ما يجعله يستوعبه في 
وظفية خالية بوزارته بعد استئذان ديوان شئون الخدمة بوزارة المالية والاقتصاد- أو إذا طلب 
من الديوان خلق وظيفة جديدة ووافق الديوان. 

ليعذرني القارئ إذ إنني - لقلة أو قل انعدام- خبرة في الكتابة تنقلت به من مرحلة 
الطلبة إلى دهاليز بعض العمل السياسي ثم حياة سیاسی ووزير ثم عودة إلى الدخول إلى 
الخدمة المدنية في تسلسل سرحت فيه دون ام. 








الشب< کي نعم منصور ۸9-۱٩ ۲ 5١‏ ام( 
ناظر عموم حمر (۱۹۸۹-۱۹۷۹م) 
: ظ 





عبد القادر منعم منصور (0٠5154١م)‏ 


أمير آمراء عموم السودان 


EY 











تحصحد ۱ لجر 
بره 
۵ 
مد 
لسبرة مذکرا 
- 
إبرا 
نين" 
منعم 
مبصور 
سإ 
کر 
۱ 
ب 
ول 


ا 





۳۳۵ 


۳۳۹ 


+ 





ب 
سر 





المسيرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجزء الأول 





عبد الله زكريا إدريس 


(عبد الله زكريا) 


۱۷ 





مركز محمد عمر بسير 











عبد الله حيدوب 


أمين عام تجمع الدفعة (۱۹۹۱-۱۹۶۸م) 





السبرة مذكرات إبراهيم منعم منصور - الجرء الأول سس 





الصف الأمامي من اليمين للشیال 

محمد عثان أبو زيد/ الدرديري إبراهيم/ أحمد علي الطيب/ أحمد علي بقادي 
الضف الوسط 

مصباح مكي/ إبراهيم منصور/ د. قدال / أبو سن/ عبد الله زكريا 

الصف الخلفي 

بدر الدين إبراهيم/ لطفي/ معاوية فريجون 





مركز محمد عمر بسير 


رقم الإيداع (۲۳/ ۲۰۱۷)